مقالاتمقالات المنتدى

مقاييس النصر والهزيمة

مقاييس النصر والهزيمة

 

بقلم د. سلمان السعودي (خاص بالمنتدى)

لم يشهد التاريخ جريمة إبادة متكاملة الأركان كالجريمة التي تنفذ في قطاع غزة، فلقد تحزبت دول الكفر بقيادة أمريكا بدعم مطلق للدولة المارقة التي زرعت عمدا في فلسطين، دولة ( الاحتلال الصهيوني ) دعما عسكريا، وماديا، وبشرينا، ولوجوستيا، ولقد أمدوها بجسور من الأساطيل الجوية، والبحرية، والبرية، وأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة، والصواريخ، والمتفجرات، وقد أقاموا جريمتهم تحت موافقة بعض الأنظمة العربية وصمت البعض الآخر، فمارسوا ضد شعب غزة ابشع أنواع الجرائم، من تجويع، وتدمير، وقتل، وحرق، وتهجير، لم يتركوا وسيلة للجريمة إلا واستخدموها، حتى حرب المستشفيات، قتلوا الأطقم الطبية والمرضى، ودمروا المباني والأجهزة الطبية، ومولدات الكهرباء، وقطعوا عن الشعب الكهرباء والماء والغذاء والدواء، حتى لوثوا الهواء، فأي جريمة أكبر وأبشع من ذلك.
وهاهو قد مضى الشهر الثامن والعالم العربي والإسلامي في سبات عميق كسبات الضفدع في طين المستنقع، وسبات الأفعى في عمق رمال الصحراء، وأقصى سقف بعضهم استنكار على استحياء، والبعض منهم يعمل وسيطا بين الضحية والجلاد، وما زالت جريمة الإبادة مستمرة.
لقد ضجر الناس من كثرة الجرائم، وخذلان العرب والمسلمين، فللإنسان طاقة محدودة، فتقديم الطعام والشراب للذبيحة ليس طوق نجاة لها، إنما طوق النجاة يكون بجيش كجيش المعتصم، وقائد كخالد بن الوليد، وصلاح الدين الأيوبي، وفارس يغضب كحمزة بن عبد المطلب، ولكن هو قدر الله تعالى يختبر به الأمة، فيفوز فيه من يفوز، ويخسر فيه من يخسر.
وهنا أتوجه إلى الذين يتخذون من القتل والدمار مقياسا وحيدا للنصر والهزيمة، ويعتقدون بأن الدخول في معركةغير متكافئة العدد والعتاد مهلكة تنافي مقاصد الدين والتشريع، فأقول وبالله التوفيق:
أولا: الذين قالوا ان الدخول في المعركة غير المتكافئة تهلكة، ويستدلوا بقول الله تعالى: ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )
هذه الآية الشريفة، ذكر أهل التفسير أنها نزلت في الأنصار بالمدينة المنورة، لما أرادوا أن يتركوا الجهاد وأن يتفرغوا لمزارعهم، أنزل الله في ذلك قوله تعالى: ( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (البقرة:195)، فبيّن سبحانه أن المراد بذلك هو: التأخر عن الجهاد في سبيل الله مع القدرة،  فواجب على المسلم التباعد عن أسباب الهلكة وأن يتحرز منها، إلا بالطرق الشرعية، كالجهاد وغيره.
ودليلنا على أن عدم التكافؤ بين الفريقين في دخول المعركة ليس مخالفا لمقاصد الدين والتشريع نأخذه من كتاب الله تعالى وذلك في قوله: ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة ٢٤٩).
فلم تذكر السيرة ولا التاريخ بأن هناك معركة دخلها النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته كان فيها جيش المسلمين مكافئ لجيش الكفار، لا عددا ولا عتادا، ولقد أكد الله تعالى بأن النصر منه وحده فقال تعالى: ( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (الأنفال: ١٠)
كما أكد الله تعالى على أن ميزان النصر والهزيمة هو نصر الله في دينه فقال تعالى:  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (محمد: ٧)
وأكد الله تعالى أن الإعداد الذي طلبه من عباده من باب الأخذ بالأسباب وبحسب الاستطاعة، ولم يذكر فيه شرط التكافؤ فقال تعالى: ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) (الأنفال: ٦٠)
إن الله تعالى جعل الإنسان في الأرض خليفة له فيها من أجل إعمارها بحسب المنهجية التي فرضها سبحانه وتعالى، فقال: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً .. ) ( البقرة: ٣٠ ) وقال تعالى: ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ .. ) ولكن نجد بأن الطبيعة البشرية توضح لنا بأن الصراع القائم بين بني البشر هو صراع على السيادة والتملك، فكان أول صراع على الأرض بين البشر هو صراع بين ابني آدم قابيل وهابيل، قال تعالى: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ  ) ( المائدة: ٣٠ ) وهنا توضح الآية بأن القاتل مهزوم، والمقتول منتصر، وفي ذلك دلالة على أن مقاييس النصر والهزيمة ليست مادية بحت، ولو كانت كذلك لكان القاتل هو المنتصر.
والله سبحانه وتعالي وضح لنا بأن المعايير المادية دون الأخذ في الاعتبار بالمعايير الربانية الإيمانية لا تصح أن تكون مقياسا للنصر والهزيمة، وذلك من خلال قصة ( طالوت وجالوت ) وهذه القصة تحكي عن طائفتين من بني إسرائيل، توضح الاستخلاف في الأرض، قال تعالى: ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (البقرة: ٢٤٩)
فالطائفة الأولى: عندما أخذت بمنهج الخوف من لقاء العدو، والتولي عند الزحف، والإعراض عن منهج الله تعالى في الدفاع عن الحق والمقدس، فشلت في قضية الاستخلاف، وكانت الهزيمة من حظها.
أما الطائفة الثانية عندما اتخذت الشجاعة منهاجا، وصدقت، وأطاعت، وكان لديها قوة يقين وتوكل على الله تعالى في نصرة منهجه سبحانه، كان لها النجاح والاستخلاف في الأرض.
والله تعالى ضرب هذه القصة ليؤكد لنا على أهمية القتال لحماية المنهج، واستدامة التمكين، وأن الجبناء والخائفين لا يصلحون لحمل المسؤولية وأداء الأمانة الربانية، قال تعالى: ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (آل عمران ١٧٣).
فالطائفة الأولى خافت الناس وقوة البشر، متغافلة عن من يملك القوة المطلقة، ومن يملك خاصية تفاعل هذه القوة، فكما سلب خاصية الحرق من النار في قصة إبراهيم عليه السلام، وخاصية الذبح من السكين في قصة اسماعيل عليه السلام، هو القادر أن يسلب كل قوة ويبطل مفعولها.
والطائفة الثانية لم يزدها التهديد إلا إيمانا وحسن توكل على الله تعالي، والثبات على المنهج والصبر في الميدان، فكان حليفها النصر والتمكين.
لا ننكر أثر فظاعة الخسارة من الأنفس والماديات من عمران واقتصاد، ولكن لا يجب علينا أن نعتبر هذه الخسارة هي المعيار الوحيد للنصر والهزيمة، قال تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) (البقرة: ١٥٥) والبشرى هي النصر من الله تعالى رغم كل الفقد.
فالفقد في الفئة المتوكلة على الله تعالى وتجاهد في سبيله دفاعا عن الدين والمقدسات والوطن، هو اختبار لثباتها وصبرها، فالفقد في حقها هو فقد من أجل العطاء، قال تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ  ) ( النور: ٥٥) .
وهذا الاستخلاف والتمكين واستبدال الخوف بالأمن يكون بعد الصبر على الصبر بالمصابرة والرباط رغم الخوف، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ  ) ( آل عمران: ٢٠٠ ) وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” موقفُ ساعةٍ في سبيلِ اللهِ خيرٌ من قيامِ ليلةِ القدرِ عندَ الحَجرِ الأسوَدِ “.
وإن قضية فلسطين هي الميدان الحقيقي في الشرق الأوسط على وجه الخصوص الذي يمثل الصراع من أجل الاستخلاف الرباني على هذه الأرض المباركة، فهو صراع بين تمام الحق وتمام الباطل، تمام الحق المتمثل في قدسيةالأرض، أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، أرض المحشر والمنشر، محط الإسراء، وبوابة المعراج، المرابط فيها يجري أجره بعد موته إلى يوم القيامة، ذكر الله تعالى بركتها في القرآن فقال: ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ  ) (الأنبياء: ٧١) وقوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ  ).
وتمام الباطل المتمثل في الأحزاب الذين أنشأوا المنظمة الصهيونية ودعموها للاستعمار والاستيطان على أرض فلسطين، ويسعون لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم مكانه، وطمس جميع المعالم المقدسة، وتهجير أهل فلسطين، وقيام دولة يهودية على أرضهم، لأنهم يعلمون بأن سر السيادة على الشرق الأوسط هو بقيام دولة يهودية على أرض فلسطين.
فإذا أرادت الأمة أن يكون لها الاستخلاف في الأرض والسيادة على مقدراتها، فعليها أن تتحرر من العبودية لغير الله تعالى، وأن تقوم بأسباب الاستخلاف والتمكين الذي  بينه الله تعالى في كتابه، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (المائدة: ٣٥) وقال تعالى: ( انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (التوبة: ٤١)،  وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عمر عنه”  إذا ضَنَّ الناسُ بالدينارِ والدرهمِ ، وتَبَايَعُوا بالعِينَةِ، وتَبِعُوا أذنابَ البقرِ ، وتَرَكُوا الجهادَ في سبيلِ اللهِ ، أَدْخَلَ اللهُ تعالى عليهمْ ذلًّا ، لا يَرْفَعُهُ عنهمْ ؛ حتى يُراجِعُوا دينَهمْ “.
مصابنا في فلسطين جلل، والدمار في غزة إبادة، والفقد لا يحتمل، والغدر خنجره مسموم، والجرح عميق، ونزفه لا يتوقف، كبئر ارتوازي ماؤه لا ينضب، ولكن عزاؤنا في ذلك كله أننا أمة تؤمن بالغيب ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) نؤمن بما وعدنا الله به من بشرى خير ( وبشر الصابرين ) نؤمن بموعود الله لنا بالتمكين ( ليستخلفنهم في الأرض ).
فالنقص في الأنفس والثمرات، ودمار العمران، ليس معيار هزيمة، إنما معيار الهزيمة ترك أوامر الله تعالى، فالنفوس لها أجل لا تموت حتى تستوفيه ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ).
من لم يمت بالسيف مات بغيره * تعددت الحالات والموت واحد.
خالد بن الوليد رضي الله عنه لم يبقى في جسده موضع شبر إلا وفيه طعنة رمح أو ضربة سيف ولكنه مات على فراشه.
وما جائحة كورونا عنا ببعيد، فقد قضى فيها ملايين البشر، وتسونامي لقد أهلك الآلاف من المصطافين الذين كانوا يتمتعون بجمال الطبيعة والشواطئ الخلابة.
الجهاد فرض لا هلكة فيه، إنما هي إحدى الحسنيين، نصر أو شهادة، فرحة بالنصر والتمكين، أو شهادة يرتقي فيها الشهيد ليصبح في حضرة الله تعالى ينظر إلى نور ربه، ويجتمع مع نبي الله والذين سبقوا من الشهداء في جنات عرضها السماوات والأرض، يتمتعون في غرف الفردوس الأعلى، فالجهاد هو الفريضة الخامسة، فكما فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج، فرض الجهاد فقال: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى