بقلم د. أحمد اللهيب – موقع المسلم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالجدير بالملاحظة أن علماء أهل السنة لم يعنوا تعريف التجديد عناية خاصة؛ ولعل هذا راجعٌ إلى أن معنى التجديد الذي قصده الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث كان واضحاً في أذهانهم، لذلك كانت آراؤهم في التجديد متناثرة في كتب الحديث وشروحها، تختلف عباراتها، ومضمونها واحد، وهي: العودة بالدين إلى ما كان عليه في أول أمره.
وإنما كانت عنايتهم منصبة على بيان من هو المجدد، وصفاته، والمقصود من رأس المائة.
فهذا الإمام الزهري يبدي رأيه فيمن هو مجدد القرن الأول، وشاع عنه هذا الرأي حتى إنه ليعد من أوائل الذين أثاروا الاهتمام بهذا الأمر(1).
والإمام أحمد يسرق مروياته لحديث التجديد بطرقها المختلفة، ثم يذكر من يرى أنه مجدد القرن الأول ومجدد القرن الثاني(2).
والسيوطي نظم أرجوزة صغيرة من ثمانية وعشرين بيتاً أسماها “تحفة المهتدين بأخبار المجددين”(3).
إذاً فالسؤال الذي كان قائماً في أذهانهم، والذي تركزت عليه كتاباتهم لم يكن ما هو التجديد، بقدر ما كان من هو المجد لكل قرن.
صفات المجدد:
يتضح مما تقدم أن المجدد هو من يقوم بإحياء ما انطمس من معالم الدين ودرس من جوانب الحق العلمية والعملية.
ولما كانت هذه المهمة واسعة الأرجاء، متشعبة المسالك، كان لا بد من توفر صفات عالية، ومواهب رفيعة تؤهل المجدد للتصدي لهذا الواجب على الوجه المطلوب، والغاية المأمولة.
وقد تحدث علماء السلف عن الصفات الواجب توافرها في المجدد حتى يصدق عليه هذا المديح.
قال المناوي في معرض حديثه عن صفات المجدد: (أنه يكون قائماً بالحجة، ناصراً للسنة، له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والدقائق النظريات من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالاته واقتضاءاته، من قلبٍ حاضرٍ وفؤاد يقظان)(4).
وقال العظيم آبادي: (إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصراً للسنة قامعاً للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه…)(5).
وقال في موطنٍ آخر: (فظهر أن المجدد لا يكون إلا من كان عالماً بالعلوم الدينية، ومع ذلك من كان عزمه وهمته آناء الليل والنهار إحياء السنن ونشرها، ونصر صاحبها وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب والتدريس، أو غير ذلك، ومن لا يكون كذلك لا يكون مجدداً البتة، وإن كان عالماً بالعلوم مشهوراً بين الناس مرجعاً لهم)(6).
ومما تقدم يمكن أن نستلهم أهم الصفات التي يجب توافرها في المجدد:
أ – صحة عقيدته وسلامة منهجه، بحيث يكون معتمداً على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومقتفياً آثار السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم؛ لأن من أخص مهمات المجدد إعادة الدين نقياً صافياً من كل العناصر الدخيلة عليه، لذلك انتقد العظيم آبادي ابن الأثير حينما أورد في إحصائيته للمجددين بعض علماء الشيعة الإمامية(7).
ب – أن يكون راسخاً في علوم الشريعة عموماً كما نص على ذلك المناوي وغيره(8).
ت – القدرة على تصور الواقع وفهم النوازل، وفقه النصوص وحسن الاستنباط منها بما يجيب عن إشكالات العصر، ويُوجِد الحلول والبدائل الإسلامية لما تقتضيه حاجات المجتمع(9).
ث – أن يعم نفعه أهل زمانه، وذلك بنشر العلم، والدفاع عن السنة، بحيث يكون منارةً يستضيء بها الناس، ويسترشدون بهداها،
وقد أشار السيوطي إلى هذا الشرط بقوله:
وأن يكون جامعاً لكل فن *** وأن يعم علمه أهل الزمن(10)
ج – أن يكون عاملاً بعلمه؛ ليصبح قدوة صالحة، وأسوة حسنة يهتدى بهديها، ويقتفى أثرها، ولقد كان جماعة من السلف يقصدون العالم الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، ولذلك قال كثيرٌ من السلف: (ليس العلم كثرة الرواية، ولكن العلم الخشية)(11).
ح – أن يكون مبعوثاً على رأس المائة؛ فرأس المائة من المعالم المميزة في تعيين المجدد(12).
ومع اتفاق علماء السلف على كون المجدد يكون على رأس المائة كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم إلا أن آراءهم قد تباينت في تحديد المراد من رأس المائة، هل هو أول القرن، أم آخره؟(13)، على قولين مشهورين أرجهما: أن المراد برأس المائة آخرها، مستدلين بما رواه ابن عمر رضي الله عنه، قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلَّم قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “أرأيتَكم ليلتَكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ” – قال ابن عمر – فوَهَلَ(14) الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض يريد بذلك أنها تخْرِمُ ذلك القَرْن)(15).
ووجه الدلالة من الحديث ظاهرة؛ حيث أراد برأس المائة آخرها كما فسر ذلك راوي الحديث بقوله: (يريد بذلك أنها تخْرِمُ ذلك القرنَ)، وقد ارتضى هذا المذهب الحافظ ابن حجر(16)، والطيبي(17)، وغيرهما.
ومما يقوي هذا المعنى أن أبا الطفيل عامر بن واثلة – رضي الله عنه – آخر من مات من الصحابة، كانت وفاته سنة مائة وقيل مائة وعشره(18).
وخلاصة الأمر: أن المجدد هو من كان على منهج السلف الصالح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: “من يجدد لها دينها” حيث أضاف الدين إلى الأمة، ولم يقل يجدد لها الدين، وذلك لأن الدين بمعنى المنهج الإلهي الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اشتمل عليه من عقائد وعبادات وأخلاق وشرائع تنظم علاقة العبد بربه وعلاقته بغيره من بني جنسه، ثابت كما أنزله الله لا يقبل التغيير ولا التجديد.
أما دين الأمة بمعنى علاقة الأمة بالدين ومدى تمسكها وتخلقها به، وترجمتها له واقعاً ملموساً على الأرض، فهو المعنى القابل للتجديد والتغيير، حيث يطرأ عليه الانحراف والتغيير والنسيان، فيأتي المجدد ليعيد الناس إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه بعلاقتهم مع الدين(19).
وأن يكون ممن خرم رأس القرن أي تجاوزه كما فهم ذلك ابن عمر – رضي الله عنهما -، وارتضاه جمع من أهل العلم كالحافظ ابن حجر والطيبي وغيرهما(20).
________________________________
(1) انظر: “عون المعبود”، شمس الحق آبادي (11/260).
(2) انظر: “طبقات الشافعية الكبرى”، للسيوطي (1/199-203) بتصرف.
(3) نقلاً عن “عون المعبود”، شمس الحق آبادي (3/265).
(4) “فيض القدير”، للماوي (1/10).
(5) “عون المعبود”، للعظيم آبادي (11/163).
(6) المصدر السابق (11/263-264).
(7) المصدر السابق (11/392).
(8) “فيض القدير”، لعبد الرؤوف المناوي (1/10).
(9) انظر: “تجديد الدين”، د. سليمان الغصن (ص28).
(10) النظم موجود بكامله في آخر كتاب “التنبئة” للسيوطي، وانظر: “عون المعبود”، للعظيم آبادي (11/391).
(11) “الزهد”، للإمام أحمد (ص185).
(12) مقصودهم في ذلك أن يكون البعث على رأس المائة، فإن البعث هو الإثارة والإرسال، فيكون المعنى: إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة مجدداً، أي: إن هذا المجدد يتصدى في رأس المائة (لنفع الأنام، وينتصب لنشر الأحكام). “فيض القدير”، المناوي (1/10).
فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة، بل تجديده؛ ولذلك استغرب الإمام المناوي فهم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن، وقال: (وموته على رأس القرن أخذٌ لا بعث). “فيض القدير”، المناوي (1/12).
وقال ابن الأثير: (وإنما المراد بالذكر: من انقضت المائة وهو حي، عالم مشهور مشارٌ إليه). “جامع الأصول”، لابن الأثير (11/324).
(13) تعتبر هذه المسألة مما يسع فيه الخلاف؛ لأنها من المسائل الفرعية التي لا تبنى عليها أصول الدين، ولا يترتب عليها حكم، كاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه هل كانت رؤية عينية أم رؤية قلبية؟ مع إثباتهم الرؤية في الآخرة. للاستزادة انظر: “شرح الطحاوية” لابن أبي العز (1/222).
(14) وهل الناس: أي غلطوا، يقال وهل يهل وهلاً: أي غلط وذهب وهمه إلى غير الصواب. انظر: “النهاية في غريب الحديث”، لابن الأثير (5/233).
(15) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، برقم (576)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، برقم (2537).
(16) انظر: “فتح الباري”، لابن حجر (1/212).
(17) انظر: “عون المعبود”، للعظيم آبادي (11/389).
(18) انظر: “الاستيعاب”، لابن عبد البر (12/14)، و”الإصابة”، لابن حجر (11/125).
(19) انظر: “تجديد الفكر الإسلامي”، لعدنان أمامة (ص66).
(20) انظر: “فتح الباري”، لابن حجر (1/212)، و”عون المعبود”، للعظيم آبادي (11/389).