مقصِد السلام في شريعة الإسلام
إعداد د. أحمد الريسوني
أطروحة هذا البحث هي بيان أن من مقاصد الإسلام وشريعته: إخمادَ الحروب ونشرَ السلام والوئام بين الناس، أفرادا وجماعات.
ومعلوم أن بعضا من علماء المسلمين، ومن الدارسين الغربيين، ناهيك عن بعض شباننا المتحمسين، لا يقبلمون هذا القول، بل منهم من يعتقدون عكسه تماما، ويرون أن من مقاصد الإسلام ومبادئه: خوض حرب دائمة “ضد الكفار”. وبعضهم – من الباحثين الغربيين، ومن أصحابنا أيضا – يرون أن الإسلام جاء بالسيف، وأنه انتشر وانتصر واتسعت رقعته بفضل الغزوات والفتوحات الحربية. ولذلك يرى بعض مشايخنا ودعاتنا أنه لا يجوز تجريد الإسلام من هذا “الحق”، ويعتبرون أن هذا المنزع ليس سوى تعبيرٍ عن التخاذل والانهزامية…
ومعنى هذا أن القول بكون السلام بين الأمم والشعوب مقصدا شرعيا، تحفه تحفظات واعتراضات، وتقف دونه شبهات وإشكالات.
فلهذا لا بد أولاً – وقبل الوصول إلى تقرير هذا المقصد السلمي وبيان أدلته – من الوقوف عند تلك الاعتراضات والإشكالات وبيان حقيقتها.
وبناء عليه، سيتشكل هذا البحث من ثلاثة مباحث هي:
- السياق التاريخي،
- السياج التشريعي،
- مقصد السلام وأدلته في الإسلام.
المبحث الأول: السياق التاريخي
حين بُعث رسولُ الله محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، مكث هو وأصحابه أزيد من أحد عشر عاما يباشرون دعوتهم السلمية، بصبر وصفح واحتساب، سواء بمكة أو بالمدينة أو بغيرهما. ولم يدخلوا طيلة هذه المدة في أي حرب، لا دفاعية ولا هجومية، مع أنهم كانوا باستمرار هدفا لكل ألوان البغي والعدوان والاضطهاد والفتنة، لا لشيئ {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّه} [الحج: 40].
على مدى هذه السنين الطويلة ظل المسلمون مع نبيهم يواجهون العدوان بالإحسان، {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَة} [الرعد: 22].
وحتى حينما أكرهوا على خوض معاركهم الحربية الأولى ضد أعدائهم المعتدين عليهم – كما في بدر، وأُحُد، والخندق، وغيرها – فإنما كانوا يخوضون معاركَ دفاعيةً اضطرارية مفروضةً عليهم بشكل لا مفر منه. فقد كانت تلك المعارك بالنسبة للمسلمين تدور حول “البقاء أو الفناء”. ومجرد وقوعها على مشارف المدينة المنورة هو أبلغ دليل يكشف طبيعتها، ويكشف الجهة المبادرة إليها. وأما بقية معارك المسلمين، في السنين الأخيرة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تحدْ عن هذا الأساس، بالرغم من التغيرات التنفيذية “التكتيكية”، التي تقتضيها عادةً حالة الحرب ومتطلباتُـها الميدانية.
وتفاصيل هذه الخلاصة مسجلة وموثقة في القرآن الكريم، وفي كتب السيرة والسنة والتاريخ… وفيما يلي لمحات من الوقائع التفصيلية لهذه الخلاصة.
جاء في (جوامع السيرة) لابن حزم: “ثم أَعلن (أي جهَر) رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى الله عز وجل، وجاهرته قريش بالعداوة والأذى، إلا أن أبا طالبٍ عمَّه كان حدبا عليه، مانعا له، وهو باق على دين قومه”[1].
ولذلك وُجه أكثر الضغط والأذى إلى الذين آمنوا وأسلموا، وخاصة الضعفاء منهم، فراح المشركون “يعذبون من لا منَعة عنده، ويؤذون من لا يقدرون على عذابه، والإسلام على هذا يفشو فى الرجال والنساء. ولقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب أمرا عظيما. ورزقهم الله تعالى على ذلك من الصبر أمرا عظيما، لما ذخر الله عز وجل لهم فى الآخرة من الكرامة، فطعن الفاسق عدوُّ الله أبو جهل سميةَ أم عمار بن ياسر بحربة فى قبلها فقتلها، رضوان الله عليها.
وكان سادات بلال، من بنى جمح، يأخذونه ويبطحونه على الرمضاء فى حر جوامع مكة، يلقون على بطنه الصخرة العظيمة، ثم يأخذونه ويلبسونه فى ذلك الحر الشديد درع حديد، ويضعون فى عنقه حبلا، ويسلمونه إلى الصبيان يطوفون به، وهو في كل ذلك صابر محتسب، لا يبالي بما لقي في ذات الله تعالى، رضوان الله عليه”[2].
وقال ابن إسحاق يصف هذه المرحلة: “ثم إن قريشا تآمروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسوله بعمه أبي طالب”[3] .
هجرة وحصار..
لما طال الاضطهاد والعدوان على المسلمين، هاجر عدد منهم إلى أرض الحبشة، تاركين وراءهم بلدهم وأقاربهم وديارهم وأموالهم، طلبا للسلامة والأمان في دينهم وأنفسهم.. “عن أم سلمة رضي الله عنها زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : لما ضاقت علينا مكة وأوذيَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفُتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعة من قومه وعمِّه لا يصل إليه شيء مما يكره ما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه. فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا ونزلنا بخير دار إلى خير جار؛ أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلما”[4].
وأما من بقوا بمكة من المسلمين، فقد فرض عليهم مشركو قريش حصارا معيشيا قاسيا ومقاطعة اجتماعية تامة، لمدة تراوحت بين سنتين وثلاثِ سنين.
ولما تفكك هذا الحصار وانهار من غير أن يأتي بالنتيجة المرجوة منه، بدأ زعماء قريش يفكرون في تدابير أخرى يضعون بها حدا للدعوة المحمدية وتفشيها بينهم وبين غيرهم من القبائل العربية. فتداولوا الرأي ما بين اعتقاله، أو قتله، أو طرده بعيدا عنهم… وذلك ما حكاه القرآن الكريم في قوله تعالى، تذكيرا للنبي صلى الله عليه وسلم وامتنانا عليه، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
روى الإمام الطبري بسنده عن عطاء قال: “سمعتُ عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يُـثْبتوه أو يخرجوه، قال له أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: نعم! قال: فأخبره، قال: من أخبرك؟ قال: ربي! قال: نِـعْمَ الرب ربك، استوص به خيرًا! قال: “أنا أستوصي به، أو هو يستوصي بي؟!”[5] .
الهجرة إلى المدينة وما بعدها
بلغت التراكمات العدوانية المتصاعدة للمشركين ضد المسلمين أوجها بمحاولة قتل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. بعد ذلك جاءت الهجرة الكبرى؛ هجرة رسول الله وأصحابِه إلى المدينة المنورة.
وكان الغرض المباشر منها إيواء رسول الله وحمايته لكي يُـبلغ رسالته، وحماية أتباعه في دينهم. وكان رسول الله في هذه المرحلة قد بدأ يطلب – إضافة إلى الإيمان به وبرسالته – إيواءه ونُـصرتَه وحمايته، وكان يقول: (من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلّغ رسالة ربي وله الجنة؟)[6].
فمن هنا سمي الأنصار أنصارا، وعلى هذا الأساس كانوا قد توافدوا على النبي وبايعوه في العقبة، ولهذا الغرض كانت الهجرة إليهم في المدينة.
فعن جابر رضي الله قال: “… فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة. فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله نبايعك، قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومه لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة. قال: فقمنا إليه فبايعناه. وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم فقال: رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن إخراجه اليوم مفارقةُ العرب كافة، وقتلُ خياركم وأن تعضكم السيوف. فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبينة، فبينوا ذلك، فهو عذر لكم عند الله. قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدا ولا نُسلبها أبدا. قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة”[7].
وقد عبر الأنصار حينئذ عن استعدادهم وجاهزيتهم لمهاجمة قريش، ردا على اعتداءاتها. فمباشرة بعد البيعة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي بعثك بالحق لئن شئتَ لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أومَر بذلك”[8]، مما يعني مزيدا من الصبر والتحمل وطلب السلم.
تمت بيعة الأنصار إذاً، وتمت بعدها هجرة المهاجرين إليهم بالمدينة، واندمج الجميع في مجتمع واحد متكافل متآخ.
وبمجرد الاستقرار بالمدينة، بادر النبي صلى الله عليه وسلم بعقد مواثيق للسلم والتعايش والتكافل فيما بين المسلمين، المهاجرين والأنصار، وفيما بينهم وبين غيرهم من أهل المدينة، من المشركين ومن اليهود[9].
فهل وضع ذلك حدا لمحنة المسلمين ومعاناتهم مع المشركين واعتداءاتهم؟
الحقيقة أن موقف المشركين – قريش وغيرها – أصبح أكثر خطورة وأشد شراسة، بعد نجاح الهجرة وما جلبته من مكاسب للمسلمين ونبيهم صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام البيهقي… عن أُبَـيّ بنِ كعب، قال: “لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل؟ فنزلت: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ…}”[10].
وقد انتقل مشركو العرب في هذه المرحلة إلى طور جديد من الحرب ضد “محمد وأصحابه”، وهو طور التوسع في التحشيد والتحريض والتحالفات العسكرية، سواء على صعيد القبائل العربية، أو على صعيد القبائل اليهودية في المدينة المنورة وضواحيها، وذلك لأجل هدف واضح وحاسم؛ وهو استئصال الإسلام والمسلمين، فظهر بذلك ما يمكن تسميته “أول إسلاموفوبيا في التاريخ“، ولكنها إسلاموفوبيا مسلحة وعسكرية. لقد كانت الاعتداءات على المسلمين خلال العشر سنين المنصرمة ذاتَ طابع فردي أو اجتماعي. لكنها تحولت في المرحلة الجديدة إلى أعمال حربية شاملة.
ففي هذا الوقت، وليس قبله، أَذِنَ الله تعالى للمسلمين في استعمال حقهم في الدفاع عن أنفسهم، وذلك في قوله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40].
ومع هذا الإذن وفي ثناياه بدأ وضع السياج التشريعي الإسلامي للحرب والجهاد الحربي. وهو موضوع المبحث الثاني..
المبحث الثاني: السياج التشريعي
ما قبل الإذن بالقتال..
من المعلوم تواترا أن الإسلام لم يأذن للمسلمين في استعمال السيف للدفاع عن أنفسهم إلا بعد أن حـمَّلهم أقصى ما يمكن، وأقصى ما يستطيعونه، من الحِـلم والرفق والصبر والعفو، تجاه ما كان مسلطا عليهم من عدوان المشركين.
القتال المشروع معلَّلٌ ومقيَّد
القتال المشروع في الإسلام ورد مقرونا – في كافة مراحله – بعدد من التعليلات والحدود والقيود، يجب الوقوف عندها أولاً لتدبرها، ويجب الوقوف عندها ثانياً، بمعنى إعمالِـها وعدمِ تجاوزها.
وفيما يلي التعليلات والحدود القرآنية المتعلقة بالقتال المأذون به والمأمور به.
- الإذن الأول للمسلمين بالقتال، في قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}،
جاءمعلَّلا بعلتين أُولاهما عامة جامعة، والأخرى فرعية تابعة:
فالأُولى هي: أنهم ظُـلموا،
والثانية هي: أنهم أُخرجوا من ديارهم بغير حق. وهذا نوع من الظلم، بل هو متضمن لمضالم عديدة. فذِكْـرُه بعد ذكر الظلم يشبه عطف الخاص على العام.
ومعنى هذا أن مشروعية القتال جاءت لمواجهة الظلم بأشكاله المختلفة التي مارسها المشركون على المسلمين، وصبر عليها المسلمون سنين طويلة. ثم وصلت إلى حد إخراجهم من ديارهم؛ أولا بالهجرة إلى الحبشة، وثانيا بالهجرة إلى المدينة.
قال العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: “وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة أذى شديدا، فكان المسلمون يأتون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال، فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة، إذناً لهم بالتهيؤ للدفاع عن أنفسهم”[11].
- قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]،
فيه أمر للمسلمين بأن يقاتلوا الذين يقاتلونهم، وألا يعتدوا بمقاتلة من لم يقاتلوهم. بمعنى أن المسلمين يواجهون العدوان، ولا يمارسون العدوان.
فالقرآن الكريم يقرر أن مقاتلة من لم يبادرنا بالقتال اعتداء،
ويقرر أن الله لا يحب المعتدين.
وهذان أمران غير قابلين للنسخ ولا للتغيير، فلا يصح ولا يمكن أن يصبح العدوان مباحا أو مأمورا به. وما لا يحبه الله (وهو الاعتداء والمعتدون) لا يمكن أن يصبح محبوبا أو مطلوبا عنده تعالى.
- قوله تبارك وتعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 74/75].
فيه أيضا تعليل صريح للأمر بالقتال، بكونه لنصرة المستضعفين، وردعِ الظالمين.
- قوله سبحانه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 12، 13]،
فيه تحريض واستنهاض لمقاتلة قوم معينين موصوفين، لكونهم:
- نقضوا عهودهم مع المسلمين،
- وطعنوا في دينهم،
- وحاولوا إخراج الرسول، ثم اضطروه إلى الخروج فعلا (ومعه أصحابه)،
- وكانوا هم البادئين بالحرب، ظلما وعدوانا…
“قال أبو جعفر (أي الطبري): يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله، حاضًّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: (ألا تقاتلون)، أيها المؤمنون، هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم، وطعنوا في دينكم، وظاهروا عليكم أعداءكم، (وهموا بإخراج الرسول)، من بين أظهرهم فاخرجوه (وهم بدءوكم أول مرة) بالقتال، يعني فعْلَهم ذلك يوم بدر، وقيل: قتالهم حلفاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة”[12]
- معظم ما تقدم ذكره من علل وضوابط للقتال الشرعي، نجده – وغيرَه – منصوصا عليه، أو مشارا إليه، في هذه الآيات الجامعة:
{واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:190 – 194].
ففي هذه الآيات تأكيدٌ لسبقِ المشركين في عدوانهم على المسلمين؛ وأنهم أخرجوهم من ديارهم، وفتنوهم عن دينهم. وكل واحد من هذه الأفعال كافٍ لمشروعية الرد عليه وردعه، فكيف لو اجتمعت؟!
ومع ذلك، فالآيات تقرر وتكرر أن القتالَ وردَّ الاعتداءات، إنما يكون مِـثْلا بمثل.
- مبدأ الرد ومواجهة القتال بمثله وبما يكافئه، مؤكد كذلك في قوله عز وجل: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
فالقتال المأمور به هنا موجه ضد المشركين كافة، ردا على دخولهم كافةً في حرب المسلمين. فمتى وجد مشركون لم يقاتلوا المسلمين، فليسوا مشمولين بالقتال المأمور به في الآية.
إعمال النصوص كلها، بدل افتراض التعارض والنسخ بينها
من الآفات المنهجية التي يقع فيها بعض المفسرين وبعض الفقهاء: مسارعتهم إلى القول بالتعارض والتناسخ بين النصوص. وهي مسألة فيها بحث طويل، مفصل في مظانه المختصة، فلا أريد التطرق إليه، ولكني أشير إلى أن المسلك الذي أَتَّـبعه هو رفض القول بالنسخ، إلا إذا جاء ذلك بشكل صريح لا محيد عنه، ولا وجه فيه إلا النسخ. وهو ما قرره وكرره إمام المفسرين ابن جرير الطبري، كما في قوله: “النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخرَ، هو له نافٍ من كل وجوهه”[13]. وقوله: “لا يكون نسخًا إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه”[14].
قال: “لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم. والتحكم لا يعجِز عنه أحد”[15].
لذلك أقول: كل ما لم يثبت نسخه بشكل قطعي ثبوتا ودلالة، فهو مُـحْكَم غير منسوخ، والعمل به واجب ومستمر، ولا سيما ما تكرر وتأكد من المعاني والأحكام في آيات وسور عديدة.
وعلى هذا الأساس، فإن ما تقدم بيانه من مبادئ وتعليلات قرآنية في شأن القتال، يجب أن يظل مستصحَبا ساريَ المفعول، ليس لأحد أن يوقف العمل به، بدعوى النسخ أو المرحلية أو غيرهما. وفي ضوئه، وبتوافق معه، تفهم آيات الباب – وكذلك الأحاديث – التي وردت بغير تعليل ولا تقييد.
وبعبارة أصولية أخرى: فإن المطلق منها يُـحمل على المقيد[16]؛ فعِلَلُ القتال الشرعي وقيودُه، قد ذُكرت وتكررت وتأكدت في مواضع متعددة، فليس يلزم ذكرها كلما ذُكر القتال. بل لو لم تذكر إلا مرة واحدة لكان ذلك كافيا ومُطَّردا في سائر الآيات غير المعللة.
وبناء عليه، فحيثما جاء ذكر القتال أو الأمر به مطلقا بدون تعليل ولا تقييد، فهو محمول على علله المعلومة المقررة في عدة مواضع من الكتاب العزيز..
فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
معناه أن القتال كتب علينا من حيث المبدأ، لكن ممارسته واستعماله الفعلي إنما يكون بأسبابه وشروطه المعلومة، المذكورة في غير ما آية. ولو جاز لأحد أن يأخذ هذه الآية بمفردها، وبمعزل عن الأسباب والشروط المعلومة، لجاز له متى شاء أن يحمل سيفه ويقاتل، على أساس أن الله “كَـتَب عليه القتال”. وهذا عبث لا يخفى. فبقي أن القتال لم يكتب علينا لذاته، ولم يكتب علينا بلا سبب ولا قيد ولا شرط.
وكذلك قوله تبارك وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فهو محمول على ما تقرر واستقر من أسباب القتال وضوابطه، ومنها أنه موجه للمعتدين، وممنوع لغير المعتدين.
وبناء عليه، فلا قتال لأهل الكتاب ولا لغيرهم، إلا بالأسباب المعلومة. وتأتي الجزية تعبيرا عن هزيمة المعتدي وكفه لأذاه، ودخوله في السلم.
وعلى هذا النحو أيضا يحمل ويفهم قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)[17].
فإن “الناس” في هذا الحديث هم الناس المعَـيَّـنون المعلومون، الذين كانوا في حالة حرب مع المسلمين، من قريش وحلفائهم، بحسب السياق الذي تقدم بيانه. ففي هذه الحرب القائمة بالفعل مع أولئك المحارِبين المعتدين، أَخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه مأمور بالمضي في قتالهم والقضاء على قوتهم، ولن يوقفه عن ذلك سوى احتمال إعلانهم الدخول في الإسلام والعملَ بأركانه. فحينئذ يصبحون مسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
ويتعزز هذا التفسير للحديث، بل يتعين، بما جاء في قوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
فالموضوع واحد، والسياق التاريخي واحد، والأحكام المقررة هيَ هي.
الجهاد بين التقرير المبدئي والتقدير الفعلي
التقرير المبدئي لمشروعية القتال وعلله وشروطه، هو أمر تشريعي تولاه القرآن الكريم، كما تقدم. ولكن يبقى بعد ذلك أن يقع التقدير العملي التنفيذي للحرب وعدمها، في كل حالة على حدة. وهذا التقدير يرجع إلى اختصاص ولاة الأمور، حكاما وعلماءَ وخبراءَ وقادةً عسكريين، وليس موكولا إلى أفراد المسلمين وعامتهم، بل هو كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم} [النساء: 83]. فهم الذين ينقحون المناط في الحالات المعينة، وهم الذين ينظرون في تحقق الشروط والقيود، وفي وجود موانع أو عدم وجودها. وهم الذين يقدرون هل بقيت فسحة لمزيد من الصبر والصفح تلافيا للحرب وأوزارها، أم أن الحرب أصبحت حتمية لا بديل عنها…
رأي ابن تيمية في القتال المشروع ومتى يجوز[18]:
رأي ابن تيمية فصَّله وحرره في كتابه (قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم)[19]، ومنه أنقل هذه الفقرات..
استدل رحمه الله بقاعدة{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} [البقرة: 256]، وقال: “هذا نص عام: أنَّا لا نكره أحدا على الدين، ولو كان الكافر يُقتل حتى يسلم، لكان هذا أعظمَ الإكراه على الدين”[20] .
وقال: “جمهور السلف والخلف على أنها ليست مخصوصة ولا منسوخة. بل يقولون: إنا لا نُكره أحدا على الإسلام، وإنما نقاتل من حاربنا، فإن أسلم عصم دمه وماله، ولو لم يكن من فعل القتال لم نقتله ولم نكرهه على الإسلام”[21] .
“فقوله {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن هذا علةُ الأمر بالقتال. ثم قال: {ولا تعْتَدُوا}، والعدوان مجاوزة الحد، فدل على أنقتال من لم يقاتل عدوان“.[22] .
“وكانت سيرته – صلى الله عليه وسلم -: أن كل من هادنه من الكفار لا يقاتله. وهذه كتب السير والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا. وهذا متواتر من سيرته. فهو لم يبدأ أحدا من الكفار بقتال، ولو كان الله أمره أن يقتل كل كافر لكان يبتدئهم بالقتل والقتال”[23].
“وأما النصارى فلم يقاتل أحدا منهم إلى هذه الغاية حتى أرسل رسله – بعد صلح الحديبية – إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فأرسل إلى قيصر وإلى كسرى والمقوقس والنجاشي وملوك العرب بالشرق والشام فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم من كبرائهم بمعان. فالنصارى حاربوا المسلمين أولا وقتلوا من أسلم منهم ظلما وبغيا، وإلا فرسُلُه أرسلهم يدعون الناس إلى الإسلام طوعا لا كرها، فلم يكره أحدا على الإسلام. فلما بدأه النصارى بقتل المسلمين أرسل سرية أمَّـر عليها زيدَ بن حارثة، ثم جعفرا، ثم ابن رواحة. وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى بمؤتة من أرض الشام”[24] .
“ولما نزلت آية الجزية كان فيها أن المحارِبين لا يعقد لهم عهد إلا بالصغار والجزية”[25] .
وخلاصة كلامه في قوله: “الأصل الذي عليه الجمهور: أنه إذا كان القتال لأجل الحراب، فكل من سالم ولم يحارِب لا يقاتَل، سواء كان كتابيا أو مشركا. الجمهور يقولون بهذا. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما”[26].
وقوله: “وقول الجمهور هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار” [27].
رأي ابن القيم
وهو كالعادة مؤيد ومؤكد لرأي شيخه ابن تيمية.
قال رحمه الله: “فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استجاب له ولخلفائه بعده أكثر أهل الأديان طوعا واختيارا، ولم يُكره أحدا قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه، امتثالا لأمر ربه سبحانه وتعالى حيث يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا أحدا على الدين. نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام…
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته، لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفيَ لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم).
فلما قدم المدينة صالح اليهودَ وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدءوه بالقتال قاتلهم، فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم. وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله ونقضِ عهده، فحينئذ غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يَغزونه قبل ذلك، كما قصدوه يوم الخندق، ويوم بدر أيضا هم جاءوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا”[28].
المبحث الثالث: مقصد السلام وأدلته في الإسلام
في المبحث الأول رأينا مدى حرص الرسول الكريم على السلام والوئام ونشر قيم الرفق والعفو، والتسامح والتصالح، وأنه استمات في نهجه السلمي هذا زمنا طويلا، وتجرع لأجله هو وأصحابه كل أشكال الظلم والعدوان والأذى، وبذلوا في ذلك كل ما يمكن من الصبر والحلم والتأني. ولم يرفعوا سيف الدفاع إلا بعد أن أصبحوا في مفرق طريقين لا ثالث لهما: طريق البقاء، وطريق الفناء. ونتذكر هنا معركة بدر الكبرى، حين جاءت قريش بألف مقاتل لغزو المسلمين واستئصال شأفتهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أثناء المعركة يدعو ربه قائلا: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»[29].
ورأينا في المبحث الثاني أن الإسلام حين شرع للمسلمين القتال لصد العدوان والدفاع عن أنفسهم ودينهم، وضع لذلك حدودا وقيودا، حتى لا يتحول دفع العدوان إلى عدوان.
فهذا وذاك يدلان على كون الإسلام متشوفا للسلم حريصا على الأمن إلى أقصى حد ممكن، وأنه يعتبر “السلم قاعدة، والحرب ضرورة“، حسب عبارة سيد قطب رحمه الله[30].
ولكن قصد الإسلام وسعيه إلى تحقيق السلم والأمن بين الناس لا ينحصر فيما تقدم، بل جاءت به آيات أخرى صريحة، وأحاديث وتطبيقات نبوية صحيحة، أَعرضُ ما تيسر منها في هذا المبحث.
- قواعد قرآنية في تأسيس السلم وتأصيله
قال الله عز جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين} [البقرة: 208].
في الآية نداء وأمر للمؤمنين بأن يدخلوا جميعا في السلم. فالسلم في الآية مطلب كلي شامل، يوجه اللهُ تعالى كافةَ المؤمنين للإقبال عليه والدخول تحت ظله. فما هو هذا السلم المأمور به في الآية؟
قال الفخر الرازي: “أصل هذه الكلمة من الانقياد، قال الله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت) [البقرة: 131]، والإسلام إنما سمي إسلاما لهذا المعنى، وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب، وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى، لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه، قال أبو عبيدة: وفيه لغات ثلاث: السِّلم، والسَّلم، والسَّلَم”.
وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن الدخول في السلم هنا معناه الدخول في الإسلام وشرائعه. وفي هذا تكلف وبُعد؛
فهو أولا: عدول عن ظاهر اللغة، فرغم أن السلم والإسلام يرجعان إلى معنى مشترك هو أصل الكلمة، فإن لكل منهما معناه الخاص ودلالته الخاصة. ولو ذهبنا نخلط بين معاني الألفاظ ونهدر ما بينها من فروق، لفقدنا عمدتنا الأولى في فهم خطاب الشرع، وهي الدلالات اللغوية.
وثانيا: القرآن الكريم استعمل لفظ “الإسلام”، وعبر به عن الرسالة المحمدية، فهو اسمها الاصطلاحي الشرعي. وكل لفظ آخر، لا بد أن يكون له دلالة خاصة مختلفة، أو أضيق، أو أوسع. فلا يستقيم – لا لغة ولا شرعا – جعل “السلم” مرادفا لـ”الإسلام”. ولذلك قال الرازي: “في الآية إشكال[31]، وهو أن كثيرا من المفسرين حملوا السلم على الإسلام، فيصير تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام، والإيمان هو الإسلام، ومعلوم أن ذلك غير جائز، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون وجوها في تأويل هذه الآية…”[32] .
وثالثا: من بين التأويلات والتكلفات التي تُذكر – بعد تفسيرهم الدخول في السلم بأنه الدخول في الإسلام – قولهم بأن النداء في مطلع الآية (يا أيها الذين آمنوا)، مراد به أهل الكتاب، أو إلى المنافقون.. مع أن عبارة (يا أيها الذين آمنوا) معهودة معلومة المعنى في القرآن الكريم، وقد وردت فيه نحو مائة مرة، لا تعني سوى المسلمين.
فبقي أن المعنى الواضح المستقيم، المغني عن التأويلات المتعبة، هو أن الآية تحثُّ المسلمين على الدخول في المسالمة والمهادنة والوفاق، ما أمكن، وإيثارِه على نهج الصراعات والحروب.
قال الإمام ابن عاشور: “فكون السلم من أسماء الصلح لا خلاف فيه بين أئمة اللغة، فهو مراد من الآية لا محالة. وكونه يطلق على الإسلام – إذا صح ذلك – جاز أي يكون مرادا أيضا، ويكون من استعمال المشترك في معنييه، فعلى أن يكون المراد بالسلم المسالمة كما يقتضيه خطابهم بـ(يا أيها الذين آمنوا) الذي هو كاللقب للمسلمين ،كان المعنى: أمرهم بالدخول في المسالمة دون القتال، وكما تقتضيه صيغة الأمر في (ادخلوا) من أن حقيقتها طلب تحصيل فعل لم يكن حاصلا، أو كان مفَـرَّطا في بعضه”[33].
وهذا الأصل العام يبقى مطلوبا ومطردا حتى في حال قيام الحرب والعداوة، وهو ما جاء الحث عليه في عدة آيات، كما في قوله عز وجل: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]. فالسلم هنا – بدون خلاف – هي ما يقابل الحرب، أي التصالح والعيش بأمان متبادل. فهو غرض مقصود مأمور به شرعا، وفاقا للآية السابقة.
وعلى هذا النهج أيضا يأتي قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90].
وقوله أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94].
وفي جميع الأحوال، فإن قاعدة الشرع هي: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7].
- مقصد السلم في السيرة النبوية
لقد رأينا في المبحث الأول ذلك الصبرَ الطويل الذي استمر عليه رسول الله وصحابته وهم يتعرضون لكل ما يمكن من ألوان الظلم والعدوان والفتنة في دينهم. وكان الصحابة مرارا يهمون بالردّ والدفاع عن أنفسهم، ولكنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم…
إضافة إلى ذلك، أعرض الآن لموقفين آخرين من السعي النبوي إلى تحقيق السلام وتثبيته بالعهود والمواثيق. الأول فيما بين أهل المدينة المنورة، والثاني هو ما يعرف بصلح الحديبية[34].
- وثيقة المدينة
مباشرة بعد هجرة رسول الله وصحابته إلى المدينة المنورة بادر عليه السلام إلى وضع نظام توافقي للتعايش والتكافل، وتحديد الحقوق والواجبات، والمسؤوليات المدنية والجنائية بين سكانها. وسكان المدينة يومئذ هم: المسلمون (أنصاراً ومهاجرين)، والمشركون، واليهود. ويعرف هذا النظام باسم (الوثيقة) أو (وثيقة المدينة) أو (صحيفة المدينة)، ويصفها بعض المعاصرين بالدستور الإسلامي الأول.
“قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهودَ وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليه…”[35] .
وهذا التدبير النبوي – في جملته وأهم بنوده – تتفق عليه روايات المحدِّثين وكُـتَّابِ السيرة النبوية. وهو القدر الذي يهمنا ويتعلق به موضوعنا ويثبت به مقصودنا في هذا البحث[36]. وقد كان عملا رائدا في تاريخ التعايش السلمي المنظم، لولا أن يهود المدينة لم يلزموا به، واختاروا التحالف مع قريش والقتال إلى جانبها…
- صلح الحديبية
صلح الحديبية شهير جدا، متواتر في العديد من وقائعه وملابساته، بما فيها بنود الصلح الذي عقده رسول الله مع قريش… وقد خلد القرآن الكريم جوانب أساسية من مقدماته ونتائجه، في سورة الفتح. ولذلك لا أرى أن أسرد تفاصيل ما جرى، وأكتفي هنا بعبارة جوهرية معبرة تعبيرا صريحا وبليغا عن المقصد السلمي للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي قوله أثناء التفاوض والتجاذب مع قريش: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)[37]. وكذلك كان؛ فقد ساير النبيُّ قريشا ولانَ لهم إلى أقصى الحدود الممكنة، حتى تحقق بذلك الصلح واستتب السلام.
وكان من بركات ذلك السلام أن دعوة الإسلام وحركة انتشاره في القبائل العربية عرفت من التوسع في غضون سنتين أكثر مما عرفته طيلة عمرها السابق، أي طيلة عشرين عاما خلت قبل الصلح.. “قال الزهري: فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمِنَ الناس، كَـلّمَ بعضُهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلَّم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثلُ من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر”[38].
وقال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: “قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة، التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلها ودخول الناس في دين الله أفواجا. وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي، ولا يَـحُلُّون بمن يُعْلمهم بها مفصلة. فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وحلُّوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة بجزئياتها، ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة، وحُسن سيرته وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك. فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام. فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش. فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي…”[39] .
- علال الفاسي ومقصد السلام العالمي
خصَصتُ العلامةَ علال الفاسي بهذه الفقرة، نظرا لكونه أكثر علماء الإسلام تصريحا وجزما بكون السلام العالمي مقصدا شرعيا واجبَ التحقيق على المسلمين، متى أمكن ذلك، وأن “مقصد الإسلام هو الوصول إلى اتفاق دولي على تحريم الحرب وإقرار السلام“[40].
فمن خلال تناوله لحقوق الإنسان في الإسلام، وضمن حديثه عن (حق الحياة)، بسط رأيه هذا، باعتبار أن الحروب هي أعظم خطر على حق الحياة، وأن تحقيق السلام العالمي الشامل هو أعظم حفظ لهذا الحق.
ومن أدلته على هذا التوجه وهذا القصد:
أولا: أن الإسلام أبطل مشروعية جميع الحروب الهجومية المعروفة آنذاك وإلى الآن:
فالحرب التي تكون لتفوق شعب على آخر ممنوعة.
والتي تكون للسيطرة وتوسيع مناطق الحكم والنفوذ ممنوعة.
والحرب التي تكون في سبيل إظهار القوة والتفوق ممنوعة.
وحروب الثارات والانتقام ممنوعة.
والتي تكون لاستعمار الشعوب واستغلال خيراتها ممنوعة.
وكل حرب هجومية كيفما كان نوعها على جماعة مسالمة ممنوعة.
والحرب التي تريد إكراه جماعة أو ملة على الخروج من دينها أو نظامها ممنوعة.
وإنما يبقى مباحا وبصفة مؤقتة، أي مدة الأمد الضروري لإقرار السلم، القتالُ لاستبعاد الفتنة في العقيدة، ومنعِ اضطهاد المؤمنين وإكراههم على الخروج من دينهم، فهؤلاء وحدهم الذين أذن الله لهم أن يقاتلوا بأنهم ظلموا، ووعدهم بالنصر، وفرض عليهم الاستعداد إرهابا وردعا للذين يريدون اضطهادهم، وحرصا على أن يكون ذلك الإرهاب مانعا أعداءَهم من الاعتداء عليهم.
وثانيا: أن هذه الحرب المشروعة نفسها تصبح ممنوعة بمقتضى نظرة الإسلام ومقاصده في ثلاث حالات:
– الحالة الأولى، فيما إذا استنفدت أغراضها ولم يبق لها موجب، بمعنى أن الخطر وقع دفعه، والاطمئنان على العقيدة أصبح أمرا لا شك فيه، فإنه لا يبقى للمسلمين حق أن يواصلوا القتال للتوسع أو الانتقام أو لمجرد الاستعلاء والانتشاء بتوالي النصر، وذلك ما يدل عليه قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء بأن الجهاد ضرورة تقدر بقدرها، فهي بمثابة أكل الميتة الذي يباح لمن اضطر إليه، لا يجوز له أن يتجاوز به قدر الشبع والاطمئنان على النفس من الموت.
– الحالة الثانية، فيما إذا أظهر المحاربون لنا رغبة في السلم وعلمنا أنهم مخلصون في طلبهم ذلك، وليس هو منهم مجرد خدعة حربية، فإنه يجب علينا أن نستجيب لهم ونمسك عن القتال، لأنه لا يكون له مبرر شرعي، وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61].
– أما الحالة الثالثة، فهي إذا ما قامت في العالم دعوة لتحريم الحرب جملة، واتفقت الدول كلها بمقتضى أوفاق عامة مضمونة النفاذ، فإنه يجب علينا أن نكون في مقدمة المستجيبين لهذه الدعوة، ويحرم علينا شرعا الدخول في حرب كيفما كان نوعها، بشرط أن تكون هذه السلطة الدولية قادرة على حماية الطوائف والأديان والجماعات بنفوذها من كل اضطهاد وإكراه.
ويستدل على مشروعية هذه الحالة من عدة وجوه:
الأول: عموم الدعوة الإسلامية للسلام، وهو ما تدل عليه الآية الكريمة: {يَاأَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، وهي صريحة في أن مقصد الإسلام هو الوصول إلى هذا الاتفاق الدولي العام على تحريم الحروب وإقرار السلام.
الثاني: توجيه الآية التي سبق ذكرها من قبل وهي: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]. فهي ترشد إلى ضرورة الاستجابة للسلام بمجرد ظهور الجنوح، أي الرغبة والميل عند الأعداء، فأحرى إذا وقع الاتفاق على ذلك بين مختلف الدول.
الثالث: أن هذا مما يدخل في عموم قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، والاتحاد في الإصلاح العام بين الناس أوجب من الأمر به، لا سيما إذا كان الاستعداد عاما في المجتمعات الإنسانية كلها.
الرابع: ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد مع عمومته في الجاهلية حلفا قال عنه: «ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت له في الإسلام لأجبت»، وكانت غاية هذا الحلف هي إنهاء الحروب بين القبائل، والاتفاق على طريقة للصلح عند الضرورة، وذلك ما يدل على إعجابه عليه السلام بهذا العمل واستعداده للاستجابة لكل دعوة تنادى بتعايش سلمى بين الناس، لأن في ذلك ضمانا للأمن والهناء.
وإذ كان الإسلام قد أباح القتال في حالة واحدة هي التي ترمي إلى دفع الفتنة عن العقيدة، فتلك ضرورة لا غنى عنها، لأن الدعوة نفسها لا يمكن أن تعيش إذا لم تتخذ وسيلة لحماية المؤمنين بها، الذين ينتظر منهم أن يكونوا أنصارها وحوارييها والعاملين عليها. فلو تُرك المسلمون وغيرهم يُفتنون عن دينهم بدعوى الرغبة في السلام لانقرضت فكرة السلام نفسها، ولأصبح من الحق لكل فئة أن تفتن الأخرى عن دينها، كما كان العمل في الدنيا قبل نداء الإسلام العام. وذلك ما نبه عليه القرآن حين قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، أي قاتلوا المعتدين على المؤمنين حتى لا يبقى هناك من يتجرأ أن يفتن أحدا عن دينه بالإكراه والضغط.
وإذن فقد دعا الإسلام للسلام، وحرم الحروب مطلقا إلا لضرورة حماية العقيدة الدينية، ومتى أصبحت الفتنة غير موجودة، وذلك بضمان عام لها، فإنه لا يبقى للحرب حق في الوجود، لأن الحياة الإنسانية هي الأولى بالبقاء، والأمن الإنساني هو أساس مقاصد الإسلام لتمكين المكلفين من أداء واجبهم على هذه الأرض.[41] .
- موقع السلام في منظومة المقاصد الشرعية
- الدخول في السلم من كليات الشريعة
قضية الحرب والسلام هي إحدى القضايا الكلية العامة، سواء بوجهها السلمي أو بوجهها الحربي ؛ فالحروب، بأجوائها ومتطلباتها واستعداداتها القبلية ومعاركها الفعلية، لها آثار وانعكاسات كلية على جميع الأصعدة، وكذلك هي حالات الصلح والسلم والأمن والاستقرار. فأي الحالتين اعتُمدت وسادت، كان لها نتائج كلية شاملة، تصيب كل جوانب الحياة البشرية وما يتصل بها.
وهذا البُعد الكلي لقضية السلم والحرب قد تضمنه ونبه عليه قوله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]. فالدخول في السلم مطلوب من كافة الناس ولكافة الناس وفي كافة المجالات والأحوال. بمعنى أن الدخول في السلام ينبغي أن يكون هو المسلك العام في حياة الناس كافة: السلم مع الفطرة، والسلم بين الأقارب، والسلم في الحياة الزوجية، والسلم بين الجيران… وهكذا، إلى أن نصل إلى السلام في علاقات الأمم والدول، فنجد فيها مقصدا كليا يقوم على السلام، وهو:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
- الحرب في ميزان المصالح والمفاسد
لا يمكن أن يختلف أي اثنين من بني آدم، في أن الحرب في أصلها وفي مجملها وبال وشر، بل هي مَـجمع الشرور ومنبع الأوزار. وبما أن الحرب – كالسلم – مسألة كلية، فإن الأمر القرآني للمؤمنين بالدخول في السلم كافة هو نهي لهم عن الدخول في الحرب كافة أيضا؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، كما تقرر في علم أصول الفقه. وعليه، فالواجب هو: أن ندخل كلنا في السلم ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، وأن نهرب كلنا من القتال ما وجدنا إلى ذلك سبيلا.
وإذا كانت أعظم الكليات المقاصدية التي اتفقت عليها كلمة العلماء، هي أن الشريعة الإسلامية جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد، بل إن الرسل كلَّهم إنما بعثوا بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، فإن الحرب هي ضد ذلك تماما. فهي السبب الأعظم لجلب المفاسد وتكثيرها وهدم المصالح وتعطيلها. وهذا ما يجعل السلام من أعظم المقاصد، ويجعل الحرب من أعظم المفاسد. وقد تقدم قريبا عن علال الفاسي، أنه اعتبر الحروب هي الخطر الأكبر على حفظ النفوس، وبالمقابل يكون السلام هو الحصن الأحصن لحفظها.
وخطر الحروب على الحياة وعلى حفظ النفوس، لا ينحصر في القتل وإزهاق الأرواح في القتال، بل أيضا فيما تجلبه من هلاك الأموال والأرزاق، وتعطيل للكسب والاسترزاق، ومن تسبب في الأمراض والمجاعات.
ومما يجب الانتباه إليه وتدبره، أن الآية الكريمة التي تضمنت الأمر بالدخول في السلم كافةً، قد جاءت مسبوقة ومتصلة بالتحذير والوعيد الشديد لمن يهلك الحرث والنسل وينشر الفساد في الأرض، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً…} [البقرة: 204 – 208].
فإذا وقع كل هذا النكير والوعيد في حق الشخص الواحد إذا اتسم بهذا السلوك المفسد المؤذي، فكيف بالحرب، وهي المحرقة الكبرى للحرث والنسل والأرواح والأموال؟! وكيف وقد أصبح العالم اليوم يتحدث عن “أسلحة الدمار الشامل وأسلحة الفناء الشامل“، التي تملكها صغار الدول فضلا عن كبارها؟!
فمن هنا، لا يبقى مجال لأدنى تردد في اعتبار السلم ضرورة بشرية قصوى، ومصلحة حيوية كبرى.
وهنا أيضا نستحضر قول الله تبارك وتعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 – 4].
فقد جعل سبحانه الأمن صنوا للطعام، مساويا له في الأهمية والضرورة. فالسلام والأمان من ضرورات الحياة، كالطعام والشراب.
خاتمة
وفيها التنبيه على ثلاثة أمور لا بد من مراعاتها:
أولها: أننا حين نتحدث عن كون الإسلام قاصدا إلى إطفاء الحروب وإقامة السلام بين الناس، فإن السلام العالمي التام قد يتحقق ويسود في فترة ما من فترات التاريخ، وقد لا يتحقق أبدا، والله أعلم. وقد يتحقق ذلك بشكل تقريبي، بحيث يغلب السلم وتتقلص دائرة الحروب، حتى لا تقع إلا في فلتات عابرة، سرعان ما يتم إطفاؤها ومعالجة أسبابها، كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64].
وسواء كان هذا أو ذاك، أو لم يتأتَّ من وراء هذا المقصد وهذا المسعى إلا خفض الحروب وآفاتها، وتكثير السلم وضماناتها، وهو الأقرب، فإن مجرد الجنوح المتزايد إلى السلم، وتغليب منطق التفاهم والوفاق، سيكون ربحا كبيرا وخيرا عميما للبشرية. وهذه هي الحالة الأكثر واقعية وتوقعا، والأكثر مطابقة لقول علمائنا: “الرسل بعثت بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها“. بمعنى أن مقصد السلام التام حتى إن لم يصل بنا عمليا إلا إلى “تكثير السلم وتقليل الحرب“، فبها ونعمت.
وثانيها: أن السلام العالمي – وحتى السلام الثنائي – لا يمكن أن يحققه طرف واحد مهما تسامى وتسامح، وإنما يتحقق بالميل المتبادل والعزم المشترك والالتزام المتساوي. فكون المسلمين مسالمين ملتزمين بالعدل والإحسان، والبر والإقساط، ليس كافيا لتحقيق السلام واستدامته، بل لا بد من تحقق ذلك لدى الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى. ولذلك نجد آيات التصالح والمسالمة تستحضر الطرف المقابل، وتشترط رغبته واستعداده:
- {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَاِ} [الأنفال: 61].
- {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7].
- {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90].
وثالثها: أن السلام الحقيقي هو الذي يقوم على العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، كما يشير إليه قوله سبحانه {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات: 9].
أما السلام القائم على مجرد الغلبة والإكراه والاضطرار، فإنما هو حرب مؤجلة.
وقانا الله شر الحرب والعدوان، ورزقنا نعمة السلم والأمان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أحمد الريسوني، الرباط في 2شوال 1439هـ/ 16يونيه 2018م
__________________________________________________________________________________________
قائمة المصادر والمراجع
[1] جوامع السيرة النبوية، لا بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، ص 41 .
[2] – جوامع السيرة، ص 436- 437.
[3] المغازي والسير (سيرة ابن إسحاق) ص148 .
[4] – سنن البيهقي الكبرى 9/9.
[5] – تفسير الطبري (= جامع البيان في تأويل القرآن).
[6] – مسند أحمد بن حنبل3/ 322. تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.
[7] – المرجع السابق نفسه.
[8] – مسند أحمد بن حنبل 3/ 460 .
[9] – انظر: صحيح السيرة النبوية، لإبراهيم العلي .
[10] – دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر البيهقي 3/6.
[11]– التحرير والتنوير 17/ 273 .
[12] – تفسير الطبري (= جامع البيان في تأويل القرآن) 14/ 158.
[13] – تفسير الطبري (= جامع البيان في تأويل القرآن) 6/ 118 .
[14] – جامع البيان في تأويل القرآن10/ 333 .
[15] – جامع البيان 3/ 563 .
[16] – حمل المطلق على المقيد له حالات متفق عليها عند الأصوليين، وحالات مختلف فيها. والحالة المتفق فيها على الحمل هي حالة اتحاد السبب (الموضوع) واتحاد الحكم بين كل من المطلق والمقيد. وما نحن فيه منها. فالسبب (موضوع الآيات) واحد، وهو القتال. والحكم واحد، وهو الوجوب. فتعينَ حمل الوجوب المطلق على الوجوب المقيد…
[17]– الحديث متفق عليه.
[18] – من كتابه: (قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم).
[19] – بعض من لم يعجبهم رأي ابن تيمية المعبر عنه في هذا الكتاب، حاولوا التشكيك في صحة نسبته إليه. ولكن عددا من المحققين ومن المختصين في تراث ابن تيمية ومؤلفاته يجزمون بصحة الكتاب وما فيه من كلام ابن تيمية. ومنهم محقق الطبعة المذكورة آنفا. ومنهم العلامة عبد الله بن زيد آل محمود، في الجزء الثالث من (مجموعة رسائل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود).
ومما يؤكد قول ابن تيمية وصحةَ نسبته إليه، رأيُ تلميذه ابن القيم، الذي سيأتي ذكره بعد رأي ابن تيمية..
[20] – قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم، ص121.
[21]– نفسه، ص 123/124.
[22] – نفسه، ص91/92
[23] – نفسه، ص 134.
[24] ص135 – 137.
[25] – ص 158/159.
[26] – المرجع نفسه 178/179.
[27] – المرجع نفسه ص90 .
[28] – هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
[29] صحيح مسلم، باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.
[30] – السلام العالمي والإسلام، ص29 .
[31] – يقصد في تفسيرها على النحو المذكور.
[32] – مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير 5/ 352 .
[33] – التحرير والتنوير 2/ 276 .
[34] – وانظر مزيدا من الأدلة على التوجه الإسلامي السلمي، عند شيخنا العلامة يوسف القرضاوي، في الفصل الأول من الباب الرابع، من كتابه الجليل (فقه الجهاد)، المجلد الأول، ص 413 وما بعدها.
[35] – السيرة النبوية لعبد الملك ابن هشام 1/ 501.
[36] – أما تفاصيله ودراستها رواية ودراية وتمييزُ درجاتها من حيث الصحة والضعف، فيمكن الرجوع فيها إلى:
– كتاب الدكتور أكرم ضياء العمري (السِّيرة النبويَّة الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدّثين في نقد روايات السِّيرة النبويَّة) .
– وكتاب الشيخ إبراهيم العلي (صحيح السيرة النبوية).
[37] – صحيح البخاري، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط.
[38] – السيرة النبوية، من (البداية والنهاية) لابن كثير (3/ 324).
[39] – صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 140 .
[40] – مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص227.
[41] – مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص227 – 231.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)