مفهوم الخلافة في الاستعمال القرآني ودور الإنسان في الأرض
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
ترد كلمة “خليفة” في الاستعمال القرآني بالمفهوم الحياتي البنائي الشامل، فمهمة الإنسان عمارة الأرض، ولهذا خُلق، قال الله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [سورة هود: 61].
قال الله سبحانه وتعالى في سياق الكلام عن خليفته في هذه الأرض: {إنِّيْ جَاْعِلٌ فِيْ الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة: 30]، ظن الملائكة بأنفسهم أنهم أهلاً للخلافة بالتسبيح والتقديس، فكشف الله لهم أن المهمة لا تتم بمجرد هذا؛ هي مهمة البناء، والكدح، والأعباء، مهمة لا يقوم بها إلا من كان مخلوقاً من الأرض، المهمة منوطة بمن أصله الطين والتراب والماء، الخلافة في الأرض هي عبادة آدم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات: 56]؛ فالصلاة والذكر وإصلاح الأرض والضرب فيها وكشف أسرارها أعمال صالحة تتعاضد وتتكامل.
والخلافة لا تكون إلا حين يكون هذا الكائن يخلف بعضه بعضاً في عبادة تراكمية اختيارية، تقوم على تلك الأمانة العجيبة التي أبت السماوات والأرض والجبال حملها فحملها الإنسان ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [سورة الأحزاب: 72].
والخلافة تقوم على حرية إرادة هذا الكائن وحرية اختياره؛ ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [سورة البلد: 10].
والخلافة والاستعمار في الأرض تجعل الكشف والبناء والعلم والاختراع لخدمة الإنسانية مهمة ربانية وليست أمراً هامشياً أو ثانوياً.
إن الإنسان خُلق ليُسختلف وليس ليكون نسخة أخرى من الملائكة.
والاستخلاف هو عمارة الأرض بحسب نظام الله، والتسبيح والذكر عونٌ ومددٌ لإنجاز المهمة والصبر على تبعاتها وتكاليفها ومشقاتها، والصلة بالله هي للأمل والحب والتسامح والنجاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
وليست الخلافة مهمة سياسية فحسب، بل هي تكليف معرفي وإنساني واسع. (سلمان العودة، علمني أبي مع آدم من الطين إلى الطين، ص 94).
الله حاضر لا يغيب، وفي حديث السفر: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل).
وليس المقصود بالخليفة شخص آدم فقط، بل المقصود به نوع الإنسان عامة، فالآية جاءت في معرض الإخبار بخلق نوع جديد وليست في معرض البيان لأحوال خاصة بشخص آدم.
إن هذه الخلافة في الأرض تتطلب تنفيذ مراد الله في إقامة الحياة على الأرض، إذ من معاني الاستخلاف التكليف بتنفيذ الأوامر التي تصب في تعمير الأرض وتحقق عبودية الله عز وجل، والاستخلاف في هذا المقام هو استخلاف تشريف للخليفة.
إن غاية حياة الإنسان في نطاق عقيدة الخلافة أن يقوم بحركة تعمير في الأرض وفق أوامر الله ونواهيه، بحيث يكون في كل منشط مادي أو معنوي متجهاً إلى الله تعالى؛ يستجلي مراده ويتحرّاه ويبتغي مرضاته، ويجدّ في الفوز بها، وبهذا المعنى تكون حركة الإنسان على الأرض في كل اتجاهاتها الفردية والجماعية والمادية والمعنوية حركة عبادة لله تعالى.
أصل البشرية:
يقول تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}، يؤكد هذا النص القرآني الكريمُ أن أصل البشرية كلها زوج واحد خلقه ربنا تبارك وتعالى خلقاً خاصاً بـ “الخليفة”؛ لأنه تعالى وضع في بنائه القدرة على التزاوج وإنتاج سلالة خصبة ملأت الأرض ببلايين من الأفراد الذين عاشوا وماتوا، وبالبلايين الذين يملؤون جنبات الأرض اليوم، وبالبلايين الذين سوف يأتون من بعدنا إلى قيام الساعة.
وهذا من معاني لفظ “الخليفة”؛ لأن البشر يخلف بعضهم بعضاً على الأرض، ولأن كل فرد منهم مستخلَف من الله تعالى على الأرض استخلافَ تكريم وتشريف مع الابتلاء والامتحان لكل فرد من بني الإنسان.
وأكد ربنا تبارك وتعالى حقيقة خلق أبوينا آدم وحواء من نفسٍ واحدةٍ فقال عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [سورة النساء: 1].
كذلك أكد الله الخالق سبحانه وتعالى خلافة البشر بعضهم لبعض وهم من أصل واحد، فقال وقوله الحق: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [سورة الحجرات: 13].
ويؤكد القرآن الكريم أن البشر جميعاً (إلى قيام الساعة) كانوا في صلب أبيهم آدم عليه السلام لحظة خلقه، وأن الله تعالى قد أسجد الملائكة لأبي البشر، ونحن جميعاً من صلبه، فكأنما أسجدهم لنا جميعاً نحن الخلفاء في الأرض، آدم وجميع نسله، إلى آخر فرد من هذا النسل، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [سورة الأعراف: 11].
ومن هنا تتضح ومضة الإعجاز الإنبائي والعلمي في قول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [سورة البقرة: 30]، وذلك يدل بالتأكيد على الحقيقة التاريخية لأبوينا آدم وحواء عليهما السلام، اللذين أرادت الحضارة المادية المعاصرة إنكار وجودهما إنكاراً تاماً، وردّ البشرية إلى عدد من الأصول الحيوانية المختلف عليها دون دليل قاطع (زغلول النجار، من آيات الإعجاز الإنبائي والتاريخي، 1/81)
مفهوم الخلافة الشامل:
إن مفهوم الخلافة يدخل في السياسة، والاقتصاد، والحياة الاجتماعية، والرياضية، والفنية، والأدبية والشعرية، وفي كل نواحي الحياة، إذا عاش كل إنسان في أي مجال من مجالات الحياة بالقيم الإنسانية الجميلة، وتقرّب بها إلى الله عز وجل، وتناغم مع الكون في الإصلاح، وحارب الفساد، فكل إنسان بهذا المفهوم هو خليفة في هذه الأرض.
الغاية والحكمة من خلق الإنسان:
إن الحكمة من خلق الإنسان حددها ووضع معالمها الله سبحانه وتعالى، فالحكمة سابقة على الخلق، وقبل أن يبرز آدم عليه السلام من العدم إلى الوجود بيّن الله تعالى الحكمة من وراء خلقه؛ ألا وهي الخلافة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [سورة البقرة: 30].
وهذه الآية الكريمة إنما هي إحدى الأجوبة الثلاثة التي ذكرها القرآن الكريم لتحديد الغاية والحكمة من خلق الإنسان، وتلك الآيات هي: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات: 56].
وقوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [سورة البقرة: 30].
وقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [سورة آل عمران: 110].
وهذه الدعوة هي حقيقة هذه الأمة التي أكسبتها صفة الخيريَّة على سائر الأمم قبلها. إذن مهمة الإنسان في الحياة لا تنحصر في دائرة الشهوات، وإلا تردّى إلى مرتبة البهائم، وإنما خُلق ليكون خليفة قائماً يَدين الله في نفسه، عابداً لربه، داعياً غيره لطاعة الله وامتثال أمره.
ومتى قام بهذه المهمة فهو كالشجرة الطيبة التي تثمر أطيب الثمار وأحلاها، وتؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها، ومن غفل عن غاية وجوده فهو كالشجرة العقيم التي لا ثمر لها، فتكون نهايتها هي القطع، وتصبح حطباً ووقوداً مع الحجارة للنار. (خالد عبد العليم، وقفات في حياة الأنبياء، ص 13).