مقالاتمقالات المنتدى

مقتطفات من كتاب (الإسلام ثوابت ومحكمات) للدكتور محمد يسري إبراهيم | (19) الاحتساب على الغلو والتطرف

مقتطفات من كتاب (الإسلام ثوابت ومحكمات) للدكتور محمد يسري إبراهيم | (19) الاحتساب على الغلو والتطرف

 

بقلم د. محمد يسري إبراهيم (خاص بالمنتدى)

 

الغلو داء الأمم

إن الغلو داء الأمم، وهو مبيد الحضارات والنعم، ولهذا جاء التحذير النبوي: «وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ»([1]).

وهو داء له أنواع تستدعي أنواعه بعضها بعضًا، حتى يجتمع في أهل الغلو الشرُّ كله! فغلو في العبادة قد يُفضِي إلى غلو في العقيدة، وما يكون فيهما قد يفضي إلى مثلهما في السياسة… وهكذا.

وغلو الخوارج قد أخبر به النبي  ﷺ مبكرًا، فحذر منه ومن أهله الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، ثم أمر بقتلهم وقتالهم، فقال: «لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ، لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»([2]).

ولقد قاتل الصحابة (رضي الله عنهم) الخوارج بأمر النبي ﷺ، ثم ظهرت الشيعة الغلاة، فاحتسب علي (رضي الله عنه) عليهم، ثم ظهرت الجهمية والقدرية آخر عصر الصحابة فأنكروا عليهم، وبقيت الأمة حارسة لعقيدتها وشريعتها، كلما نبغت فرقة وانحرفت تصدى أهل السنة؛ لبيان الحق، والرد على أهل الغلو والأهواء؛ إبراءً للذمة وقيامًا بواجب الحسبة نصحًا للأمة.

قال الله تعالى:

وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ
(6 : 55)
 [الأنعام: 55].

 

وجوب الاحتساب على الغلو المعاصر

إن الغلو والتطرف المعاصر لَمِمَّا يتأكد الاحتسابُ عليه، وذلك لِتجَذُّرِ أسبابه وتعقُّدِ علاقاته، ولكثرة النوازل في ساحة الأمة اليوم، حين جرى في بلدان كثيرة استبدالُ الشريعة، والاحتكامُ إلى قوانين غير المسلمين، وسقوط كثير من المجتمعات في هوة التبعية الفكرية والحضارية لأعداء الدين، مع اضطهاد الحريات، ومنع الحقوق، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس وسجنهم!

وهذا مناخ يستنبت بالضرورة الغلوَّ في ردة الفعل، ومما زاد الأمر تعقيدًا ممارسةُ بعض الفئات للجهاد في ساحة واحدة بإمارات متعددة، ورايات متنافرة، وبلا كلمة مسموعة لأية جهة مرجعية علمية أو هيئة عدلية.

وقد أورثت تلك الممارسات إشكالات، وتولَّد جراءها انحرافاتٌ، لاسيما عند إجراء الأحكام على المخالفين، مما أسهم في زيادة حالة الخوف من الإسلام.

 

الغلو يولِّد الغلو المضاد

ولقد عرفت المجتمعات المعاصرة أنواعًا من الغلو قوبل بمثله في الجهة الأخرى! فالغلو في العلمانية قابله غلو في تكفير المجتمعات المسلمة! ورمي كل من شارك في العملية السياسية محتسبًا التغيير والإنكار على أرباب تلك المجالس السياسية بالشرك والكفر من غير اعتبار لمقصوده، وما صرح به من رفض العلمانية، بل ومن غير اعتبار لفتاوى كبار علماء العصر!

وكما عرف غلوٌّ في الإرجاء فقد قوبل بغلوٍّ في الخروج قديمًا وحديثًا!

وفي ظل العولمة وغلو التغريب في الفكر والثقافة قوبل بغلو في الانغلاق والتقوقع ورفض كل جديد مفيد، ولما غاب مفهوم الجماعة بالمعنى السياسي الصحيح، وقع غلو في الولاءات الحزبية، وامتهان للمصطلحات الشرعية كأهل السنة، والسلفية، وقصرها على بعض الفئات الدعوية والتجمعات الحزبية!

قال الله تعالى:

وَٱعْتَصِمُوا۟ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًۭا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ ۚ وَٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءًۭ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًۭا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(3 : 103)
[آل عمران: 103].

وقال الله تعالى:

وَجَٰهِدُوا۟ فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ ۚ هُوَ ٱجْتَبَىٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعْتَصِمُوا۟ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَىٰكُمْ ۖ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
(22 : 78)
[الحج: 78].

 

أسباب الغلو

وأسباب الغلو قديمًا وحديثًا ترجع إلى مجموعات من الأسباب منها نفسية شخصية وتربوية؛ كضعف الانتماء إلى المجتمع، وكبت الرغبة في التنعم بالحرية، والسطحية والعجلة والحدة من الصفات النفسية.

ومن الأسباب العلمية الفكرية: الجهل مع التعصب، واضطراب منهج الاستدلال والاستنباط.

ومن الأسباب الاجتماعية والسياسية: سيادة العلمانية وتنحية الشريعة الإسلامية، وتتابع النكسات وتوالي الهزائم والانكسارات، والانحلال الأخلاقي والفساد الإعلامي، والعبث المتعمد بملف الطائفية والأقلية.

ومهما تكن أسباب الغلو فلابد من مواجهته بمنع أسبابه ومقدماته ومعالجة نتائجه ومخرجاته، فلا يجوز إهمال الرد أو السكوت عن ظواهر الغلو في ساحة الأمة، ويتعين دعم العلماء والمحتسبين والمفكرين، وتمكينهم من مناقشة الغلاة، وينبغي تجييش المجتمع بمؤسساته لمواجهة الغلو فكريًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا.

ولا غنى عن الإصلاح المجتمعي لكافة المناحي والمجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى العلماء خاصة رفع الالتباس بين المشروع والممنوع من الممارسات المتعلقة بالجهاد، ولابد من توفير الوسائل والأدوات التي تحقق هدف الحسبة والتصحيح من مؤسسات إعلامية مستقلة تعمل لحساب الأمة وليس لحساب سلطة.

والتطرفُ ما لم يترتب عليه عملٌ فعلاجه بالحوار وإقامة الحجة، والمعالجة الأمنية قد تزيد الأمر تعقيدًا.

قال الله تعالى:

وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلْخَيْرِ ۖ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًۭا
(17 : 11)
[الإسراء:11].

 

محاذير في سبيل معالجة الغلو

ومما ينبغي أن يُرَاعَى ويُحَذّر منه في سبيل معالجة الغلو:

اعتبار الغلو والاعتدال وفقًا لبيئة ما أو مدرسة ما، فليست دعوةُ فلانٍ أو جماعة فلان معيارًا للوسطية والاعتدال، كما لا يسوغ اعتبار اختيارات اجتهادية معيارًا للوسطية، بحيثُ يعتبر ما خالفها شذوذًا أو انحرافًا!

ومن الأهمية بمكانٍ التفريقُ بين مقولات المعاصرين من الغلاة، وفك الاشتباه ورفع الالتباس بين مفاهيم مشتركة بينهم وبين غيرهم!

ويلزم الحذر من حصر الغلو ومعالجته في جانب التشدد دون جانب التفريط، فكما أن الخروج على الولاة المسلمين بالسلاح غلوٌّ، فإن الغلو في طاعتهم بإعانتهم على المعاصي غلو أيضًا!

 

وقد ابتلي المسلمون بطائفتين في واقعنا المعاصر:

خارجة مكفرة مستبيحة لدماء ولاة المسلمين وعلمائهم وعامتهم بغير برهان، وأخرى مرجئة خانعة مع الولاة، ثم هي تستأسد على العلماء والدعاة؛ فتتهم كل من لم يكن على هوى السلطان بتهم ما أنزل الله بها من سلطان!

فالغلو له طرفان كلاهما مذموم، فالغلو- مثلًا- في محبة آل البيت من قِبَل الروافض قد قوبل بغلو في بغضهم من قبل النواصب!

والغلو في إيجاب التقليد المحض على كل أحد، قوبل بإيجاب الاجتهاد على كل أحد… وهكذا فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم!

قال الله تعالى:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةًۭ وَسَطًۭا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًۭا ۗ وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ
(2 : 143)
[البقرة:143].

 

توجيهات في الاحتساب على الغلو

ومن معالم الرشد في وسائل وإجراءات الاحتساب على الغلو المعاصر: التفريقُ في الخطاب والتعامل بين فرق الغلاة وطبقاتهم ضمن الفرقة الواحدة، والتمييز بين مواقفهم النظرية والعملية، وبين الشباب منهم والشيوخ، وإعطاء كل أحد ما يناسبه ويلائمه من الخطاب!

وحين يعجز المحتسبون عن منع الغلو بالكلية فإنهم لا ييأسون من تقليل الانحراف وتخفيف غلوائه، إذِ الميسورُ لا يسقط بالمعسور!

ومن كان غلوه في استباحة الدماء والأبضاع- لا يكون كمن غلوه في استباحة الأموال مثلًا!

ومما ينبغي التأكيدُ عليه: تحذيرُ الناس كافة من أولئك الغلاة وتنبيههم على خطورة استعمالهم مباشرة أو استثمار مواقفهم من قبل أعداء الأمة، وكل ذلك قد وقع!

وما جرى بالشام والعراق يمكن أن يعتبر أنموذجًا لصناعة واستثمار الغلو والعنف على نحو لا مثيل له في العصر الحديث، بحيث وَهَتْ قوةُ أهل السنة، وأفضى هذا إلى تقوية شوكة المخالفين من غير المسلمين والرافضة، وإضعاف الكيانات الدعوية لأهل السنة، بل وتحويل دول المنطقة الغنية من دائنة إلى مدينة، والسيطرة على منابع النفط، والتمهيد لتنفيذ تقسيمات جديدة! وإضعاف قدرة المسلمين على نصرة الأقصى وفلسطين.

فلا يجوز بحال أن يستعمل بعض شباب المسلمين في وَأْدِ دينهم وخذلانه من حيث أرادوا نصرته! وكم من مريد للخير لا يبلغه!

مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍۢ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِۦ ۚ وَمَا جَعَلَ أَزْوَٰجَكُمُ ٱلَّٰٓـِٔى تُظَٰهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ ۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى ٱلسَّبِيلَ
(33 : 4)
[الأحزاب:4]

***

___________________________________________________________________________

([1]) أخرجه أحمد (3248)، والنسائي (3051) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما).

([2]) أخرجه البخاري (3344)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى