مقبرة الإمبراطوريات.. حين سحق الأفغان جيوش بريطانيا العظمى
بقلم محمود خالد
“أنتم الإنجليز تستطيعون إبقاء تابعكم (شاه شجاع) بواسطة القوة لبعض الوقت، ولكن ما إن تتركوا البلاد حتى ينهار حليفكم ويُقذف به خارج حدود المملكة، فهو لا يستطيع أن يصمد في وجه العاصفة القومية والدينية المُعادية في صدور الأفغان التي على وشك الانفجار ضده”.
(زعيم ولاية “قَلات” الأفغانية في مواجهة ضباط الحملة البريطانية على الهند عام 1838)
في خريف عام 2001، بدأت الطائرات الأميركية من طراز “بي-52” بالإغارة على أفغانستان إثر هجوم 11 سبتمبر/أيلول الشهير، بعد أن خرج الرئيس الأميركي الأسبق “جورج بوش الابن” مُعلِنا الحرب على “الإرهاب الدولي”، وعلى رأسه تنظيم القاعدة، وحركة طالبان التي احتضنتها آنذاك. اكتملت الدائرة في التاريخ العسكري لأفغانستان بهذا الهجوم الذي استمر عقدين كاملين شهدت فيهما البلاد “عشرينية سوداء” انتهت للغرابة الشديدة بانتصار الأفغان على أعظم إمبراطورية عسكرية في القرن العشرين وحتى يومنا هذا.
كان موقع أفغانستان في مفترق طرق الحضارات العظمى للعالم القديم مسوِّغا جوهريا لتطاحن هذه القوى وتكالبها عليها مرة بعد أخرى، لكن موقع أفغانستان المتوسط لم يكن وحده هو الذي فجَّر غضب الناتو والولايات المتحدة عام 2001، بل كان انعزالها أيضا عن بقية دول العالم وعدم خضوعها للنظام الدولي المعاصر الذي نشأ عقب الحرب العالمية الثانية السبب الأهم في الغضب على الأفغان هذه المرة.
بحسب المؤرخ الأميركي ستيفن تانر في كتابه “أفغانستان: التاريخ العسكري منذ عصر الإسكندر حتى سقوط طالبان”، فإنه “بخلاف البلاد الجبلية الأخرى، مثل بيرو ونيبال والنرويج وحتى سويسرا التي تُعتبر أقرب مثال لها في البلاد الأوروبية، لم يكن مقدرا لأفغانستان أن تعيش في هدوء وسلام بعيدا عن بقية العالم، فمنذ فجر التاريخ المُدوَّن، كانت أفغانستان محور طموحات إمبريالية عديدة بدءا من الإمبراطورية الفارسية العظمى، أول إمبراطورية في العالم تمد سطوتها عبر القارات، وصولا إلى الولايات المتحدة الأميركية التي تُعَدُّ أعظم قوة في العصر الحديث”[1].
هكذا قُدِّر إذن للأفغان أن يعيشوا متوالية لا تنتهي من الصراعات منذ فجر التاريخ مع الساسانيين والفرس والإسكندر المقدوني، وفي ظلال الإسلام الذي دانوا له بولاء لا ينقطع وارتبطوا معه بعُرى لا تنفصم، ثم مع تعاقب الدول عليهم منذ السامانيين والغزنويين والسلاجقة والمغول والغوريين والصفويين والأفشاريين والقاجاريين وممالكهم الداخلية المستقلة، وحتى البريطانيين والسوفييت، ثم أخيرا الأميركيين.
لا تُعَدُّ أحداث اليوم، التي يخرج فيها الأميركي مُنسحِبا في مشهد لم يكن يتخيَّله أعتى مخرج هوليودي، غريبة على الأفغان الذين اعتادوا النصر وقهروا أكبر القوى في أزمنة مختلفة، حتى وصفهم الإنجليز بـ “مقبرة الإمبراطوريات” لِمَا ذاقوه على أيديهم من الذل والصَّغَار في القرنين التاسع عشر والعشرين.
لا يُعَدُّ هذا الوصف لأفغانستان من قِبَل الإنجليز غريبا على كل حال، لا سيما أن أول هزيمة مُني بها البريطانيون في عز قوتهم وبطشهم جاءت على يد الأفغان حين اصطدموا بهم في الحرب الإنجليزية الأفغانية الأولى (1838-1842). ساعتها، ظن الإنجليز أن أفغانستان بلاد يمكن احتلالها بواسطة شركة الهند الشرقية ثم بالنزول العسكري، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن الدبلوماسية والقوة العسكرية لا تُجديان نفعا مع قوة الأفغان وصلابتهم الذين لم يلينوا طوال تاريخهم لأي محتل أو غازٍ.
فلماذا اشتعلت الحرب الأفغانية الإنجليزية الأولى عام 1838؟ ولماذا انهزم الإنجليز رغم احتلالهم أجزاء واسعة من أفغانستان ودخول كابول مرتين، بل وأَسْر زعيم الأفغان دوست محمد؟ وكيف انتهت هذه الحرب بانسحاب مدوٍّ للإنجليز؟ ذلك ما سنراه في قصتنا التالية.
يقول الشيخ جمال الدين الأفغاني عن أُمَّته وبني جلدته من الأفغان في كتابه “تتمة البيان في تاريخ الأفغان”: “نشأت هذه الأمة على الجلادة والإقدام، فكانت أُمة حربية لا تدين لسلطة الأجنبي عليها، حتى إنه في زمن محمود الغزنوي وجنكيز خان التتري وتيمور الكوركان الذين تمت لهم السلطة عليها لم تكن تبعيتها لهم خالية من الخطر، وكذلك في عهد انقسام ممالكها بين سلاطين الهند وفارس، إذ كانت تتربص بملوكها الشر دائما، وتترقَّب الفرص لإيقاد نار الفتنة”[2].
يمكن لهذه الخلاصة أن تكون مُنطلَقا تفسيريا لقراءة تاريخ أفغانستان في حقبها المختلفة، ولا شك أن حقبة القرن التاسع عشر الميلادي كانت فترة صراع ذئاب العالم المعاصر على كعكة القارات القديمة بشعوبها وثرواتها وثقافاتها؛ إذ كانت بريطانيا قد حطَّت أقدامها في القارة الآسيوية بإنشاء شركة الهند الشرقية بتفويض من الملكة إليزابيث الأولى عام 1600، بعد أعوام قليلة على انتصارها الساحق على عدوهم اللدود في البحار والمحيطات، إسبانيا، في معركة الأرمادا الشهيرة عام 1588. وفي منافسة شرسة على تجارة الشرق في الهند والصين والشعوب الآسيوية الجنوبية، التي احتكرها البرتغاليون والهولنديون، انطلق الإنجليز صوب كنوز الشرق الآسيوي بالكثير من الحماس والتخطيط، والقليل من الأخلاق والضمائر.
غير أن هذه الشركة التي سرعان ما بدأت في الجنوب الهندي وامتدَّت إلى سائر الولايات الهندية وحصلت على مكاسب مادية ضخمة من تجارتها وامتيازاتها بتصديق ورعاية ملوك وملكات بريطانيا، ما كان مساهموها يقبلون بتلك العوائد والأرباح التقليدية بمرور الزمن، و”كانت الطريقة المُفضَّلة لفرض الشركة سيطرتها على السوق هي التفاوض، لكنها كانت على استعداد لاستخدام كلٍّ من القوة والاحتيال إذا كانت هناك حاجة إلى ذلك”، كما يقول “نيك روبينز” في كتابه “الشركة التي غيَّرت العالم”[3].
بحلول القرن الثامن عشر، أصبحت شركة الهند الشرقية البريطانية منظمة حربية لا تعبأ بدماء الهنود، وتدافع بكل شراسة عن مصالحها بطرق شرعية وغير شرعية، فدخلت في معارك طاحنة ضد الهولنديين والفرنسيين والبرتغاليين، ثم تدخَّلت بكل قوة عسكرية مُمكنة في الشؤون السياسية لدولة مغول الهند طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، فقتلت حُكَّاما كانوا مناوئين لها، ودعمت آخرين ساندوها وكانوا عونا لها في السيطرة التجارية والعسكرية على بلادهم، وأبرزهم القائد البنغالي “مير جعفر” (جعفر الخائن كما تعني بالبنغالية) الذي اعترف به الإنجليز حاكما على البنغال في حدود عام 1760[4].
وبسبب انتشار الرشوة وفساد الإدارة اضطرت شركة الهند الشرقية إلى طلب قرض من الحكومة البريطانية، التي استغلَّت هذه الفرصة لإصلاح الشركة وضمها مباشرة للحكومة البريطانية. ثمَّ قرَّرت بريطانيا أن تُعيِّن حاكما إداريا عاما للهند، فما جاء الربع الأخير من القرن الثامن عشر إلا وشبه القارة الهندية في خضوع تام للبريطانيين، الذين أمَّنوا وجودهم بالمرواغة والتجارة، ثم الاحتكار، ثم القضاء على المنافسين المحليين والدوليين، ثم في نهاية المطاف بالاحتلال العسكري لشبه القارة الهندية التي اعتُبرت على الدوام، بثرواتها وكنوزها الاقتصادية والزراعية والتجارية، درة التاج البريطاني.
غير أن الخطر الذي بدأ يلوح في الأفق منذ القرن الثامن عشر الميلادي والنصف الأول من القرن التاسع عشر على الوجود البريطاني -ليس في الهند فقط، بل في القارة الآسيوية كلها- أتى من الروس الذين عمدوا إلى تنمية قدراتهم العسكرية والبحرية منذ عهد القيصر “بطرس الأكبر”، بعدما رأى القيصر الثروات الضخمة التي أحرزتها الدول الاستعمارية الغربية من الشرق وخصوصا الهند، فشرع يُخطِّط لمد تجارة روسيا وتعزيز نفوذها إلى هناك[5].
أدركت الإدارة الروسية القيصرية أيضا ضرورة مد نفوذها إلى وسط آسيا وإيران قبل أن تتطلَّع إلى منافسة البريطانيين على تجارة الهند، واستطاعت عبر مثابرة دبلوماسية وعسكرية أن تمد نفوذها على إيران، وأوعزت إلى الشاه الإيراني “محمد شاه” القاجاري في ضرورة الزحف إلى هِرات في غرب أفغانستان قُرب الحدود الإيرانية. وقد رضخ الشاه لمطالبهم واستعد لحملته جيدا، وهدفت روسيا من وراء ذلك إلى نشر نفوذها في إيران أولا ثم على أفغانستان كاملة قبل المواجهة مع البريطانيين في الهند[6].
لم يكن الإنجليز من جانبهم غافلين عمَّا يحيكه الروس وأهدافهم التوسُّعية في وسط آسيا وإيران، التي هدفت في الأخير إلى مد نفوذهم على الهند ذاتها، وقد حاولوا جاهدين اتخاذ الطرق الدبلوماسية لإثناء شاه إيران محمد شاه (1834-1848م) عن تحالفه مع الروس؛ إذ رآه البريطانيون آلة في أيدي أعدائهم ومنافسيهم.
فيما يتعلَّق بالأوضاع الداخلية في أفغانستان، التي وقعت بين فكَّيْ كماشة البريطانيين من الجنوب والشرق والروس والإيرانيين من الغرب، فإنها شهدت صراعات داخلية على زعامة البلاد بعد استقلالها عن حُكم الأفشاريين الإيرانيين، وتولَّى حكمها آنذاك أسرتان متعاقبتان؛ الأولى هي الأسرة “الدُرَّانية”، التي فرَّ أحد آخر ملوكها “شاه شجاع” إلى الهند في حماية البريطانيين بعد حروب مع الأسرة الثانية، “الباركزائية”، التي تمكَّنت من السيطرة على أفغانستان منذ عام 1823 وارتقى إلى زعامتها الأمير “دوست محمد” الباركزائي، وظلَّ يوحِّد أقاليم أفغانستان وحاول استعادة بيشاور من السيخ الذين حموا -بمساعدة البريطانيين- الملك المخلوع شاه شجاع، لكنه فشل في ذلك، رغم سيطرته على معظم الأقاليم الأفغانية بحلول عام 1835[7].
استمر الهجوم الإيراني المدعوم روسيًّا على هِرات لمدة عشرين شهرا كاملة بين عامَيْ 1836-1838، لكنه فشل بسبب مقاومة أهل هِرات الباسلة، التي تبعت فلول الأسرة الدُرَّانية الحاكمة السابقة، فضلا عن الهجوم الإنجليزي البحري على الخليج العربي ومهاجمة جزيرة خرج الإيرانية لإجبار الإيرانيين على وقف غزوهم. من جانبهم، كان حُكَّام الأسرة الباركزائية الجديدة وعلى رأسهم دوست محمد يرغبون في التقارب مع إيران نكاية في الإنجليز الذين وإن دعموا الأفغان، وفكّوا الحصار عن هِرات بالهجوم على الجزر الإيرانية، فإن مصلحتهم لم تكن مع الأسرة الباركزائية وإنما مع شاه شجاع.
وقد لخَّص العلامة جمال الدين الأفغاني هذه الحقيقة حين قال: “لما علم الإنجليز من أمراء الأفغان الميل إلى الإيرانيين؛ إذ كان دوست محمد خان أمير كابول و(أخوه) كُهَنْدِل خان والي قندهار وسائر إخوتهما يراسلون الشاه (الإيراني) في خلال محاصرته لمدينة هِرات ويودُّونه ويرسلون السفراء إليه، وتوجَّسوا من ذلك شرا خيفة اتفاقهم الذي يوجب تقلُّص ظلهم من بلاد الهند؛ فأخذوا إذ ذاك يترقَّبون فرصة لاستيلائهم على بلاد الأفغان”[8].
بحلول أكتوبر/تشرين الأول عام 1838، أصدر الحاكم البريطاني في الهند اللورد “أوكلاند” إعلان “سيملا” الذي ألقى فيه بالتهم ضد زعيم أفغانستان دوست محمد، وأفصح عن نيَّات بريطانيا غزو أفغانستان لوقف بادرة الزحف الأجنبي الذي يتسم بالروح العدوانية للهند (يقصد بذلك نشاط الدبلوماسية الروسية في كابل وطهران)، وكذلك إيجاد حليف لبريطانيا على الحدود الغربية لدرء العدوان وعزل الأسرة الباركزائية الحاكمة في كابول وقندهار لمساندتهم الروس والشاه الإيراني ومُعاداتهم للسيخ، أصدقاء بريطانيا في بلاد الهند والسند[9].
وعلى الفور انطلقت حملة عسكرية ضخمة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1838 بقوات بنغالية وسيخية وأفغانية موالية لشاه شجاع، وبمعاونة قيادات بريطانية تولَّت زمام قيادة هذه القوات التي بلغت ما يقارب 30 ألف مقاتل وانطلقت من الهند (وباكستان قبل انفصالها) صوب الأراضي الأفغانية، وقد صدرت الأوامر بتعيين مندوب ووزير مفوض في بلاط شجاع الملك وهو اللورد “ماكناتِن”.
استطاعت هذه الحشود العسكرية الضخمة التوغُّل في ولايات “زابل” و”غزني”. وفي زابل وعاصمتها قَلات، التي حكمها الوالي “محراب خان” الداعم والمؤيد لدوست محمد، صُدَّت الحشود البريطانية ببسالة كبيرة في بادئ الأمر، ونتيجة لذلك ذهب الضابط الإنجليزي “ألكسندر بِرنز” إلى “محراب خان” ليفاوضه على ترك الحشود العسكرية البريطانية البنغالية لكي تُكمل تقدُّمها باتجاه قندهار وغزني ثم كابل، ليرد عليهم قائلا: “أنتم الإنجليز تستطيعون إبقاء (شاه شجاع) بواسطة القوة لبعض الوقت، ولكن ما إن تتركوا البلاد حتى ينهار حليفكم ويُقذف به خارج حدود المملكة، فهو لا يستطيع أن يصمد في وجه العاصفة القومية والدينية المُعادية في صدور الأفغان التي على وشك الانفجار ضده”، بحسب البرقية التي أرسلها بِرنز إلى رؤسائه[10].
غير أن الإنجليز والبنغال ومعهم شجاع شاه تمكَّنوا من دخول قندهار وغزني وزابل وأخيرا كابل التي سقطت في أيديهم، وسرعان ما عيَّن الإنجليز في كل الأقسام الحكومية ضباطا إنجليز تحت اسم الاستشارة والاقتراح، بيد أن السلطة الحقيقية تركَّزت في أيديهم، وقد تعاملوا مع الموظفين والمواطنين الأفغان بكثير من التعدي والظلم، بينما فرَّ شاه دوست محمد إلى جبال الهندكوش الشرقية بعد الهزائم المتوالية التي تعرَّض لها، وشراء الذمم والرشى التي قدَّمها البريطانيون للكثير من قواته وزعماء القبائل[11].
تحت وطأة الإهانة الإنجليزية المباشرة واليومية، وضعف شاه شجاع وتبعيَّته المطلقة للبريطانيين، شعر كثير من زعماء الأفغان بكراهية ونقمة شديدة تجاه شاه شجاع الذي سلبهم السلطات والامتيازات والكرامة القومية التي تمتعوا بها في عهد الباركزائيين، ولهذا السبب عملوا على عودة دوست محمد الذي لجأ إلى أمراء بخارى في أوزبكستان للاحتماء بهم.
بحلول ربيع عام 1840، بدأ دوست محمد في إشعال ثورة الغضب في نفوس الأفغان وقيادتهم من جديد، بادئا من الشمال حيث انضمت إليه قبائل الأوزبك، بل ودعمه بعض من قبائل السيخ الوثنية التي رأت قهرا وظلما من الإنجليز، وكان الأفغان وزعماؤهم ورجال دينهم يرون شاه شجاع “كافرا” متعاونا مع البريطانيين ضد مصالح وطنهم ودينهم، لذا فقد اشتعلت جمرة الغضب في الأعراق الأفغانية كافة من الأوزبك والهزار والبلوش والبشتون وغيرهم، وبدأت المقاومة تؤتي ثمارها منذ سبتمبر/أيلول 1840 حين دحر دوست محمد وقواته البريطانيين من “سَيْغان” شمالا وأوجعوهم بضربات مؤثرة اضطروا معها إلى الفرار إلى “باميان” جنوبا[12].
ورغم هزيمة دوست محمد عند جبال الهندوكوش قُرب الحدود الباكستانية اليوم، فإنه لم ييأس ولم تفتر عزيمته واتجه صوب “قُهستان” غربا لتكون منطلقا جديدا في مقاومته ضد المستعمر البريطاني، وهناك أيَّدته القبائل التي راحت توجِّه ضربات موجعة للاحتلال البريطاني. وكان دوست ذكيا في تحرُّكاته وعدم تموقعه في مكان واحد، ورغم سقوطه أخيرا في أَسْر البريطانيين وإرساله سجينا إلى الهند فيما بعد، فإن ثورة عارمة اندلعت في قَلات وقندهار هذه المرة على يد قبائل الأبداليين أقارب شاه شجاع الذي اعتبروه خائنا قادما على ظهر مدافع الإنجليز، وثارت مثلهم قبائل “الغيلزاي” في غرب أفغانستان، ثم امتدت شرارة الثورة إلى شرق أفغانستان في مناطق ممرات “خيبر” ثم إلى قبائل القِزِلباش.
كلما أطفأ البريطانيون جمرة الثورة في إقليم من أقاليم الأفغان، اشتعلت في أخرى طوال مدة بقائهم، حتى بلغت شرارتها العاصمة كابول على يد أكبر قبائل أفغانستان، وهي “إشاقزاي”، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1841. رأى القبليون مدى الإهانة الإنجليزية لهم بتحميلهم الضرائب، ومعاملتهم باحتقار وكذب، فضلا عن تبعية شاه شجاع المطلقة لهم، وبعد سلسلة من الحروب والثورات والمعارك في داخل العاصمة كابول، استطاعوا القبض على أحد أهم زعماء الاحتلال البريطاني وهو الكابتن بِرنز، فقتلوه وأشعلوا النار في منزله، ثم تقدَّمت قوات الثوار الأفغان صوب مخازن السلاح والتموين البريطاني داخل العاصمة وسيطروا عليها.
طوال شهر نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام استطاع الأفغان دحر البريطانيين وقتل المئات من جنودهم في ثكناتهم التي تمركزت داخل العاصمة كابول وخارجها، وحقَّقوا انتصارات متوالية، فأبادوا قوات بريطانية كاملة في مناطق عدة منها كابول، وإزاء هذه الهزائم الساحقة اضطر الإنجليز إلى التفاوض على شروط “مشرفة” للانسحاب من أفغانستان، لكن الأفغان لم يقبلوا ذلك وأصرّوا على “استسلام القوات البريطانية دون قيد أو شرط وتنازلها عن ذخائرها باعتبارها غنائم حرب”. وحين رفض المندوب البريطاني ذلك، كان رد الأفغان: “إننا سنتقابل في ميدان المعركة”[13].
وبالفعل، كانت المعارك جحيما على البريطانيين الذين أُرغموا على العودة إلى سلسلة شاقة من المفاوضات والمراوغات، وقد تزامن ذلك مع عودة “محمد أكبر خان” ابن دوست محمد ملك الأفغان وزعيمهم هاربا من سجون الهند، وقرَّر “أكبر خان” وزعماء الثورة الآخرون التخلُّص من كبار المفاوضين والزعماء البريطانيين وعلى رأسهم المندوب البريطاني لشركة الهند الشرقية اللورد ماكناتِن، وبالفعل قُتِل وأحد معاونيه، وألقي القبض على ثلاثة آخرين من كبار الضباط البريطانيين، وعند هذه المرحلة أدرك الإنجليز أن بقاءهم للمزيد من الوقت يعني الفناء والتدمير التام.
لهذا السبب أُجبر الإنجليز على توقيع اتفاقية ديسمبر/كانون الأول 1841، التي نصَّت على انسحاب القوات البريطانية من كابول على الفور بعد 24 ساعة من تسلُّمها العربات التي ستنقلها إلى الحدود مع الهند، وانسحاب القوات البريطانية كاملة المتمركزة في “جلال أباد” إلى “بيشاور” قبل وصول البريطانيين المنسحبين من كابول، وإبقاء عدد من الرهائن البريطانيين حتى ضمان عودة الزعيم وملك أفغانستان دوست محمد والإفراج عنه من محبسه[14]. وبحلول أكتوبر/تشرين الأول 1842 انسحبت القوات البريطانية من أفغانستان، وفي العام التالي، عاد الزعيم الأفغاني دوست محمد الباركزائي بزهو إلى مُلكه في كابول بعدما أشعل شرارة الثورة والقتال في جبال الهندوكوش، لتُسطِّر أفغانستان بعدها أولى ملاحم النصر ضد أعتى القوى العالمية في القرن التاسع عشر، تماما مثلما فعلت مع السوفييت والأميركيين فيما بعد.
_________________________________________________________
المصادر:
- أفغانستان؛ التاريخ العسكري ص11.
- جمال الدين الأفغاني: تتمة البيان في تاريخ الأفغان ص22.
- روبينز: كيف بنت شركة الهند الشرقية الإمبراطورية البريطانية ص83.
- عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند ص350، 351.
- Boulger D, Central Asian Question. P.26.
- محمد حسن: الحرب الأفغانية الأولى ص59، 60.
- فاروق حامد: تاريخ أفغانستان ص58، 59.
- الأفغاني: تتمة البيان ص96.
- The Brit. Museum, Auckland’s Papers, ps2096.
- Havelock, H, Narrative of the War in Afghanistan, in 1838-39 v1.p261.
- محمد حسن العيلة: السابق ص
- السابق.
- السابق ص131.
- السابق 171.