مفهوم (الحكم بما أنزل الله) بين السطحية والحقيقة
بقلم الشيخ بشير بن حسن
بعد الأسئلة عن معنى هذه العبارة ، والتي قصدت بها الإثارة والتشويق ،لا التعجيز و التسفيه الصفيق، فإن كثيرا من الناس يرددون عبارات لا يعرفون معناها ، كما قال الحسن البصري رحمه الله لرجل يتعالم:( أما أنت فلا تدري ما تقول !! )
والحق أنه ليس السكران أو المجنون أو الخرِف فقط من لا يدري ما يقول ، بل حتى المتعالم ، والجاهل جهلا مركّبا أيضا، يعتقد أنه يعلم وهو لا يعلم .
إن الحكم بما أنزل الله، عقيدة راسخة في قلوبنا جميعا، لا يزايدنا عليها أحد ، وهي من غايات ومقاصد الاسلام الكبرى، فهو تعالى ألزمنا بذلك إلزاما لا مرية فيه ، قال تعالى( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شِرعة ومنهاجا) .
وقال ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا ويعلمون ).
ولكن ما المراد بما أنزل الله؟؟ فالله تعالى أنزل كتبا على انبياءه ورسله ، التي هي التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى والقرآن الكريم ، لأن حرف ( بما أنزل الله ) ما هذه اسم موصول يفيد العموم، فهل المراد الحكم بكل هذه الكتب ؟؟ قطعا لا ، فاذن هذا من العام الذي أُريد به الخصوص، والقرآن الكريم ناسخ لكل ما سبقه من الكتب ، قال تعالى( وانزلنا عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ).
و هل أنزل الله على نبينا صلى الله عليه وسلم الا القرآن؟؟ قطعا لا ، فقد أنزل الله عليه السنة أيضا ، كما قال تعالى( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة و علمك ما لم تكن تعلم وكان فصل الله عليك عظيما ) وفسرت الحكمة بالسنة .
وقال عليه الصلاة والسلام( ألا إنما أوتيت القرآن ومثله معه ).
وهل القرآن والسنة فقط يمثلان الشرع و يحصران معنى( بما أنزل الله )؟؟ هذا ما يعتقده السطحيون، وخاصة الغلاة ، والحق أن الكتاب والسنة معهما مصادر أخرى فما هي مصادر التشريع الإسلامي؟ وما قيمتها ؟؟
1-القرآن الكريم وهو ثابت ثبوتا متواترا لا شك فيه (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) . غير أن منه القطعي في الدلالة، وهو ما يسميه العلماء بالنصّ القطعي، الذي يوجب انعقاد الإجماع، وهذا في الحقيقة قليل جدا ،مقارنة بالظني الدلالة اي في معناه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه( القرآن حمّال الوجوه ) .
وتفسير القرآن في الظني منه جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد أو يخطىء !! و كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان الحاكم اذا اجتهد فأصاب فله أجران واذا أخطأ فله أجر ) رواه البخاري ومسلم. ( والمراد به المتخصص من أهل الاجتهاد ).
2- السنة النبوية: وهي ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته و أحواله كلها ، وهذه يختلف العلماء كثيرا في ثبوتها وفي دِلالتها، أي في صحة أسانيدها و معاني متونها، وهذا أيضا جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطىء.
3-الإجماع: وهو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد نبيها على حكم شرعي، وهو أنواع كثيرة ، فمنه الإجماع القطعي وهو الأقل ،ومنه الظني وهو الأكثر ، ومنه السكوتي ، ومنه المَحكي، بل منه المذهبي كما ينقل النووي رحمه كثيرا الإجماع في كتبه ويقصد بذلك إجماع الشافعية !!
بل من أهل العلم من اعتبر الإجماع ما كان في القرون الثلاثة الأولى كما هو رأي بن تيمية في الواسطية وقال الإمام أحمد:
(من ادعى الإجماع فقد كذب وما الذي أدراه لعلهم اختلفوا )
وهذا كما ترى اذن جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطىء!!
4- القياس : وهو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، وهو معتبر عند الأئمة الأربعة، وخالفهم ابن حزم فقد قال كلمته المشهورة ( من قاس فقد تشبه بالشيطان ) .
و توسع فيه الأحناف ، لذا تعتبر مدرستهم مدرسة أهل فقه ونظر ، والقياس أنواع، منه الجلي ومنه الخفي، ومنه قياس الشبه ومنه قياس التسوية في تفصيل طويل في علم الأصول.
وهذا أيضا جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطىء.
5- قول الصحابي: و اعتبر جمهور العلماء قول الصحابي حجة ما لم يخالف نصا أو قول صحابي أخر، ولكن بعضهم لا يعتبر قول الصحابي حجة الا اذا كان من الخلفاء الراشدين، او ممن شُهد له بالعلم!! ثم لا بد أن يثبت النقل عنه !!
وهذا أيضا جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطىء!!
6- الاستحسان: وهو أصل عند الأحناف وقد توسعوا فيه ، وأخذ به كثير من المالكية، وهو عبارة عن طريقة لاستنباط الحكم عند غياب النص ، مع مراعاة القواعد الشرعية العامة .
7-الاستصحاب: وهو أيضا أصل عند الأحناف، وهو عبارة عن جعل حالة سابقة في مسألة ما دليلا على حالة لاحقة .
وهذا أيضا جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطىء!!
8- عمل اهل المدينة: وهذا أصل من أصول المذهب المالكي، باعتبار أن أهل المدينة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تتلمذوا على ايديهم، فهم أوعية العلم الأوائل!!
وهذا أيضا جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطىء باعتبار ثبوت النقل ام لا!
9- العرف: وهو العادة المطردة من قول أو فعل تعارف عليه الناس، مما يحقق مصالحهم اذا لم يخالف نصا !!
ولذا من القواعد الفقهية الكبرى( العادة محكّمة) .
قال الناظم :
وكل ما أتى ولم يحدّد بالشرع * كالحِرز فبالعرف احدد.
10- المصلحة المرسلة: وهو شيء أطلق الشرع حكمه تتحقق به المقاصد الشرعية ، وهذا الأصل أخذ به جمهور العلماء، كقانون المرور مثلا، فهو من وضع الكفار ، ولكن مع ذلك فقد صادقت عليه الشريعة لأنه تُحفظ به النفوس والأموال. ومنه توثيق المواليد و عقود الزواج و شهادات الوفاة وغيرها مما تحفظ به الحقوق وتُصان به الأعراض.
وهذا أيضا جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطىء!!
11- سد الذرائع وفتحها : والذرائع هي الوسائل، وهذا الأصل عند المالكية وتبعهم فيه بقية الفقهاء خاصة الحنابلة المعاصرون،
وهذا أيضا جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطىء!!
12 – شرع من كان قبلنا ما لم يأت شرعنا بخلافه!! وهذا أصل عند جمهور العلماء، كالقرعة مثلا كطريقة بين للتمييز بين المتساوين في الحق وهو معمول به كثيرا في باب المعاملات بل حتى العبادات كما لو توفرت كل الشروط في شخصين رُشحا للامامة وقد تساويا في المؤهلات فإنه يُقرع بينهما .واستدلوا لذلك بقوله تعالى( وما كنت لديهم إذ يلقون اقلامهم أيهم يكفل مريم).
وهذا أيضا جهد بشري قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطىء!!
هذا الذي ذكرته كله داخل في قوله تعالى(فاحكم بينهم بما أنزل الله ) لان غير الكتاب والسنة من الأصول تسمى بمصادر التشريع الإسلامي، وهي أدوات ضرورية المجتهد، لا غنى له عنها .
إذ ليس كل جزئية من جزئيات الحياة ذكرتها نصوص الوحيين.
وأود أن أنبه على شيء : ألا وهو عقدة الكثيرين من المصطلحات ، التي يجمدون عليها ، فإن العبرة في الشريعة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، ولذا كم من تصرف يقال عنه انه الشرع والشرع منه براء ، وليس كل مدّعٍ لتطبيق الشريعة على حق ، خذوا على سبيل المثال لا الحصر داعش الارهابية المجرمة ومشتقاتها ، كما أنه قد يقال هذا قانون مدني أو وضعي وليس بالضرورة أن يتصادم مع الشرع ، اذا لم يخالف نصا أو قاعدة شرعية.
فاذن الحكم بما أنزل الله مفهومها واسع شاسع ، لا علاقة له بالعواطف الدينية البعيدة عن الحقائق والضوابط.
والله ولي التوفيق.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)