بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
لا تنسوا حلب، لا تنسوا سورية”، “كل شخص له يد في هذا الظلم سيدفع الثمن”، “ما لم تكن بلادنا في أمان فإنكم أنتم أيضاً لن تتذوّقوه”.
“جزاء الروس القاتلين للسوريين أن يكونوا هدفاً للقتل في كل مكان، ومن قتل يقتل، وكما تدين تدان”.
المقولات الأولى هي مقولة مولود ميرت ألطنطاش قاتل السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف الذي رأيناه في مشهد يبعث على الريبة والشكوك، يوم الإثنين 19 ديسمبر 2016م، والمقولة أخيرة هي لسان حال ومقال من فرحوا في مقتل السفير الروسي وهللوا للقاتل!
والواقع أن هذا وذاك لا يعبر إلا عن فوضى في التفكير، وانحراف في الالتزام بالأحكام الفقهية في موضوع المستأمَنين والمعاهَدين!
إننا ينبغي أن نعلي أحكام الشرع على أحاسيس الطبع، وأن نلجم المشاعر الجامحة – وهي محقة – في الرغبة بالانتقام من الروس والإيرانيين القاتلين للمسلمين بضوابط الشرع وأحكامه حتى لو تصادمت مع رغباتنا، فأحكام الشرع مقدمة على ما يريده الطبع.
تحدثوا ما شئتم عما يفعله الروس والإيرانيون من جرائم جماعية في العراق وسورية، قولوا ما شئتم عن أن المجتمع الدولي يكيل بألف كيل، شنعوا ما شئتم على أن عشرات الآلاف من الناس يقتلون ويحرقون ومئات الآلاف يهجرون دون كلمة واحدة من مجتمع دولي خائن مجرم متواطئ فيما إذا قتل فرد واحد حتى لو كان دبلوماسياً تقوم الدنيا ولا تقعد.. كل هذا من حقنا أن نصرح به وأن نقوله، أما الأحكام الشرعية الثابتة فلا يسعنا أن نبدل فيها أو نغير حتى لو كانت على غير هوى العوام!
ربما يقال: “إن روسيا دولة محاربة، وتقتل المسلمين في بلادنا، فمن حقنا أن نثأر لأنفسنا ونأخذ بقصاصنا”.. وهذا كلام مردود؛ إذ السفير الروسي المقتول هو مُعاهد بميثاق الإسلام في بلاد الإسلام، وكل من دخل ديار المسلمين سواء أكانوا سفراء أم رسلاً أم تجاراً أم غيرهم فهم معصومو الدماء ولو كانوا محاربين.
كما أن وفود قريش الذين قابلهم الرسول ﷺ، وأهله وإخوانه يُقتلون عندهم، ومع ذلك لم يثأر لهم بقتل أحد الوفود، حدث هذا في المدينة وحنين والحديبية حينما ورد على النبي قادة المشركين المحاربين له في غير هدنة، يفاوضونه في أمور كثيرة، وأمَّنهم حتى عادوا لقومهم؛ فكذلك الحال في واقعتنا.
على أنه هناك حلول شرعية وسياسية تتبع في مثل هذه الحال، فيمكن طرد السفير، أو قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، ويمكن المشاركة في الحرب ضدهم في سورية.. إلى آخر ذلك من مواقف وحلول.
فهذا مسيلمة الكذاب مدعي النبوة المحادّ لله ورسوله يرسل رسولين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام بهما؟ روى الإمام أحمد في مسنده (مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، 3752)، عن عبدالله بن مسعود قال: جاء ابن النواحة، وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: “أتشهدان أني رسول الله؟”، قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “آمنت بالله ورسله، لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما”، قال عبدالله: فمضت السُّنة أن الرسل لا تقتل.
وروى أبو داود في السنن (كتاب الجهاد، بَاب فِي الرُّسُلِ، 2761، ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب قسم الفيء، 1090 – الرُّسُلُ لَا تُقْتَلُ، 2679، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ)، بسندهم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ قَالَ: كَانَ مُسَيْلِمَةُ كَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَقَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ نُعَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُمَا حِينَ قَرَأَ كِتَابَ مُسَيْلِمَةَ: “مَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟”، قَالَا: نَقُولُ كَمَا قَال،َ قَالَ: “أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا”.
وروى البخاري في الصحيح (كتاب الديات، بَاب إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ، 6516) بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا”، قال الحافظ ابن حجر: “والمراد به مَن له عهدٌ مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هُدنة من سلطان أو أمان من مسلم” (فتح الباري 12/259).
وروى أبود داود والنسائي بسندهما عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه”.
وهذه أم هانئ فاختة بنت أبى طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كانت قبل إسلامها تدفع عن النبي صلى الله عليه وسلم أذى المشركين، وقد أسلمت رضي الله عنها يوم فتح مكة، الذي كان لها فيه موقف مع النبي صلى الله عليه وسلم سجلته كتب السُّنة والسيرة النبوية.
في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة فتح الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وهو الفتح الأعظم، الذي أعز الله به دينه ورسوله، ودخل به الناس في دين الله أفواجاً، قال الله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (الفتح:1)، وفي أثناء هذا الفتح والنصر المبين، فرَّ بعض المشركين إلى بيت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، ولحقهم أخوها عليٌ رضي الله عنه ليقتلهم، وسألوها أن تجيرهم ففعلت، وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتخبره بما حدث بينها وبين عليّ رضي الله عنه، وتروي ذلك فتقول:
“لما كان عام يوم الفتح فرّ إليّ رجلان من بني مخزوم فأجَرْتُهُما، قالت: فدخل عليَّ عليٌّ فقال: أقتلهما، قالت: فلما سمعته يقول ذلك أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو بأعلى مكة، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلّم رحّب وقال: ما جاء بك يا أم هانئ، قالت: قلت يا رسول الله، كنت أمّنت رجلين من أحمائي، فأراد عليّ قتلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قد أجرنا من أجرت، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله فسترته فاطمة، ثم أخذ ثوباً فالتحف به، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثماني ركعات سبحة الضّحى” (رواه مسلم)، وفي رواية البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم لها: “مَرْحَباً بِأُمِّ هَانِئٍ.. قدْ أَجَرنَا مَنْ أَجَرتِ يَا أُمَّ هَانِئ”، وفي رواية أحمد: أنهما رجلان من أحمائها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “قد أجرنا من أجرت، وأمَّنا من أمَّنت فلا يقتلنَّهما”.
وقد بوب البخاري على هذا فقال: “باب أمان النساء وجوارهن”.
ومن المتفق عليه بين فقهاء العصر أن السفراء، والوفود الدبلوماسية، وكل من يأخذ تأشيرة دخول أو تسمح له الدولة بالدخول إليها بطريقة أو بأخرى فله عهد وذمة وأمان يجب الوفاء به شرعاً حتى لو كان محارباً.
وآيات الوفاء بالعقود والعهود وإتمامها إلى مدتها أمر مشهور ومعروف في القرآن الكريم وآياته أكثر من أن نوردها هنا، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى الكتاب القيم للعلامة د. عبدالكريم زيدان بعنوان “أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام”، وهي رسالته للدكتوراه من جامعة القاهرة.
إذا أضيف لذلك التحديات الخطيرة التي تواجهها تركيا، والرغبة الدولية العارمة في إسقاطها، ابتداء من محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016م، فلما فشلت لجؤوا إلى الحرب الاقتصادية، فلما فشلت هاهم يلجؤون إلى التفجير وقتل السفراء المحرم شرعاً والمجرم قانوناً كي تنتهي آخر قلعة من القلاع التي تحمل همَّ المسلمين في العالم.. إذا أضيف ذلك للفعل المحرم ورأينا كيف يبرر الناس قتل السفير الروسي في أنقرة، بل مع الأسف وجدنا هذا عند أهل العلم.. أدركنا أي فوضى فقهية نعيشها، وأي خلط في التفكير نحياه.
المصدر: مجلة المجتمع.