بقلم السنوسي محمد السنوسي
نلاحظ حين نكون بصدد أفكار غريبة عن بيئة ما، ويُراد لها أن تُستنبَت في تلك البيئة؛ أن أصحابها يسلكون بها كل طريق براق، ويَصبُّونها في كل قالب جميل؛ لعلهم يصادفون عقلاً خاليًا فيتمكنوا، أو لعلهم ينجحون في إخفاء ما بالأفكار من عوار وثغرات.
“العلمانية” واحدة من هذه الأفكار والفلسفات، التي ينطبق على حال مروِّجيها هذه الملاحظة! فهم لا يكتفون في تدليسهم بإخفاء حقيقتها التي تصادم الدين، بل يزعمون أنها تتصالح معه، وأنه يمكن التوفيق بينها وبين الإسلام، جَمْعًا بين الحسنيين! إضافة إلى تدليسهم بأنها مشتقة من العِلْم، وتدعو للمنهج التجريبي، وليست مشتقة من اللادينية!
تلك ثلاث مغالطات نتعرض لها في هذا المقال بشيء من الإيجاز.
الأولى في اشتقاقها ومفهومها: العلمانية في اللغة العربية والأجنبية- وباعتراف أحد أكبر دعاتها- مشتقة من العَلْم، وليس العِلْم. فـ”لفظ علمانية مشتق من عَلْم: أي العالم. وفي اللغة الأجنبية مشتق من اللفظ اللاتيني (Secularism) أي العالم” (المعجم الفلسفي، د. مراد وهبة، ص: 432).
والفرق جذريٌّ بين الاشتقاقين؛ ففي الأول، أي من العالَم (وعليه تكون النسبة: عَالَمَاني، لكن جاز حذف الألف للتخفيف)، فالعلمانية تعني أنها حركة فكرية واجتماعية تكتفي بالعالم، ولا تعتمد شيئًا من خارجه، ولا تؤمن بغير ما تدركه الحواس.
وينبه د. محمد يحيى، المفكر المصري، رحمه الله، إلى أن أولى مغالطات العلمانية تتمثل في ذلك الاسم الذي اشتهرت به، والذي يوحي خطأ بنسبتها للعِلم؛ الذي أصبح من قوى القرن العشرين الكبرى والمنشودة بأي ثمن.
ويبين د. يحيى أن هذه الكلمة التي تنطق عادة بكسر حرف العين وسكون اللام، ترجمة ركيكة قام بها نصارى الشام لكلمة أوروبية هي “Secularism” بالإنجليزية، ولها نظائر في لغات الغرب الأخرى. موضحًا أن النطق الصحيح لها يكون بفتح العين واللام، كما أن الكتابة الصحيحة تكون بوضع ألف بعد العين “العَالَمانية”، لتدل بذلك على معناها، وهو النزعة الدنيوية المهتمة بشئون هذا العالم الذي نعيش فيه، وليس بأحوال أو اهتمامات العالم الآخر أو الغيب؛ وهو العالم الذي ينصب عليه بحث الدين وتعاليمه كما يفهمه الغربيون (“في الرد على العلمانيين”، ص: 11، الزهراء للإعلام العربي).
فالعلمانية ليست من العِلم، كما يزعمون، وإنما هي من العالَم، أي الاكتفاء بالعالم المادي المحسوس، وإنكار ما سواه. ولهذا، “فإن (اللادينية) هي أقرب ترجمة تؤدي المقصود من الكلمة عند أصحابها” (مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، ص: 446).
الثانية في أنها مجرد فصل بين الدين والدولة : يزعم العلمانيون، خاصة في عالمنا العربي، أن العلمانية مجرد فصل بين الدين والدولة؛ كنوع من تنظيم العلاقة بينهما، للحفاظ عليهما معًا، وليست حركة ضد الدين.
لكن الواقع يخبرنا، كما يوضح د. عبد الوهاب المسيري، أن العلمانية الشاملة- فضلاً عن الجزئية- قد لا تكون إلحادية أو معادية للإنسان على مستوى القول؛ ولكنها على المستوى النماذجي الفعال، ومستوى المرجعية النهائية تستبعد الإله وأية مطلقات أو ثوابت، من عملية الحصول على المعرفة ومن عملية صياغة المنظومات الإخلاقية.
ويضيف: الشائع بين معظم الدارسين تعريف العلمانية بوصفها فصل الدين عن الدولة، أو نحو ذلك من التعريفات الجزئية. وكثيرون يتصورون أنهم في واقع الأمر يديرون حياتهم على أساس مفهوم العلمانية الجزئية. ولكن لو دققنا قليلاً في الأمر لاكتشفنا أنه حينما يكون الأمر خاصًّا بالتعريف النظري، فإن ما يطرح عادة هو مفهوم العلمانية الجزئية؛ أما الممارسة الفعلية في معظم مجالات الحياة اليومية فهي تتم على أساس العلمانية الشاملة (“العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”، المسيري، 1/ 221، 222).
ويتفق مع هذا الرأي د. رفيق حبيب، موضحًا أنه “إذا تم حصار الدين في الحياة الفردية والخاصة، فإن المجال العام سوف يتجه نحو مسارات لا توافق الدين، ويصبح مجالاً مستقلاً عن الدين. ومن هنا، تبدأ القيم العلمانية في الانتشار داخل الأفراد أنفسهم، حتى يتم علمنة المجتمع بالكامل” (الوسطية الحضارية، حبيب، ص: 34).
أي أن طرح العلمانية بصورتها الجزئية هو مجرد مدخل لتطبيق صورتها الشاملة.. وتلك مغالطة أخرى للعلمانية، تضاف لمغالطة اسمها؛ الذي تزعم أنه مشتق من العلم..!
فضلاً عن أنه لا يمكن قبول الزعم بأن العلمانية الجزئية- أي مجرد فصل الدين عن الدولة- هي لمصلحة الإسلام؛ لأن الإسلام بطبعه دين ينظم كافة شؤون الحياة؛ بالتفصيل في بعض الجوانب، وبالعموم في جوانب أخرى.
وقد يكون هذا الزعم- أي الزعم بأن الفصل يصب في مصلحة الدين- مقبولاً في تجارب أخرى، غير التجربة الإسلامية؛ لمعالجة وضع غير صحيحٍ نشأ من تسلط أهل الدين على المجتمع والدولة (فقد كانت الكنيسة تحكم بطريق مباشر، أو غير مباشر من خلال تهديد الملوك واللعب بهم).. ونشأ من احتكار تفسير الدين، بل وفَرْضِ الرؤية الدينية الخاصة بفَهْمهم (وليست الصحيحة) على أمور خارجة عن اختصاص الدين (كما حاربت الكنيسة النظريات العلمية القائلة بكروية الأرض، واضطهدت أصحابها!).
في وضع غير سوي مثل هذا، يمكن أن نتفهَّم- ولا نُبرِّر- الدعوة لفصل هذا الدين (الذي انحرف به أصحابه) عن المجتمع والدولة؛ ليبقى علاقة فردية بين العبد وربه.. ولا يمكن أن يكون الإسلام هكذا أبدًا؛ فتاريخه لم يعرف مؤسسةً كالكنيسة، ولا تسلُّطًا كرجالها..! وحيث لا كنيسة فلا علمانية.
إذن، نحن أمام سياقين مختلفين تمامًا.. لكنها المغالطات المجافية لمنطق التاريخ، وطبائع الأشياء..!
الثالثة في موقفها من الإسلام : بعد أن كانوا يزعمون أن العلمانية لا تعادي الدين، وأنها فَصْلٌ للحفاظ على الإسلام من إقحامه فيما يسيء إليه! فالسياسة بطبيعتها مجال للسجال الشريف وغير الشريف.. إذ بهم يخطون خطوة متقدمة عن هذا السياق، فيزعمون أنه يمكن الجمع بين الإسلام والعلمانية، جَمْعًا بين الحسنيين!
فيرى د. حسن حنفي أن الإسلامَ، منذ البداية، وكما عبّر عن ذلك القرآن الكريم مرات عدة، دينُ العقل؛ الذي دافعت عنه العلمانية ضد الخرافة والجهل.. وأنه إذا كانت العلمانية تقوم على العلم كما قامت على العقل؛ فإن الإسلام كذلك، والعلماء ورثة الأنبياء.
ويضيف: إذا كانت العلمانية تعني مركزية الإنسان في الكون والدفاع عن حرية إرادته، وتأسيس المجتمع الديمقراطي الاشتراكي الحر؛ فإن هذه الأهداف تنبع من الإسلام. فالإنسان هو خليفة الله في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30)، كما يركز القرآن على مجتمع المساواة والعدالة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين} (الماعون: 1- 3).
ويخلص حنفي إلى أنه لما كان الإسلام آخر الأديان، فقد احتوى كل القيم العلمانية فيه: العقل، والعلم، وحقوق الإنسان، وديمقراطية الحكم، والمصلحة مصدر للتشريع طبقًا لمبدأ «لا ضرر ولا ضرار»، و«ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن».. فأيُّ إيهام بتعارض الدين والعلمانية هو نسيان لجذور العلمانية في التراث القديم وأسسها في القرآن الكريم، أو التبعية للثقافة الغربية وإخراجها من سياقها، وإسقاطها على سياق آخر طبقًا لعقلية التعارض بين الصوري والمادي، العقلي والتجريبي، الأنا والآخر، الدنيا والآخرة؛ من دون الجمع بين الحسنيين (انظر مقاله: “العلمانية أسُسها في القرآن وجذورها في التراث القديم”، مجلة “الفيصل”، عدد سبتمبر- أكتوبر 2017، ص: 17، 18).
لو صحَّ مقياس د. حسن حنفي الذي ينظر من خلاله لعلاقة العلمانية بالإسلام؛ لأمكن للملحد أن يزعم بأنه ما دام الإلحاد يدعو للعقل والعلم، مثل الإسلام؛ فلا تعارض بينهما..!
إن الإسلام الذي يقرر نموذجه المعرفي بأن الله تعالى خلق الخلق وأمرهم بعبادته، وأرسل إليهم الرسل وأنزل معهم الكتب، وجعل للناس أجلاً لا ريب فيها، ليجازَى المحسنون بإحسانهم، وليعاقَب المسيئون بإساءتهم؛ فالناس لم يُخلقوا عبثًا ولن يُتركوا سدى.. لا يمكن أن يلتقي مع فلسفة يستند نموذجها المعرفي للعالَم (أي للطبيعة)، ويستمد منه الرؤية والمناهج؛ اكتفاءً بالعالم، لا بخالقه، واستغناءً بما تدركه الحواس وما تقرره المادة.. إنه “اللقاء المستحيل” بينهما، بتعبير د. رفيق حبيب.
حتى في حالة القول بأن كلاًّ من الإسلام والعلمانية يحترم العقل ويدعو لإعماله، فإن من يتخذ هذا المثالَ وغيرَه ذريعةً للجمع بينهما، وإلغاء أو تجاهل الفروق الجذرية الحاصلة؛ فإنه يغفل عن أن مفهوم “العقل” في الإسلام مغاير لما تقرر العلمانية عنه! وليس من الدقة ادعاء إمكانية الجمع بين نموذجين متعارضين لمجرد وجود مشترك، هو أقرب للمشترك اللفظي..! (“المشترك اللفظي” عرَّفه الزبيدي في “تاج العروس” بأنه: اللفظُ الواحد الدالُّ على معنَيَيْن مختلفين فأكثر، دلالة على السَّواءِ عند أهلِ تلك اللغة).
نعم، الإسلام يدعو لتفعيل العقل، وإعماله، لكن في مجالات محددة، تتماشى مع طبيعة العقل التي ليس بإمكانها أن تخوض في الغيبيات؛ كما أن تفعيله لا يمكن أن يكون على حساب إهدار محكمات الشرع وثوابت الإسلام؛ بدعوى إعمال العقل في النصوص، ومراعاة المتغيرات!
بخلاف العلمانية التي لا تعرف ثابتًا ومُطْلَقًا من الأساس، فكل شيء عندها متغير ونسبي، كما أنها لا تعرف مجالاً خارج إمكانيات العقل؛ لأنها أصلاً لا تؤمن إلا بما تقرره الحواس؛ أي أنها نموذج مادي في المعرفة والتصور والسلوك.
فكيف يلتقي الإسلام والعلمانية.. إلا عند من يزيفون الحقائق، ويغالطون في البديهيات..!
(المصدر: إسلام أونلاين)