مقالاتمقالات المنتدى

مقتطفات من كتاب (الإسلام ثوابت ومحكمات) للدكتور محمد يسري إبراهيم | (9) الشريعة الإسلامية

مقتطفات من كتاب (الإسلام ثوابت ومحكمات) للدكتور محمد يسري إبراهيم | (9) الشريعة الإسلامية

 

بقلم د. محمد يسري إبراهيم (خاص بالمنتدى)

 

معنى الشريعة وحقيقتها

الشريعة كلمة جامعة لدين الله تعالى الذي رضيه للأمة، فأتم به النعمة.

وعلى التحقيق: فإن الشريعة نفسَها هي الإسلام عينُه!

إذ هي كل ما أنزله الله من الوحي، وشَرَعه من الدين في كتابه وعلى لسان نبيه ﷺ.

وحقيقتُها أنها وحي معصوم، تحمل بين جنباتها حقًّا مطلقًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكل ما خالفها أو عارضها فهوًى لا اعتدادَ به، ولا اتباع له.

قال الله تعالى:

ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
(45 : 18)
[الجاثية: 18].

 

الثوابت والمتغيرات من الأحكام الشرعية

الأصل في الأحكام الشرعية أن تعتمد على دليل من نصوص الكتاب أو السنة، أو مستندٍ إليهما، وهو الإجماع، أو مستنبَطٍ منهما بالاجتهاد.

وفي الشريعة نصوص جلية متفق على دلالتها بلا اشتباه في معناها، قطعية في ثبوتها، وهذه يفهمها العربي من لغته، وأحسنُ مَنْ نُقِلَ عنه المعنى: الصحابة والتابعون، والأحكامُ الثابتة بها قطعيةٌ.

ومن الشريعة نصوص ظنية في معناها وقد تكون قطعية أو ظنية في ثبوتها، والأحكام الثابتة بها ظنية.

وثوابت الأحكام الشرعية: ما لا يتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان والأحوال، وهي أحكام قطعية.

والمتغيرات: ما قبل التغيُّر من الأحكام بتغير الأعراف المرتبطة بالزمان والمكان والإنسان، وهي أحكام ظنية.

ولا يشترط في الدليل، ولا في الحكم المرتبط به أن يكون قطعي الثبوت والدلالة معًا.

وكل حكم خالف صريح الدليل من كتاب أو سنة أو إجماع فهو مردود.

أَمَّن يَبْدَؤُا۟ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا۟ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ
(27 : 64)
[النمل: 64].

 

من خصائص الشريعة

والشريعة محكمة بشهادة كِتابها الذي أُحكمت آياته ثم فُصِّلت، وهي محفوظة من الزيادة والنقصان بحفظ الرحمن، وهي واضحة المعاني مُفَصَّلة البيان، وكما هي قواعد كلية فهي أحكام تفصيلية، متكفلة بالهداية، ومصالح العباد في المعاش والمعاد؛ ولهذا فلا اختيار مع حكمها، ولا تردد في العمل بها، ولزوم قضائها.

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا۟ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
(24 : 51)
[النور: 51].

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًۭا مُّبِينًۭا
(33 : 36)
[الأحزاب: 36].

والشريعة بكتابها وسنة نبيها عالمية، للخلق كافة، وللعالمين عامة، قال الله تعالى:

وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌۭ لِّلْعَٰلَمِينَ
(68 : 52)
[القلم: 52]، وقال تعالى:
وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةًۭ لِّلنَّاسِ بَشِيرًۭا وَنَذِيرًۭا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(34 : 28)
[سبأ: 28]، ولهذا، فهي ظاهرة باقية، خالدة مهيمنة، بحكم الله الغالب القاهر.

هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
(9 : 33)
[التوبة: 33].

ومع هذا فهي رحمة ويسر من كل جانب، لا حرج فيها، ولا عنت، ولا عسر.

شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْءَانُ هُدًۭى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٍۢ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍۢ فَعِدَّةٌۭ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا۟ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(2 : 185)
[البقرة: 185].

والبشرية في أَمَسِّ الحاجة إليها؛ لأنها عدل الله بين عباده، رَفعت الظلم، ورَعَتْ حرمة الإنسان، ووازنت بين حق الفرد والمجتمع، وأحسنت إلى الفقراء والمساكين، وحفظت الحق، ورفقت بالخلق، وشدَّت أواصر التآخي، وألَّفت بين القلوب!

قال الله تعالى:

وَٱعْتَصِمُوا۟ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًۭا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ ۚ وَٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءًۭ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًۭا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(3 : 103)
[آل عمران: 103].

 وهي صلاحٌ وإصلاح، وحربٌ على الفساد والاستبداد بكل صوره وأشكاله.

قال الله تعالى:

وَلَا تُفْسِدُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًۭا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌۭ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
(7 : 56)
[الأعراف: 56].

 

مقاصد الشريعة وما يرتبط بها من أحكام معلومة من الدين بالضرورة

حمت الشريعة الخليقة، فجعلت الأصل في الخلق أنهم أحرار، وفرضت عليهم حسن التعامل بالقول والفعل، وأمرت ببر الوالدين وصلة الأرحام، والتآخي بين المؤمنين، وأوجبت نصرة المظلوم وفك المأسور وإغاثة الملهوف، والتعاون على البر والتقوى، وحرمت التعاون على الإثم والظلم والبغي وسائر صور العدوان.

وبُني صرح الشريعة على مقاصد عالية وأهداف غالية، حفظت بها الدين والنفس والنسل والعرض والمال والعقل، فمن اعتدى على النفس المسلمة فأزهقها بغير حق فقد وجب القصاص بشروطه، ومن اعتدى على العرض فزنى أو قذف فقد وجب في حقه الحدُّ رجمًا أو جلدًا.

ومن اعتدى على المال المحرَّز بشروطه فسرقه فقد وجب قطع يده، ومن اعتدى على العقل فشرب الخمر فقد وجب الحدُّ في ظهره، ومن حارب وسعى في الأرض بالإفساد فعليه حد الحرابة.

ومن اعتدى على جماعة المسلمين وخرج على دولتهم بغيًا وعَدْوًا قوتل قتال الفئة الباغية.

قال الله تعالى:

وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُوا۟ فَأَصْلِحُوا۟ بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنۢ بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى ٱلْأُخْرَىٰ فَقَٰتِلُوا۟ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىٓءَ إِلَىٰٓ أَمْرِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا۟ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوٓا۟ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
(49 : 9)
[الحجرات: 9].

وقال الله تعالى:

ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا۟ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِۦ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
(2 : 229)
[البقرة: 229].

 

آثار استبدال الشريعة

 ولما تفيأت الأمة الإسلامية ظلال الشريعة الوارفة سادت وقادت، ولها الأمم دانت وانقادت، فلما نُكِّست أعلامها، وأفلت عن الدولة الإسلامية شمسها غلبت، وعن موارد الحضارة ومواقع الريادة تراجعت!

وكان ذلك سببًا ونتيجة لاحتلال أجنبي ولَّى عند خروجه من البلاد أولياءه من الجهلة التابعين، والطغاة المستبدين، فسعوا في تغريب الأمة وحَرْفها عن دينها، وحرمانها من أسباب القوة في كل مجالاتها!

وجرى تفكيك الدولة العثمانية جراء الضعف الذي لحقها، وألغي ما تبقى من الحكم بالشريعة في الديار التركية، واستلبت القدس وفلسطين!

وامتدَّ البلاء في الوقت الحاضر لعدد من البلدان والأوطان!

وطريق التمكين وعد صادق غير مكذوب.

قال الله تعالى:

وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمْ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًۭا ۚ يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًۭٔا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ
(24 : 55)
[النور: 55].

 

أنواع الخلاف والموقف منها

 والاختلاف منه تنوع ومنه تضاد، والتنوع: لا تنافي بين دلالات ألفاظه، ولا تناقض بين حقائقه، ويجري في العلميات والعمليات، ولا يترتب عليه تهاجر أو تضليل لأطرافه، وحَقُّه أن يُستثمر ولا يُستنكَر، والكلُّ فيه مصيب.

والتضاد: ما وقع فيه تناقض أقواله، وتنافي دلالات ألفاظه، فلا يتأتى جمع بين الأقوال، وإنما هو الترجيح، والمصيب فيه واحد.

وهو على ضربين: سائغ مقبول، وغير سائغ مردود، وكلا الضربين جارٍ في الفقهيات والعقديات.

ومن السائغ ما كان في الفروع الفقهية والعقدية، وهو في الفقهية أكثر، وفي العقدية أندر.

وأسبابه كثيرة، ولا سبيل إلى رفعه أو حَسْمه بالكلية، ولا إنكار فيه إلا ببيان الحق بدليله وتعليله، وهو مما يجب احتماله وعدم إنكاره، ولا يجوز ترجيحٌ بين أقواله بالتشهي وموافقة الغرض، أو بتتبع الرخص.

وغير السائغ في الأصول والاعتقادات أكثر، والإنكار فيه جارٍ بالهجر بعد الزجر، وبالتعنيف بعد الوعظ اللطيف، وربما يصلح  بالمداراة ما لا يصلح مع المجافاة.

ومن غير السائغ ما يجري مجرى الزلَّة والفلتة، فليُحذر من تتبع الزلات، كما يُحْذَر من إسقاط ذوي الهيئات!

وتنبغي العناية بالتحقق من أقوال المختلفين، وتحرير محل النزاع بين المتخالفين، وتدقيق سبب الخلاف، ومعرفة الأدلة ووجوه دلالتها، وما اعْتُرِض به عليها، وردود أصحابها، ومن ثمَّ إعمال قواعد الترجيح محرَّرة، والتأدب عمليًّا بآداب الاختلاف، ومراعاة العدل والإنصاف.

قال الله تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ ۚ ٱعْدِلُوا۟ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ
(5 : 8)
[المائدة: 8].

 

منهج الإفتاء وآداب المفتي

وقد تتغير الفتيا بتغير الاجتهاد، ويتغير الاجتهاد بتغير موارده الشرعية والواقعية.

وينبغي على المفتي أن يحمل العامة على أوسط الأقوال وأعدلها، ولا يجوز له أن يفتي بالخضوع لضغوطهم، وعليه أن يتجنب غرائب الأقوال وشذوذات الفقهاء، ويراعي حال السائل وعرف مجتمعه، ومقاصد الشريعة من غير خروج عن سنن الفتيا الرشيدة.

ولا يجوز لمتصدِّرٍ للإفتاء أن يفتي بهوى السلطان، أو يحضر مجالس أهل الظلم والطغيان إلا لضرورةٍ، والسلامة لا يعدلها شيء.

قال الله تعالى:

وَلَا تَرْكَنُوٓا۟ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ
(11 : 113)
[هود: 113].

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى