مقالات

مقاربة مقاصدية معاصرة لظاهرة «الجماهير»

بقلم د. مسفر بن علي القحطاني

يُستعمل مصطلح «الجماهير» في التراث الفقهي للدلالة على معان متعددة، فهناك من يطلقه للحكاية على اتفاق الأكثر من العلماء بأنه قول الجماهير، وهو يختلف عن الجمهور في الاصطلاح الفقهي الذي غلب استعماله على وصف الثلاثة من الأئمة الأربعة إذا اتفقوا على قول، فيقال هذا قول الجمهور بمعنى اتفاق أبي حنيفة ومالك والشافعي ومخالفة أحمد على سبيل المثال، بينما علماء اللغة لا يفرقون ولا يخصصون، ويرون أن الجمهور هو مفرد لجماهير، أي جماعات الناس، لأن الأصل اللغوي يعود في الإطلاق على الرمل الكثير المتراكم الواسع كما ذكر الأصمعي (انظر: لسان العرب لابن منظور 4/149 طبعة صادر، والنهاية لابن الأثير 1/816 طبعة دار الكتب العلمية 1979م)، لكن هناك إطلاق مختلف وهو المراد تخصيصه في هذا المقام والمتعلق بالتوصيف الكمي للإنسان وكثرته، وفي هذا الاستعمال تكاثرت المرادفات اللفظية لمعنى واحد يتمحور حول مصطلح (الجماهير) كالغوغاء والرعاع والهمج والعامة؛ بل قيل فيهم السفلة والأراذل، وهذه الإطلاق السلبي جاء للدور الذي يضطلع فيه العوام عند الأزمات وما يرتكبونه من بشاعات، تؤكده بعض أحداث التاريخ الماضية، فنجد أن وصف الغوغاء قد لحق بالخوارج الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه، وعلى الذين تآمروا على مقتل الحسين رضي الله عنه، وكذا على المواجهات التي تتصادم فيها العامة اتباع المذاهب والطوائف مع بعضهم، كما حدث من مواجهات طائفية بين حنابلة بغداد والشيعة خصوصاً في عام 482هـ. (انظر: تاريخ الإسلام للذهبي 7/349)

يظهر التوافق الضمني في التوصيف السلبي للجماهير والغوغاء، كونهم في الأزمات يميلون للجنوح وتستميلهم العواطف ويندفعون نحو الصدام بلا تروي ونظر، وقد وصفهم عبدالرحمن بن عوف في قصة معروفة حكاها ابن عباس، الشاهد منها؛ ما قاله عبد الرحمن بن عوف لعمر يثبطه عن القيام خطيباً في الناس يوم الحج بعدما سمع كلمة بدأت تنتشر بين الناس؛ أن خلافة أبي بكر كانت فلتة وأن الناس بعد موته سوف تبايع فلاناً وفلاناً، فقال: «يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطيّرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها» (صحيح البخاري رقمه 6830 )، ومثله ورد عن قائد مجرّب هو عبدالله بن عامر بن كريز يصف خطر الغوغاء وكيفية التعامل معهم، حيث قال: «فإن غوغاء الناس إذا تفرغوا وبطلوا اشتغلوا بما لا يغني وتكلموا بما لا يرضي، وإذا تفرقوا نفعوا أنفسهم وغيرهم» (البداية والنهاية 7/167 طبعة مكتبة المعارف)، وعند العرب في أمثالهم يقولون «أغوى من غوغاء» ويشبهونهم بالجراد إذا ماج بعضه في بعض قبل أن يطير. (انظر: المستقصى في أمثال العرب للزمخشري 1/264 طبعة دار الكتب العلمية ط2 1987م) هذه النظرة التراثية الحذرة جداً من الجماهير لها ما يبررها من الواقع ومن الأحداث التي مرت في التاريخ، ولكنها نظرة مختزلة وسطحية، لم تفكك أسباب هذا الجنوح، ولم تكتشف عوامل التأثير في تلك الجماهير حتى أصبحت موطن الفساد وسبب الفوضى والخراب، وفي هذا الاتجاه سار غالب فقهاء السياسة الشرعية في محاولة متوارثة لتهميش دورها وشيطنة وجودها، حتى أضحى تهميشاً متعمداً للسواد الأعظم من الأمة، وكأنهم مجرد حشد من الأعداد ليس لهم سوى نصوص السمع والطاعة (انظر: تاريخ ابن خلدون 1/199 و 4/150، بدائع السلك في طبائع الملك لابن الأزرق 1/17)، يُبنى على ذلك احتمال آخر له شواهده المتعددة بحيث نستطيع وصف أدبياتنا التراثية على تنوعاتها بأنها نخبوية، لم تراع دور الجماهير وتؤسس على ذلك الوجود حقوقاً أو نظماً في المشاركة، أو تنطلق من مجموعها في إثبات المرجعية الحقيقية للأمة بحيث تصدر عنها أهم القرارات المصيرية، ومن أشهر ما يذكر كمثال على هذا الحطّ من الجماهير استشهادهم بأثر كُمَيْلُ بنَ زيادٍ عندما قال له الإمام علي رضي الله عنه: «إن هذه القلوبَ أَوْعيةٌ، فخيرُها أوعاها، فاحفَظْ عني ما أقولُ لك: الناس ثلاثةٌ: فعالمٌ ربَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ، وهَمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، مع كلِّ ريحٍ يميلون، لم يَسْتَضيئوا بنور العلم، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ» (إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم طبعة الرسالة 2/220)، ومع أن هذا الأثر قد علّل سبب هذا الانتقاص من الجماهير وجاء في سياق الحث على العلم، إلا أنه وُظِّف بعد ذلك في تهوين العوام غير المتعلمين وجعلهم في دائرة من يخاف خطرهم وضررهم.

هذه النخبوية التراثية تقودنا لطرح عدد من الأسئلة حول الموقف الإسلامي من الجماهير؟ وهل مبحث الجماهير اختصاص اجتماعي أم ديني أم سياسي؟ وهل يمكن أن نخلص بنظرية عامة تتكامل فيها حقيقة وخصائص الجماهير في التراث الشرعي؟ ولأجل الوصول لإجابات مقنعة، أضع أمام القارئ هذه الرؤى المقاصدية وفق تنزيلاتها على واقعنا المعاصر من خلال المسائل التالية:

أولاً: الإسلام الذي جاء لرفع كرامة الإنسان أياً كان، وعامله القرآن على أساس الإيمان ولم يحكم عليه في الأصل بالجهالة أو الغواية، لهو دليل واضح على أن الوصف الجماهيري في مجمله ليس دليل نقص لهم، فالإسلام لم يحطّ من قدر الجموع من الناس إلا إذا كانت على ضلال، وعندما نبّه القرآن في أكثر من مقام أن الكثرة ليست دليل الصحة، جاء ذلك في سياق تثبيت المؤمنين عندما يترددون أو يحتارون من قلة السالكين وكثرة المكذبين للأنبياء والرسل، وليس وصفاً ملازماً لهم، وبتتبع كلمة «الناس» في القرآن وجدت وفي أكثر من 172 موضعاً أن القرآن لم يصفهم بالذم إلا في سياق الضلال والانحراف، ولم يقصد إهانة هذا الوجود البشري على أساس الأصل، وهذا مستبعد تحققه في أفعال الله القائمة على الحكمة والعدل والرحمة بالناس جميعاً، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (44 سورة يونس) ويمكن أن أجمل مقصد الإسلام في رؤيته لجماهير الناس في ثلاثة أوصاف: أحدها، أنهم مستخلفون في الأرض، وثانيها، أنهم مبتلون في الحياة الدنيا، وثالثها، أن تفاوت الناس أساسه التقوى.

وإذا سلّمنا بصحة ذلك من خلال دليل استقراء الوحي، فإن نظرة الانتقاص والدونية كونهم عوام لم يبلغوا من العلم أو الشهرة أو القدرة على الغلبة ليست صحيحة دينياً، والخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بمجموعها، وفضلها محفوظ في عدم اجتماعها على ضلاله، وحتى الضعفاء المساكين قال فيهم عليه الصلاة والسلام: «هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم» (رواه البخاري، رقمه 2896).

ثانياً: إذا كانت النظرة الدينية للجماهير إيجابية في مجملها، فكيف حصل هذا التنقص والتخوّف الذي سبق ذكر بعض شواهده، وتناولته الكثير من الروايات والأدبيات التراثية؟!، وللإجابة على هذا التساؤل نحتاج أن نتعرف على المجالات الأخرى التي ساهمت في صناعة التصور الذهني عن الجماهير، وأهمها المجال الاجتماعي والسياسي، بمعنى أن واقع الجماهير الحياتي وتشابكهم مع السلطة ساهم في صناعة هذا الانطباع حولهم، ولتسليط النظر حول هذا الواقع، لا يسعنا إلا الرجوع إلى ما كتبه الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون (1841- 1931م) في توصيفه العميق لهذه الظاهرة من أبعادها الاجتماعية والنفسية في كتابه ذائع الصيت «سيكولوجية الجماهير» (نشر دار الساقي، ترجمة هاشم صالح، الطبعة السادسة 2015) وكان عمله العظيم إنصافاً للجماهير الذين ظلموا في عدد من الدراسات العلمية من خلال ربطهم بالإجرام والفوضى، بينما قد يكونوا صوتاً للحق ومحرّضاً للفضيلة، كما قام بتحليل واقعهم الثوري والمجتمعي، وطبيعة انسياق الجماهير خلف قادتهم المؤثرين كهتلر وموسوليني وغاندي وماو تسي تونغ وغيرهم. ولا يخفى أن لوبون لم ينفِ البُعد الديني والعقدي في شحذ الجماهير إلى أشد صور الهياج الشعبي، ولكنه جعل للعرق التاريخي دوراً محورياً في جمع الناس وتحريضهم، فالحراك الجماهيري يحيل الجميع مهما اختلفوا وتعددوا إلى روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات وتخفض مستوى الملكات العقلية، مثل المركب الكيماوي الناتج من صهر عناصر عدة مختلفة. ولعل من أهم نتائج دراسة لوبون حول الجماهير؛ امتلاكها وحدة ذهنية في حالة كان التجمع نفسياً، فهو يفرّق بين الاجتماع المتجانس كاجتماع الطوائف والزمر والطبقات، وبين الاجتماع غير المتجانس كجماهير الشارع وهؤلاء يصفهم بالمغفلين، وهناك منهم غير مغفلين مثل اجتماع هيئات المحلفين والمجالس البرلمانية وغيرها، ولكنهم إذا تحركوا جماهيرياً مهما اختلفت تجمعاتها فإنهم ينساقون نحو أفعال لا يقدرون نتائجها المآلية، وحتى لو بلغوا مستوى عالٍ من الثقافة أو العقيدة أو الشأن الاجتماعي فإنهم في العادة يحتاجون للخضوع السحري الأشبه بالتنويم المغناطيسي لقائد محرّك يجذبها بهيبته وخطابه أكثر من عقلانيته، ولذلك كان أعظم قادة الجماهير من ذوي الذكاء العاطفي المؤجّج للحماسة والمحفّز للمخيال بحيث يهيمون في طاعته من دون تفكير.

ثالثاً: طرأ في تفسير الحالة الجماهيرية مستجدات عدة ساهمت في خلق تصور مختلف ربما لم يطرأ على ذهن لوبون أو فرويد أو بودريار أو موسكوفيتشي ممن بحثوا هذه الظاهرة، وأهم هذه المستجدات تلك التجمعات الجماهيرية الكبرى التي لا يربطها العرق التاريخي ولا المعتقد الديني؛ بل تجمّعها الهائل فرضته الثورة التقنية المتسارعة في شكل مذهل، فمواقع التواصل الاجتماعي على وجه التحديد خلقت جماهير غفيرة في ساحات افتراضية، وأصبحت تتداعى عند كل محفز للاجتماع، وأدمنت حضورها الجماهيري في شكل يومي أو أقرب من ذلك، كما أنها وجدت ضالتها في الخدمة الإلكترونية التي تمنح الفرد الشغف في التواصل من دون ملل أو انقطاع، من خلال الدخول السريع عليها بفضل تطور أجهزة الاتصال الكفية، والقدرة على التأثير من خلال نشر الصور والمقاطع، وهو ما كان لوبون يؤكده في أكثر من موضع بأن «الجمهور يفكر عن طريق الصور» (سيكولوجية الجماهير ص 67)، وبجولة سريعة على أهم برامج التواصل الاجتماعي نجد بوضوح كيف أصبحت المجموعات في (الواتس أب) مثلاً تسوق الناس نحو آراء معينة أو تحليلات غريبة، ويتأثر بها المشاركون على رغم وجود بعض المتميزين علماً وفقهاً، وكيف أصبح (تويتر) و(السناب شات) ينشر عدوى القبول لأفكار ورؤى من خلال نشرها والتعليق العاطفي عليها، والتكرار الصامت الذي يجعلها تنساب بلطف خفي إلى أعماق الوعي بلا وعي!، وهذا ما جعل الشائعة أحياناً تبلغ في لحظات قصيرة أصقاعاً بعيدة في العالم ويتداولها الملايين في لحظات من دون تمحيص صدقيتها، وحتى لو ثبت كذبها عند البعض فهناك الجمهور الأكثر من المستسلمين التابعين لن يفكروا في ردّها ما دام هناك تراض واسع لقبولها، وأحياناً يحصل التجمهر الافتراضي بمجرد أن يقرأ أو يسمع الفرد كلمة الحرية أو المساواة أو الحقوق وغيرها يتحول مع غيره إلى تابعين منفّذين يستسهلون كل المخاطر لأجلها.

فمن خلال ما قدّمه لوبون من دراسات حول ظاهرة الجماهير؛ يرى أن أهم الوسائل لإدخال الأفكار ببطء وصمت وعمق إلى روح الجماهير، -وغالب القادة المؤثرين يستعملونها -، هي: التأكيد والتكرار والعدوى (المرجع السابق ص 132). والتقنية اليوم ساهمت في تأجيج هذه الأساليب في شكل مذهل بالتأكيد على موضوعات معينة يستطيع أي شخص أن يذكرها في حسابه وأمام متابعيه في تلك المواقع، والتكرار والإعادة هي السمة الأبرز فيها ما يجعلها تفتح أبواب المنافسة بين كل المشتركين في تلك المواقع للوصول إلى أكبر عدد من القبول أو التعليق وأكثر دخول وأكثر مشاهدة، وبالتالي تصبح العدوى في هذا المناخ في تهيّج مذهل تكفي شرارة واحدة لدفع الناس إلى الشارع بلا تردد، وعلى سبيل الاستشهاد: كان المقطع الذي صورته صديقة شابٍ أسود من ولاية مينيسوتا الأميركية قُتل على يد رجل شرطة أبيض في 7 تموز من هذا العام، ثم نشرت هذا المقطع في موقعها على فايسبوك والذي كان سبباً في خروج تظاهرات بالآلاف في غالب الولايات الأميركية، والانتقام قتلاً لعدد من رجال الشرطة، ولم تنفع تدخلات الرئيس أوباما للتهدئة، كل ذلك ما كان ليقع لولا هذا المقطع وتحفز الجماهير للاستجابة المباشرة عندما انطلقت شرارتها.

ويمكن الجزم أن هذه البرامج والمواقع التواصلية كانت السبب المؤثر والأبرز في صيرورة الأحداث، فتأجج ثورات الربيع العربي كان من إسهام تويتر وفايسبوك، وأصبح قادة الرأي العام اليوم ليس هم الساسة أو المفكرين فحسب؛ بل هناك شباب مجاهيل لا يملكون أي بضاعة سوى فن التواصل والإغراء للجماهير يستطيعون بهذه المهارات تحريك المجتمع بما لا تستطيعه القوة العسكرية من تأثير، ولم تقف هذه القوة الناعمة عند هذا الحد؛ بل أصبحت هي السوق الاقتصادية المغرية للأرباح التي لا تعرف معنى الكساد الذي يمر بالعالم، والطريق الأمني والاستخباراتي الأول لمراقبة ومتابعة الناس من دون الحاجة للأموال أو المجندين. إنها وبجدارة الساحة الجماهيرية الأولى التي تعيد صياغة الأفكار وصناعة التوجهات للعالم الحديث.

وفي الختام، يجب أن ندرك أننا لسنا أمام إبداعات تقنية ومتع فردية فحسب، إننا أمام معطيات تغييرية لها قدرة على الحشد والتأثير غير المسبوق، وقديماً قال لوبون: «إن مجيء عصر الجماهير يمثل إحدى آخر مراحل حضارة الغرب» وينبّه: «أن التاريخ يعلمنا أنه عندما تفقد القوى الأخلاقية التي تشكّل هيكل المجتمع زمام المبادرة من يدها، فإن الانحلال النهائي يتم عادة على يد هذه الكثرة اللاواعية»!! (المرجع السابق ص 46،47).

*المصدر : جريدة الحياة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى