مقالات مختارة

مقتل السفير الروسي جريمة شرعية وحماقة فكرية

بقلم الدكتور أكرم كساب

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد….

فهذه كلمات أسوقها تعليقا على مقتل السفير الروسي في تركيا يوم أمس الإثنين 18/ 12/ 2016:

1- (حلب) جريمة شارك فيها العالم أجمع: لا يستطيع أحد أن ينكر بشاعة ما قامت به القوات الروسية في قتل الأبرياء العزل من أهل سورية، ولا ينكر أحد أن النظام العالمي شارك في هذه المجازر بطرق مختلفة، إما مشاركة فعلية كما هو حال سورية وروسيا وإيران وآخرون، وإما مشاركة بالتأييد كما هو حال كثير من الحمقى والمغفلين من الدول والأفراد والشعوب، وإما مشاركة بالصمت المغزي، وهو حال النظام العالمي الذي ضاعت منه إنسانيته، بعد أن ارتضى مقتل الأطفال والأبرياء، وهو الذي أمات إخوانهم غرقا حين حاولوا الهروب من ويلات نيران طاغية سورية.

2- العاطفة الجياشة لا أن تلجم بلجام الشرع: لقد لاقى مقتل الروسي قبولا لدى العديد من الشباب، وهذا القبول ناتج عن مشاركة روسيا الفجة في حرب الأصل أنه لا ناقة لها فيها ولا جمل، غير أن روسيا جعلت إقحامها ليس محسورا في الجانب المادي الذي تكسب من وراءه العديد من المليارات فضلا أن المكاسب الدولية بين القوى العظمى، وكذلك التدريبات العسكرية لجنودها، لكن هذا كله لا يبرر الخطأ، ولا يجعل الباطل حقا، بل ينبغي أن تلجم عواطف المرء بلجام الشرع حتى لا تضيع حقوق باسم الشرع، والشرع منها براء. وما أروعه صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الحديبيبة، وهم يرون أبا جندل يصيح فيهم بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي. قَالَ: فَزَادَ النَّاسُ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ ” رواه أحمد…

3- الغاية الشريفة تحتاج إلى وسيلة نظيفة: وهذا نابع من عظمة الإسلام؛ الذي لم يكن في يوم من الأيام رافعا لراية (الغاية تبرر الوسيلة)، وإنما اشترط الإسلام نبل الغاية ومعه سلامة الوسيلة، فكل غاية شريفة تحتاج بالضرورة إلى وسيلة نظيفة، وهذا هو العمل الأحسن الذي جاءت به النصوص، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، قال الفضيل في معنى {أَحْسَنُ عَمَلًا} أخلصه وأصوبه. وقال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا، قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة.

4- مقتل السفراء والدبلوماسيين لم يجدي من قبل: والحق أن عملية قتل السفراء لم تجد نفعا من ذي قبل، فقد قتل سفراء ودبلوماسيون غربيون فهل غيّر هذا من مواقف الدول الغربية وسياستها؟؟!! أرى أنه لم يغير شيئا، بل هو قد يزيد من عناد هذه الدول، لأنها ترى نفسها أهينت في شخص له مكانته، وقد تقارب هذه الأفعال مواقف بعض الشعوب المتعاطفة -نوعا ما- مع قضايا الأمة العربية والإسلامية فتلتحم مع حكامها، وتوافقها على ما تقوم به من جرم وإفساد.

5 – مقتل السفراء جريمة شرعية: وأما أن مقتل السفراء جريمة شرعية فهذا ما جاءت به النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ومن ذلك:

أ- الأصل في الدماء العصمة: قال تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة: 32]، والنفس هنا تشمل كل نفس، مهما كان دينها أو عرقها أو لونها أو جنسها، إذ الأصل في الدماء العصمة..

ب – الرسل لا تقتل: وهذا ما جاءت به السنة، روى أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالٍ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمَا: ” أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ “، قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” آمنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، لَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا ” (قال الأرنؤوط: حديث صحيح ) ومن فقه ابن مسعود أنه قال: فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ…

ث – السفراء مستأمنون: إذ اعتبر العلماء أن السفراء (وكل من دخل البلاد الإسلامية دخولا رسميا) لهم حكم الأمان، فلا يجوز الاعتداء على دمائهم ولا أموالهم ولا أعراضهم، فإن رابنا منهم شيئا وجب علينا إخبارهم، ولا يجوز الغدر بهم، وفي الصحيح عند البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»…

ج – لكل مسلم أن يعطي الأمان رجلا كان أو امرأة: ففي الصحيحين من حديث أم هانئ: قالت: قُلْتُ (يوم الفتح): يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرْتُهُ، فُلاَنَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ». وفي المسند عن علي بن أبي طالب وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ” رواه أحمد وغيره: وقال الأرنؤوط إسناده صحيح، وصححه الألباني)، جاء في (عون المعبود): ومعنى أن واحدا من المسلمين إذا آمن كافرا حرم على عامة المسلمين دمه وإن كان هذا المجير أدناهم مثل أن يكون عبدا أو فمرأة أو عسيفا تابعا أو نحو ذلك فلا يخفر ذمته.. عون المعبود وحاشية ابن القيم (12/ 168)

ح – بل هذا أيضا جعله النبي صلى الله عليه وسلم حقا للعبد وقتئذ، روى عبد الرزاق في مصنفه عَنْ فُضَيْلٍ الرَّقَّاشِيِّ قَالَ: شَهْدَتْ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى فَارِسٍ يُقَالُ لَهَا شَاهِرْتَا فَحَاصَرْنَاهَا شَهْرًا، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَطَمَعْنَا أَنْ نُصَبِّحَهُمْ، انْصَرَفْنَا عَنْهُمْ عِنْدَ الْمَقِيلِ، فَتَخَلَّفَ عَبْدٌ مِنَّا فَاسْتَأْمَنُوهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ فِي سَهْمٍ أَمَانًا، ثُمَّ رَمَى بِهِ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَجَعْنَا إِلَيْهِمْ خَرَجُوا فِي ثِيَابِهِمْ، وَوَضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَقُلْنَا: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: أَمَّنْتُمُونَا وَأَخَرَجُوا إِلَيْنَا السَّهْمَ فِيهِ كِتَابُ أَمَانِهِمْ فَقُلْنَا: هَذَا عَبْدٌ وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ قَالُوا: لَا نَدْرِي عَبْدَكُمْ مِنْ حُرِّكُمْ، وَقَدْ خَرَجُوا بِأَمَانٍ، قُلْنَا: فَارْجِعُوا بِأَمَانٍ قَالُوا: لَا نَرْجِعُ إِلَيْهِ أَبَدًا فَكَتَبْنَا إِلَى عُمَرَ بَعْضَ قِصَّتِهِمْ، فَكَتَبَ عُمَرُ: «أَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْمُسْلِمِين أَمَانُهُ أَمَانُهُمْ». قال ابن قدامة: (ومن أعطاهم الأمان منا؛ من رجل، أو امرأة، أو عبد، جاز أمانه) وجملته أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب، حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم. ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار، ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا. وبهذا قال الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وابن القاسم، وأكثر أهل العلم… (المغني لابن قدامة (9/ 241) ، وقال الصنعاني: الأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم ذكر أو أنثى حر أم عبد مأذون أم غير مأذون لقوله: ” أدناهم ” فإنه شامل لكل وضيع، وتعلم صحة أمان الشريف بالأولى وعلى هذا جمهور العلماء… سبل السلام (2/ 489)

خ – يلحق بالسفراء الدبلوماسيون والتجار والسياح وطلاب العلم وما شابه ذلك، لأنهم أعطوا بما يسمى في عصرنا (تأشيرة) وهذه التأشيرة بمثابة أمان للإنسان على نفسه وماله وعرضه… يقول الشوكاني معرفا المعاد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:” «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ”: المعاهد هو الرجل من أهل دار الحرب يدخل إلى دار الإسلام بأمان فيحرم على المسلمين قتله بلا خلاف بين أهل الإسلام… نيل الأوطار (7/ 18)

د- لا فرق بين معاهد قومه حربيون أو غير حربيين: وهذا التفريق لا دليل عليه، لأن من أجارتهما أم هانئ كان مشركين معروفين بعدائهما للإسلام، ورسولا مسيلمة كان على ملته ودينه، فهما عدوان لله ورسوله، ولا يقولن أحد إن قطزا قتل رسل التتار وعلق رؤوسهم على باب زويلة، فنحن مأمورون باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، لا هدي قطز القائد المغوار ولا غيره، مهما كان له من مآثر وتضحيات…

6- قتل السفير الروسي حماقة فكرية: نعم هو كذلك، فكل ذي عينين يدرك أن تركيا أضحت البلد الوحيد في عالمنا العربي والإسلامي الذي يؤوي الضعفاء، ويناصر المظلومين، ويدفع عن ذوي الحاجة من المتضررين في كثير من دولنا المستضعفة بعد أن أضحى رعاياها كالأيتام على موائد اللئام، فتركيا تضم في حناياها قرابة ثلاثة ملايين من الشعب السوري، فضلا عن العراقيين واليمنين…. وهذا لن يعود بالنفع لا على تركيا ولا عالمنا العربي والإسلامي..

7- وأخيرا: (حلب) جريمة لا تغتفر، وحماية أهلها واجب على كل حرّ شريف: إذ (حلب) بأطفالها ونسائها ومدنييها ستظل سبة في جبين البشرية التي وقفت تشاهد القتل والدمار على الهواء مباشرة ساعة بساعة ولحظة بلحظة دون أن تحرك ساكنا أو تندد بمجرم، وتركيا وغيرها من دول العالم العربي والإسلامي مطالبة بما هو أكثر من ذلك، فليس دورها فقط محصورا في إيواء أطفال عزّل أو نساء عجزة، وإنما دور الجميع أن يشارك في وقف هذه الحرب الآثمة بقدر ما أوتوا، والأقربون أولى بالنصرة، وإلا فالله محاسب الجميع؛ من صمت على صمته، ومن شارك على بشاعة جريمته….

والله تعالى أعلم…..

(الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى