مقالاتمقالات المنتدى

مقتطفات من كتاب (الإسلام ثوابت ومحكمات) للدكتور محمد يسري إبراهيم | (13) السياسة الشرعية

مقتطفات من كتاب (الإسلام ثوابت ومحكمات) للدكتور محمد يسري إبراهيم | (13) السياسة الشرعية

بقلم د. محمد يسري إبراهيم (خاص بالمنتدى)

الدولة الإسلامية ضرورة دينية عقلية اجتماعية

جاء النبي ﷺ بدين يقيم دولة ويحكمها بأسس واضحة، وهذه بدهية عرفها المسلمون ومارسوها عبر تاريخ دولتهم لأكثر من اثني عشر قرنًا من الزمان!

والدولة الإسلامية لا توصف بأنها دينية بمعنى «ثيوقراطية»، كما لا توصف بأنها مدنية بمعنى «علمانية»، وإنما هي دولة إسلامية، تقوم على مرجعية الوحي نصًّا ومقصدًا، وتتأسس على قيم عليا كالحق والعدل والإحسان، وقيم حضارية اجتماعية كالمسئولية والحرية والمساواة، وقيم أخلاقية سلوكية كالبرِّ والتعاون والتكافل.

ومن ذلك كله تحرر النظام الإسلامي بهيئته المشتملة على الأحكام الشرعية العامة والتفصيلية، والقواعد الفقهية والأصولية الكلية والجزئية، وما ارتبط بها من تقنينات وإجراءات، وعليها قامت تنظيمات ومؤسسات.

وبناءً على ما سبق فإن الدولة الإسلامية ضرورة دينية شرعية وعقلية واجتماعية على حد سواء!

فلا قيام للدين بلا دولة تحميه، وأمة تحوطُه من جوانبه وتقوِّيه، ولا تقوم دولة إلا بإمامة وإمارة تحكم بالحق، وتستحق الطاعة من الخلق.

قال الله تعالى:

يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةًۭ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌۭ شَدِيدٌۢ بِمَا نَسُوا۟ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ
(38 : 26)
[ص: 26].

 

حكم الإمامة وخصائص النظام السياسي

أجمع المسلمون على أن ولاية أمر الناس من أفضل الطاعات، وأهم الواجبات، والعادل من الحكام أعظم أجرًا من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام، والحاكم العادل في الآخرة بأعظم المنازل!

ورياسة الناس إنما هي لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وإبرام عقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالاتفاق!

فتنصيب الحاكم واجب كفائي بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة!

ومتى أقيم الدين استقامت الدولة، وبذلك تنطلق الأمة في مجالات رحبة من الدعوة والتعليم والحسبة، وباختلال الدولة تضيَّع واجبات جماعية؛ كالقضاء بالقسط والجهاد وجمع الزكاة… وغيرها.

ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا۟ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ
(22 : 41)
[الحج: 41].

 

خصائص النظام السياسي الإسلامي

ومن خصائص النظام السياسي الإسلامي: أن السيادة فيه للشرع المطهر كتابًا وسنة، والسلطان فيه للشعب وللأمة، فحق التحليل والتحريم والإلزام للوحي، وحق تولية الحاكم، ومراقبته والحسبة عليه، وعزله عند الاقتضاء للأمة ممثلة في مجلس أهل الحل والعقد، والرأي والشورى.

والشورى في النظام السياسي الإسلامي واجبة لا نافلة، وهي في القضايا المهمة والنازلة ملزمة، فواجب على الساسة مشاورة أهل كل اختصاص فيما أشكل أو استجد، فعلماء الدين يشاورون فيما به إقامة الفرض، وعلماء الدنيا يشاورون فيما به عمارة الأرض.

ومن خصائص النظام السياسي الإسلامي: أنه يسعى دائمًا إلى وحدة الأمة والدولة، فأمة المسلمين واحدة، وإمامهم ينبغي أن يكون واحدًا، كما كانت الدولة في العهد الراشد، وتتخذ الدولة التدابير المشروعة لحمايتها من الانقسام، وتعمل على تأكيد الأخوة الإيمانية، وتعميق الروابط الإسلامية بين مكونات الشعب المسلم في المشارق والمغارب.

ومن خصائص النظام السياسي الإسلامي: تمتعه بجانب من المرونة والسعة، إلى جانب قيامه على ثوابت محدودة، وقواعد معدودة، دفعًا للتحلل من الثوابت الملزمة، فمساحات الاجتهاد مشهودة دفعًا للتقيد والجمود على الإجراءات والتراتيب الاجتهادية.

ومن أجل هذا اتسع النظام السياسي للفصل بين السلطات مبكرًا من دولة الراشدين، ووفر الضمانات العدلية والقضائية، وحمى حقوق الأقلية، وأقر التعددية تحت مظلة الشرع والشرعية.

والسياسة الإسلامية في نظامها تقوم على حفظ وأداء الأمانة، كما تقوم على العدل بين الرعية، وعلى أساس من تولية الكفاءات وأداء الحقوق والقيام بالواجبات تستحق تلك السلطات الإسلامية محبة الرعية وطاعتها، على أن تلك الطاعة ليست مطلقة؛ بل مقيدة بطاعة الله ورسوله ﷺ.

قال الله تعالى:

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا۟ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُوا۟ بِٱلْعَدْلِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًۢا بَصِيرًۭا . يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِى ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍۢ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌۭ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا .
(4 : 58-59)
[النساء: 58، 59].

 

أحكام عقد الإمامة

تنتقل السلطة وتثبت الولاية بالبيعة بعد الاختيار والشورى، وبكل وسيلة تحققها وتضمن عمومها في الأمة.

وإذا خلا المكان أو الزمان عن حاكم بالحق لفقده شرعًا أو حسًّا، فالأمر مسلَّم لمجلس أهل الحل والعقد في الأمة، أو ما يقوم مقامه؛ إذ يتعيَّن الاجتماع على الحق وموافقةُ السنة، وترك التفرق في الأمة، ومن اجتمعت عليه الكلمة انعقدت إمامته، ووجبت في المعروف طاعته.

ويحرم الخروج على الحكام ما داموا مسلمين، ولكتاب الله وسنة نبيه ﷺ محكِّمين، يصبر عليهم، ويحج ويجاهد معهم، وتلزم جماعتهم، ولهم حق النصح إذا أخطأوا، والإعانة إذا أصابوا، تقال عثرتهم، وتستر عورتهم، ولا يطمع في دنياهم، وبالصلاح يدعى لهم.

وينتقض عقد الإمامة بانتقاض أحد أركانه؛ كفقد الإمام، أو تبديله الشرع، أو باختلال أحد شروطه؛ كجنونه، أو ردته.

ويلزم من انتقاض العقد انعدام الشرعية، ولا يعني هذا المنابذة العملية؛ بل يتعين الرجوع إلى أهل الحل والعقد في الأمة من العلماء الراسخين، ومن دخل في طاعتهم من أصحاب الشوكة والقوة القادرين.

ومتى كانت المجتمعات قوية بمؤسساتها- أمنت من تغوُّل الدولة الحديثة عليها، وهذا يعقب عصمة وأمنًا، وقوة وتماسكًا.

قال الله تعالى:

وَٱعْتَصِمُوا۟ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًۭا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ ۚ وَٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءًۭ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًۭا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(3 : 103)
[آل عمران: 103]،     وقال سبحانه:
وَأَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُوا۟ فَتَفْشَلُوا۟ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَٱصْبِرُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ
(8 : 46)
[الأنفال: 46].

 

من أهداف وواجبات الدولة الإسلامية

من أعظم أهداف النظام السياسي الإسلامي: حماية الحقوق والحريات الإنسانية الفردية والجماعية، فلا حق للسلطة في الدولة أن تستحل القتل أو تستبيح التعذيب والاضطهاد لمجرد معارضة أو لمطلق مخالفة لنظام أو حكم! وما الحاكم إلا واحد من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم من فرض وسنة، وحلال وحرام.

وعلى الدولة كفالة تحقيق العدل والمساواة معًا، عدلًا في القضاء، ومساواة في نيل الحقوق، وتأمينًا لحاجات كل إنسان من أي دين وعرق كان.

ومن حقوق الأمة المسلمة: أن تستأنف الحكم والتحاكم إلى كتاب ربها وسنة نبيها، إذ الإسلام استسلام لله وحده، واحتكام إليه وحده، ودعوة إليه وحده، وهذا يعود إلى السلطة العليا في النظام الإسلامي، وبالالتزام به يُمنح الحاكم وصف الشرعية، ويجب له السمع والطاعة على الرعية!

قال الله تعالى:

قُلْ إِنِّى عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِۦ ۚ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِۦٓ ۚ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ
(6 : 57)
[الأنعام: 57].

وقال الله تعالى:

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا۟ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًۭا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًۭا
(4 : 65)
[النساء: 65].

 

 أحكام ممارسة العمل السياسي في الواقع المعاصر

العمل السياسي في صورته المعاصرة اليوم أعم من أن يكون تكوينًا لحزب أو مشاركة فيه، أو مباشرة لعمل في مجلس نيابي أو شوري، أو إنشاء لمؤسسات سياسية، أو مشاركة في مؤتمرات محلية أو دولية، أو حضورًا فاعلًا في نقابات مهنية أو اتحادات طلابية، أو التحاقًا بجماعات ضغط سياسي، أو سعيًا في إيجاد تيارات شعبية، أو إدارة لتحالفات وطنية.

وبين تلك الصور والمناشط تفاوت واسع، والأصل في تلك المشاركات السياسية أنها من جملة المطالب المشروعة، إلا أنه يكتنف هذه الأعمال في واقع الناس اليوم مفاسد كثيرة، ومشاكل عديدة، منها ما يتعلق بنظم الحكم والإدارة داخليًّا، ومنها ما يتعلق بواقع التحديات خارجيًّا، وقد تحقق عبر تلك الأنشطة مصالح وإنجازات، كما وقعت مفاسد وانكسارات، وقد تفاوتت بتفاوت البلاد والديار.

وهذا التزاحم والتدافع بين المضار والمنافع يجعل تلك المشاركات دائرة في فلك قضايا السياسة الشرعية، المنوطة بالمصالح تحصيلًا وتكثيرًا، والمفاسد درءًا وتقليلًا، والفتيا في ممارسة الأعمال السياسية على هذا النحو من التنوع تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، وعليه فحكم المشاركة وصورها مردود إلى علماء كل بلدٍ وأهل الحل والعقد فيهم، ابتداءً واستمرارًا أو تجميدًا!

ومهما قيل عن مصالح العمل السياسي اليوم، فإنه لا يمثل سبيلًا قاصدًا للإصلاحات الشاملة، ولا بديلًا وافيًا عن الممارسات الدعوية والتربوية، فلا يصلح أن تختزل في طريقه الدعوات، ولا أن تستنفد الطاقات والجهود، ولابد من الانضباط بضوابط المشروعية، والتوقي عن المحاذير الواقعية.

وإذا كانت أغلب المعارك السياسية المعاصرة قد تحسم لحساب الظلم والطغيان؛ فإن الجولة الحاسمة والدولة النهائية ستكون للمصلحين، بإذن الله رب العالمين.

قال الله تعالى:

إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ
(40 : 51)
[غافر: 51].

 

أهمية الاجتهاد والتجديد في الشأن السياسي المعاصر

وبرغم كل الانحرافات والعقبات وتطاول الزمان وتراكم مظاهر المفاسد والمظالم بدءًا من مصادرة حق الأمة في اختيار حكامها، وترك مشاورتها في شأنها العام، وتقلص واجبها في الرقابة على الأموال العامة، وانتهاءً بتسلط العلمانية وتنحية الشريعة الإسلامية، وغلبة وكلاء المستعمر الصليبي والصهيوني على البلاد والعباد؛ فإنه لابد من مدافعة ومراجعة واجتهاد وتجديد وتسديد! حتى تعود للإسلام والسنة دولة، فتُحرَّرُ الأرض، وتُنقَذ المقدسات، وتقاوم صور الهيمنة والاستعمار، وتقام فريضة العدل، وتجتمع أوصال الأمة، ويتجدد الفقه السياسي علمًا، وتتجدد ممارسته عملًا!

وكم من الأحكام المتعلقة بنوازل السياسة اليوم حقها أن تشرع أو تمنع باسم السياسة الشرعية، مع استصحاب تقوى الله وحسن النظر في مصالح الأمة العاجلة والآجلة، وأن يتصدى لبيانها العلماء والمتأهلون حيث لم يرد في حكمها نص تشريعي صريح أو اجتهاد فقهي سابق!

إن إعمال فقه السياسة الشرعية وتجديده عبر تاريخ  الأمة كان سببًا في تمكينها وانتصارها على عدوها في جميع المجالات، وبالنظر إلى واقع الأمة اليوم فإن اشتداد حدة المواجهات العلمانية العسكرية المتحالفة مع الغرب المتمالئة على الأمة يؤكد أهمية إعادة الاجتهاد والنظر، والمراجعة في ضوء محكمات نصوص الشريعة ومحددات الواقع، وفقه المقاصد، ومناهج الترجيح عند التعارض، ورعاية المآلات، ونتائج الأفعال والتصرفات، وغيرها من الاعتبارات الشرعية المرعية.

وغاية هذا الاجتهاد التجديدي: إحياء منارات الدين، ومواجهة تحريف المحرفين، وتقوية السعي للتمكين، وحفظ صلاحية الشريعة بالاجتهاد المحكم الرصين.

قال الله تعالى:

هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
(61 : 9)
[الصف: 9].

***

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى