مقدمة «ندوات الشيخ الغزالي»
بقلم د. يوسف القرضاوي
الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم المُجْتبى، محمدٍ وآله وصحبه مصابيح الهدى، ومن بهم اقتدى فاهتدى.
(أما بعد)
فقد طلب إليَّ ابننا الحبيب العالم البحَّاثة الشيخ مَجْد مكي نفع الله به: أن أكتب مقدِّمة لهذه الندوات التي عُنيَ بجمعها وترتيبها والتعليق عليها وتخريج أحاديثها، ولم يسعني ـ برغم مشاغلي وضيق وقتي ـ إلا أن أستجيب له، وأكتب هذه السطور، لعدة أسباب:
أولها: أن أخانا وابننا العزيز الشيخ مجد له عناية خاصَّة بآثار العلماء الكبار التي يُخشى أن تندثر بمرور الزمن، فيرى من الوفاء لهم، ومن الوفاء للعلم: أن تخرج هذه الكنوز العلمية إلى النور ، فيقرأها الناس، وينتفع بها.
ولذا عُني منذ سنين بندوات مجلة (لواء الإسلام) الإسلامية المصرية، التي كان يصدرها الرجل الثري الصالح: أحمد باشا حمزة، الذي كان له في الخير قدم راسخة، وكان يكتب فيها عدد من علماء الإسلام المعروفين، على رأسهم الشيخ: محمد الخضر الحسين.
وكان من سُنَّتها بعد أن اشتهرت: عقد ندوة علمية كل شهر، يشارك فيها عدد من العلماء والدعاة المعروفين، منهم الشيخ أبو زهرة، والشيخ خلَّاف، والشيخ الغزالي، والشيخ محمد البنا، والشيخ عبد الحليم البسيوني، والدكتور أحمد الشرباصي، وغيرهم، رحمهم الله تعالى.
وقد استمرت هذه الندوة ثلاثاً وعشرين سنة، منذ أول ندوة عُقدت ونُشرت في العدد العاشر من السنة السادسة (1372هـ -1953م) إلى آخر ندوة في العدد العاشر من السنة الثلاثين (1396هـ -1976م). والتي بلغ مجموعها 243 ندوة. عُني أخونا الكريم بجمع هذه الندوات وتصنيفها وتحقيقها وإخراجها للناس، وأعدَّ منها للنشر: الندوات القرآنية، والندوات الفقهية، وندوات وفتاوى شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى.
ثم أعدَّ ندوات شيخنا الشيخ محمد الغزالي، التي بلغت سبعاً وتسعين ندوة، من أول ندوة شارك فيها في العدد الثالث من السنة السابعة عشرة (رمضان 1382/ فبراير 1963) وانتهاءً بآخر ندوة حضرها في العدد السادس من السنة الثلاثين (محرم 1396/ فبراير1976) .
وثانيها: أن هذه الندوات تتعلق بشيخنا وشيخ دعاة الأمة في وقته، الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله تعالى، قلب الدعوة الخافق، ولسان الأمة الناطق، الذي شارك مشاركة فعَّالة في هذه الندوات.
والشيخ الغزالي لم يكن رجلاً هازلاً، ولا مُهرِّجاً، بل إذا تحدَّث في موضوع متَّصل بالإسلام ودعوته وثقافته وأمته، كان له إبداعه وتميُّزه، وأفكاره الخِصْبة وآراؤه النيِّرة الصادرة عن عقل منفتح، وأُفق واسع، وعلم راسخ، وقلب حي، وأسلوب رائع، وشجاعة أدبية، ورأي ناضج، وتجربة ثرية، في ميدان الدعوة والفكر والتربية، وهو من أئمة الإصلاح والتجديد الحقيقي، الذي يُمثِّل مدرسة متكاملة، لها معالمها وخصائصها. كما يبدو من هذه الندوات أنَّ الشيخ كان يتهيأ لها بالقراءة والاطلاع في موضوعها، إذ كان يُعلن عنها من قبل عقدها بمدة ليعدَّ المشاركون أنفسهم للحديث فيها بأصالة وجدارة.
وقد قرأ عليَّ الأستاذ مجد مكي نماذج متنوِّعة منها، فوجدتها تناولت وعالجت موضوعات متعدِّدة: في العقيدة وما يتعلق بها، وفي القرآن وعلومه وتفسيره، وفي السنَّة وثبوتها وحُجيتها، والحديث وعلومه، وفي السيرة النبوية والعبر منها، وفي الفقه وأصوله وتاريخه، وفي الدفاع عن الإسلام في مواجهة خصومه، وفي تراجم أعلام الإسلام، إضافة إلى عدد من الندوات الفكرية والدعوية المتعلقة بقضايا الأمة.
وأعتقد – بحكم معرفتي بالشيخ الغزالي- أنَّ لديه من الجديد والأصيل، ما يستحق أن يُجمع ويُنشر، ليتعلَّم منه الناس. وأشهد أني صحبت الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ نصف قرن أو يزيد فما استمعت إليه مرة إلا وجدت عنده جديداً. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فلا غرو أن أُرحِّب بهذا العمل العلمي من ابننا وأخينا مجد، لما أعلم من فائدته في تنوير أبناء الأمة في وقت غلب فيه الغثّ على السمين، وانتشرت الثقافة التي تُعنى بنشر الأباطيل والخرافات، كالذين يفتحون عيادات للعلاج بالقرآن، والذين يخرجون الجنَّ من بدن الإِنس، وغيرها من الدعاوى العريضة، التي تُجافي سنن الله في الكون والمجتمع.
وثالثها: أني عرفت الأعمال العلمية التي قام ويقوم بها أخونا مجد، فوجدته يخدمها خدمة بالغة، فيبذل طاقته، ويتعب ـ حقيقة ـ في إعطائها حقها، من فتاوى العلامة الزرقا، ومن مقالاته وبحوثه الفقهية التي جمعها، ومن ندوات أبي زهرة وفتاويه، ومن مقالات الشيخ طه الساكت التي شرح فيها مجموعة من الأحاديث النبوية، والتي أصدرها تحت عنوان: (من ذخائر السنة النبوية)، ومن تفسيره الموجز المركز: (المعين على تدبُّر الكتاب المبين)، إلى ندوات الشيخ الغزالي التي جمعها وقرأها قراءة صحيحة، ورتَّبها حسب الأبواب، ورقَّم آياتها، وخرَّج أحاديثها، وعلَّق على كثير من المباحث العلمية فيها، مؤيّداً أو مخالفاً، مما رأى أنها تحتاج إلى بيان أو تعقيب، مما اجتهد فيه شيخنا من قضايا علمية، تتعدَّد فيها الاجتهادات، ما بين مُضيِّق ومُوسِّع، مما يُدرك الباحث والمجتهد فيها أجرين أو أجراً واحداً، إذا كان أهلاً للاجتهاد.
وقد أكون في بعض ما عقَّب به ابننا الأستاذ مجد، غير موافق عليه كلياً أو جزئياً، ولكني من أنصار البحث والمناقشة، وفتح الأبواب للآراء المختلفة، حتى تنضج الفكرة، وتتضح الحقيقة، وقد قالوا: الحقيقة بنت البحث. وليس في العلم كبير، وكل أحد يُؤْخذ منه ويُردُّ عليه إلا المعصوم المؤيَّد بالوحي صلى الله عليه وسلم.
وللشيخ الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ آراء جريئة جهر بها، ولم يَخْشَ أحداً من الصَّدع بها، مثل آرائه أنه لا نسخ في القرآن الكريم، وهو ما يشاركه فيه عدد من علماء العصر، مثل الشيخ: محمد الخضري، والشيخ: خلاف، وأبو زهرة، رحمهم الله تعالى، وأكاد أشاركهم في هذا.
ومثل إنكاره عقيدة المهدي المنتظر، وأنا أكاد أشاركه أيضاً في هذا، فأرى أنَّ الأمر لا يستحق أن يكون عقيدة يجب الإيمان بها ضمن عناصر الإيمان المعروفة، بل يرجَّح من مجموع الأحاديث: أن الأمة سيظهر فيها في آخر الزمان حاكم عادل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ـ لعله من ذرية الحسن بن علي ـ يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً. وحين يظهر ويحقق هذا سيقول الناس: هذا هو المهدي الموعود.
أعتقد أنَّ القارئ المسلم المعاصر، سيجد في هذه الندوات الغزالية التي حققها وخدمها ابننا النابه النابغ الأستاذ الشيخ مَجْد مكي: مادة غزيرة، وثقافة منيرة، وتصحيحاً لكثير من المفاهيم، وإبداء لآراء لا يجوز أن تُطْمر وتُدْفَن، وإن كان منا من لا يوافق عليها. فإنما ينمو العلم بالمراجعة والمشاورة والمناقشة، والأخذ والرد.
ولا شك أن الفضل في الاستفادة من هذه الندوات، يرجع إلى هذا الجهاز العجيب (المسجِّل) الذي يحفظ لنا أقوال علمائنا، وإن رحلوا عن الدنيا، ثم تفريغ هذا المسجَّل على الورق، وتصحيحه ونشره على الناس. وهذا ما قامت به مجلة (لواء الإسلام) شكر الله لها، ولولا ما قامت به من جهد مقدور ومأجور، ما وجدنا أمامنا هذا التراث العلمي.
فجزى الله مجلة (لواء الإسلام) وصاحبها والقائمين عليها خيراً، ورحم الله الشيخ الغزالي وتقبَّله في العلماء الربَّانيين ، والدعاة الصَّادقين والأئمة العاملين، على ما قدّم لأمته ولدينه، وجزى الله ابننا العالم الباحث المدقِّق الصبور مجد مكي، على خدمته للعلم الإسلامي، وللفكر الإسلامي، وللدعوة الإسلامية، وللأمة الإسلامية. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(المصدر: موقع الشيخ يوسف القرضاوي)