أهمية استقراء فقه الأئمة السابقين لمقاصد الشريعة، وعنايتهم بها، وتقعيداتهم لها، تبرز في حاجة الساحة المعاصرة للانطلاق في الرؤية المقاصدية من تأصيل علماء الأمة الأقرب لنقاء المنهج وحسن المقصد وسلامة التوظيف؛ خاصة وأنه توجد حملة معاصرة تستهدف النيل من النصوص والأحكام تحت غطاء علم المقاصد. وكتاب د. عمر بن صالح بن عمر، الذي بين أيدينا هو في أصله رسالة دكتوراه في أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون في جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان، وصدر عن دار النفائس بالأردن، عام 2003م. وتكمن أهمية الكتاب في كونه يبحث في علم المقاصد الذي تحتاجه الأمة لفهم النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح, وللتخفيف من حدة الخلاف بين فقهاء الأمصار، والذي يعود جله لسوء فهم مقاصد الشريعة كما يؤكد الباحث.
وبعد أن ذكر الباحث سبب اختياره لهذا العنوان ومنهجه في طريقة المناقشة والعرض والصعوبات التي واجهته أثناء البحث.. عرض خطة البحث الذي جعله في ثلاثة أبواب وخاتمة.
الباب الأول تضمن لمحة عن حياة الإمام العز بن عبدالسلام؛ وقد جعله الباحث في ثلاثة فصول:
الأول منها تناول عصر الإمام العز والحياة السياسية في عهد الدولة الأيوبية والمماليك. وأشار الباحث إلى أن المتتبع للأحداث السياسية في عصر العز بن عبدالسلام يلحظ فساد نظام الحكم عند المسلمين، وضعف الوازع الديني، وظاهرة التفرقة والتشرذم، وخيانة الوزراء، وانهيار معنويات المسلمين. أما الحالة العلمية في عهد الإمام العز فقد كانت نشطة مزدهرة؛ ومن مظاهر ذلك المساجد التي كانت تعتبر مراكز ثقافية وعلمية, والمدارس الكثيرة المتعددة, والمكتبات المزدهرة بحركة الترجمة، وتطور صناعة الورق, والمناظرات وبعض المؤلفات.
في الفصل الثاني تحدث المؤلف عن حياة الإمام العز الشخصية، وتناول اسمه ونسبه أولا, وكذلك ولادته ونشأته ووفاته. ثم ذكر حياة الإمام العز العلمية والعملية في الفصل الثالث. وقد بدأ الباحث بيان تعلمه الذي بدأه على كبر كما تقول بعض المصادر, بينما رجح الباحث تعلم الإمام في الصغر لكثير من الأدلة ذكرها, مشيرا إلى تدرج الإمام في التعلم حتى أصبح يطلق عليه “سلطان العلماء”. وبعد أن ذكر الباحث شيوخ الإمام العز كالحرستاني وابن عساكر والآمدي وغيرهم, استعرض مؤلفاته في التفسير وعلومه, وفي الحديث والعقيدة, والفقه وأصوله, والفتاوى والسيرة وغير ذلك, ومكانة هذه المؤلفات وثناء العلماء عليها, ولا أدال على ذلك من تدريس مؤلفاته وتداولها ونسخها والنقل منها, كما تناول الباحث في هذا الجانب تلاميذ الإمام العز، وعلى رأسهم القرافي وابن دقيق العيد. أما حياة الإمام العز العملية فقد اختصرها الباحث في: التدريس في دمشق ومصر, والإفتاء حيث كان مفتي مصر والشام, والخطابة فقد كان خطيب الجامع الأموي بدمشق, وخطيب جامع عمرو بن العاص في مصر, والقضاء الذي تولاه في مصر, والجهاد في سبيل الله بكلمة الحق وبالسيف والسنان.
في الباب الثاني تناول الباحث موضوع جلب المصالح ودرء المفاسد؛ وقد جعله في تمهيد وخمسة فصول. في التمهيد تناول إثبات المقاصد للشريعة، بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والاستقراء والمعقول؛ مشيرا إلى أن مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش والمعاد, مؤكدا علاقة المقاصد بعلم أصول الفقه, ومبديا رأيه بأن مقاصد الشريعة موضوع من ضمن موضوعات أصول الفقه التي لا تخرج عن أحوال الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية المبحوث عنها, مؤيدا ذلك بعدة وجوه وأدلة.
وحول معنى المقاصد والمصالح والمفاسد والمقارنة بينها تمَّ الحديث في الفصل الأول؛ بعد أن بين الباحث معنى كل من المقاصد والحكمة لغة واصطلاحا, مشيرا إلى العلاقة بينهما, بالإضافة لبيان معنى العلة وعلاقتها بالمقاصد, ومعنى النية والإرادة لغة واصطلاحا وعلاقتها بالمقاصد, ومعنى المصلحة والمفسدة وتعريفها عند الأصوليين, وضوابط المصلحة عند الإمام العز بن عبدالسلام, كأن تكون مندرجة في مقاصد الشريعة, وألا تفوت مصلحة أخرى أهم منها.. الخ. ثم انتقل الباحث لاستعراض لمحة تاريخية عن التأليف في مقاصد الشريعة, نوه خلالها بأهمية التأليف في المقاصد أولا, واستعرض بعدها مسيرة التأليف في هذا الفن قبل الإمام العز, سواء عند الأصوليين كأبي اسحاق الشيرازي وإمام الحرمين الجويني وغيرهم, وكذلك عند الفقهاء والمفسرين, ليصل إلى التأليف في المقاصد بعد الإمام العز بن عبدالسلام, فذكر نماذج ممن ألف في المقاصد باعتبارها كلا جامعا, ومن ألف فيها بوصفها أجزاء متفرقة.
أما الفصل الثاني فتناول أقسام المصالح والمفاسد؛ وفيه استعرض الباحث جميع أقسام المصلحة بجميع اعتباراتها, فذكر المصالح باعتبار:
رتبها: الضروريات فالحاجيات فالتحسينيات.
تحصيلها: مصالح واجبة التحصيل, ومندوبة التحصيل، ومباحة التحصيل.
كمالها: حيث قسمها الإمام العز إلى: الكمال والأكمل, فجعل أكمل المصالح ما كان في أفضل الأعمال: كالمعرفة والإيمان.
الثواب والعقاب: فجعلها الإمام العز قسمين: الأول ما يثاب على فعله لعظم المصلحة في فعله, ويعاقب على تركه لعظم المفسدة في تركه، وهي ضربان: فرض على الكفاية كجهاد الطلب وتعلم الأحكام الشرعية الزائدة على المكلف, وفرض على الأعيان كتعلم ما يتعين تعلمه من أحكام الشريعة؛ والثاني ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، وهو أيضا ضربان: سنة على الكفاية كالأذان والإقامة, وسنة على الأعيان كالرواتب وصيام النافلة.
توقع حصولها: فهي إما مصالح متوقعة الحصول, أو ناجزة الحصول, أو مشتركة بين الأمرين.
معرفتها: ما يشترك في معرفته الخاصة والعامة, وما ينفرد بمعرفته الخاصة, وما ينفرد بمعرفته خاصة الخاصة.
تعديها وقصورها: مصالح متعدية وأخرى قاصرة.
تعلقها بعموم العامة أو أفرادها: مصالح عامة كحفظ الدين وكيان الامة، وأخرى خاصة كحق الإنسان المحض, وما يشترك فيه المصلحتان كالإمام بالصلاة.
وبمثل ما قسم الإمام العز بن عبدالسلام المصالح باعتبارات مختلفة, قسم المفاسد أيضا باعتبار رتبها إلى كبائر وصغائر, وباعتبار حكم درئها إلى ما يجب درؤه وعبر عنه بمفاسد التحريم, وما يستحب درؤه وعبر عنه بمفاسد الكراهة, وباعتبار الثواب والعقاب, وباعتبار توقع الحصول, وباعتبار معرفتها.
وتطرق الكاتب في الفصل الثالث إلى طرق الكشف عن المصالح والمفاسد عند الإمام العز بن عبدالسلام؛ فذكر منها النص، وقد عبر عنه الإمام العز بالشرع تارة, وبالكتاب والسنة تارة أخرى, وبالنقل تارة ثالثة, والإجماع وإن كان لم يتناول الإمام العز هذا الطريق بالبحث والتفصيل, بل اكتفى بالإشارة إليه كطريق، والقياس والاستدلال الصحيح، حيث أشار إليهما الإمام في معرض حديثه عما تعرف به المصالح والمفاسد دون أن يفصل فيهما القول –أيضا.
كما ذكر العقل، وأكد الإمام على أهمية النظر في أكثر من موضع, مشيرا إلى أن النظر فكر مُوصِلٌ إلى معرفة أو اعتقاد أو ظن, ويشرف النظر بشرف المنظور فيه. وبعد أن ذكر الباحث أهمية ومكانة العقل عند الإمام العز, تناول ضوابط هذا الطريق عنده: كالحذر من ابتاع الهوى ومن أحادية المعرفة عند البحث عن المصالح. كما جعل الظن المعتبر فرع عن العقل، إذ أنه حكم العقل بأمر على أمر حكما غير جازم باحتمال راجح -كما ذكر القرافي. وقد ذكر الباحث بعد ذلك ضوابط الظن المعتبر عند الإمام.
وذكر أيضا من طرق الكشف عن المصالح والمفاسد الاستقراء الذي عده الإمام العز طريقا من الطرق الموصلة إلى معرفة المصالح والمفاسد, وصرح بذلك مرارا، بخلاف الشاطبي الذي يتفق مع الإمام في عدة طرق؛ بالإضافة إلى التجارب التي يرى فيه الإمام العز طريقا للكشف عن المصالح والمفاسد أيضا, وقد سبقه إلى هذا الغزالي, وتبعهما الشاطبي.
وحول تزاحم المصالح والمفاسد وطرق الموازنة بينها كان الفصل الرابع. وتناول الباحث من خلاله عدة أنواع من التزاحم. الأول: تزاحم المصالح فيما بينها: وقد حصرها الإمام العز في ثلاثة أنواع، هي: تزاحم مصالح راجحة وأخرى مرجوحة، وتزاحم بين مصالح متساوية يتعذر الجمع بينها، وتزاحم بين مصالح مختلفة في تفاوتها وتساويها. الثاني: تعارض المصالح والمفاسد: وقد جعلها ثلاثة أنواع، هي: تعارض مصالح راجحة مع مفاسد مرجوحة، وتعارض مصالح مرجوحة مع مفاسد راجحة، وتعارض مصالح ومفاسد متساوية. الثالث: تزاحم المفاسد فيما بينها: وقد حصرها في نوعين هما: تزاحم مفاسد راجحة وأخرى مرجوحة، وتزاحم مفاسد متساوية.
وأما عن طرق الموازنة بين المصالح والمفاسد فذكر الباحث أولا مقومات الموازنة، ومنها: توفيق الله والاجتهاد والمشاورة والفطرة السليمة ونبذ الهوى, كما تناول أهمية الموازنة من خلال حديثه عن القواعد الفقهية المتعلقة بالموازنة, وآثار الموازنة أيضا.. ليبدأ بعد ذلك بذكر طرق الموازنة بين المصالح، وهي:
الجمع: حيث أكد الإمام العز أن القاعدة عند تزاحم المصالح هو تحصيلها وجلبها جميعا إن أمكن.
الترجيح: ويسلك الإمام هذا الطريق عند تعذر الجمع بين المصالح المتزاحمة.
التخيير: وذلك عند تساوي المصالح مع تعذر الجمع, ولا يكون ذلك إلا عند استفراغ الجهد في البحث عن تحصيل مرجح ما لمصلحة على أخرى.
التوقف: ويسلكه الإمام عند التحير في التفاوت والتسوي أو الجهل بالترجيح.
ولا تختلف طرق الموازنة بين المفاسد عند تزاحمها عن طرق الموازنة بين المصالح عند تزاحمها، والتي ذكرت سابقا: الجمع والترجيح والتخيير والتوقف؛ كما لا تختلف طرق الموازنة بين المصالح والمفاسد عند تعارضها عن ذلك.
في الفصل الخامس تناول الكاتب المجال التطبيقي لمقصد جلب المصالح ودرء المفاسد، مشيرا إلى أن جلب المصالح ودرء المفاسد يكون في الدين والدنيا, في الدين كالمعارف والأحوال, وفي الدنيا كالمعاملات والتصرفات. وقد بين ذلك الإمام العز بجعله جلب المصالح ودرء المفاسد ضربان:
ما يتعلق بحقوق الخالق سواء كانت خالصة لله أم مركبة من حقوق الله والعباد.
ما يتعلق بحقوق المخلوقين التي جعلها في أقسام ثلاثة، هي: حقوق المكلف على نفسه، وحقوق بعض المكلفين على بعض، حقوق البهائم والحيوان على الإنسان.
وقد أفاض الإمام العز في الحديث عن هذه الحقوق لما تعنيه من مطالب حيوية للأمة وحاجاتها المتنوعة في شتى مرافق حياتها.
وتطرق الباحث للوسائل الشرعية لتحقيق المقصد العام في الباب الثالث، حيث تطرق في الفصل الأول لتعريف الوسائل وأقسامها ومدى ارتباطها بالمقاصد. وعن مدى ارتباط الوسائل بالمقاصد أكد الباحث أن الوسيلة تستمد قيمتها التشريعية واعتبارها من المقاصد التي شرعت من أجلها جلبا لمصلحة أو درءا لمفسدة, وأنه على الغالب تكون الوسائل مرتبطة بالمقاصد من أربع حيثيات، هي: الحكم، والسقوط، والرتبة، والثواب.
كما تطرق في الفصل الثاني شرع أحكام عامة لتحقيق عامة المقاصد، مؤكدا في التمهيد على أن الوسائل التي شرعها الله تعالى لتحقيق المقاصد هي أحكامه التي أنزلها في كتابه أو جاءت في سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, وأنه ما شرع شيء من الأحكام إلا لجلب مصلحة أو درء مفسدة. ثم شرع الباحث ببيان الوسائل العامة لتحقيق المقاصد، وهي:
المعرفة: حيث يرى الإمام العز بأنها أصل كل خير، ومصدر كل بر، ومصرف كل شر, ولا يمكن تحصيلها إلا بالعلم الذي يهدي للعمل.
أمر المكلفين بتصحيح مقاصدهم: فالإنسان كتلة هائلة من القصود والتوجهات, وبها يتفاضل الناس ويمتازون, والمعتبر شرعا من هذه المقاصد ما تعلق به غرض صحيح محصل لمصلحة أو درء مفسدة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فقد ذكر دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحقيق المقاصد, مؤكدا أنه يحقق مقاصد الشريعة ويحافظ عليها من جانب الوجود ومن جانب العدم.
شرع التخفيف ورفع الحرج: وقد شرح الباحث هذه الوسيلة -التي هي في نفس الوقت مقصد من المقاصد المعتبرة شرعا- من خلال شرح معنى الحرج والمشقة أولا، مناقشا سؤال: هل المشقة مقصودة شرعا؟ وهل يؤجر عليها؟
الأمر بإقامة العدل: وهي من الوسائل الجالبة للمصالح والدارئة للمفاسد عند الإمام العز بن عبدالسلام, وقد ذكر الباحث السبل لإقامة العدل كإقامة الولايات ونصب القضاة والأمر بالعدل والنهي عن الظلم.
أما في الفصل الثالث والأخير فقد تطرق الباحث لشرع أحكام خاصة لتحقيق المصالح الضرورية. وأشار في التمهيد إلى أن الإمام العز قد أكد ان الله تعالى شرع لكل تصرف جالب لمصلحة أو دارء لمفسدة من الأركان والشروط ما يحصل تلك المصالح ويدرأ المفاسد, فإن اشتركت التصرفات في الشروط والأركان كانت مشروعة في جميعها, وإن اختص بعض التصرفات بشيء من الشروط أو الأركان اختص ذلك التصرف بهما.
وقد ذكر الباحث عن الإمام العز أن من التصرفات ما يشترط فيه العلم, ومنها ما يشترط فيه الظن، ذاكرا وسائل تحقيق المصالح الضرورية والمحافظة عليها، بادئا بوسائل تحقيق الدين والمحافظة عليه, ثم وسائل المحافظة على النفس, وهكذا في وسائل حفظ النسل والعقل والمال.
وفي ختام كتابه القيم والمفيد ذكر الباحث بعض نقاط التجديد عند الإمام العز بن عبدالسلام، كسعيه لتقنين أصول الفقه، وربط الأصول بأهدافها الحيوية، وإعادة دمج ثمارها في واقع الحياة، وتقسيم المصالح والمفاسد تقسيمات كثيرة، وإبراز تعدد الوسائل وتنوعها لتحقيق مقاصد الشريعة حتى لا يصيب المكلف ملل ولا ضيق، وكثرة الطرق الموصلة إلى معرفة المصالح الدنيوية عند الإمام –رحمه الله.
المصدر: مركز التأصيل.