مقالاتمقالات مختارة

مع سيدنا موسى عليه السلام في رحلته العلمية الممتعة

مع سيدنا موسى عليه السلام في رحلته العلمية الممتعة

 

بقلم د. محمد عناية الله سبحاني

 

قال الله تعالى في كتابه العزيز:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)

 ما المراد بمجمع البحرين؟

قيل: إنه مجمع بحر الروم وبحر القلزم، أي البحر الأبيض والبحر الأحمر.

 وقيل: إنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر، فتلك المنطقة كانت مسرح تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر.

والآية بأسلوبها وجرسها تدل على أن تلك الرحلة لم تكن رحلة عاديّـة، بل كانت رحلة لها شأنها ولها خطورتها، فسيدنا موسى يكاد يطير فرحا لهذه الرحلة، وقد ملأه الشوق والنشاط والعزيمة، فهو مصمّم على أن يبلغ مجمع البحرين، ولو كلّف ذلك أن يمضي حقبا!

والحقب: قيل عام، وقيل ثمانون عاما. وقيل أكثر من ثمانين عاما.

فما تلك الرحلة؟ وما شأنها وميزتها؟

للناس مذاهب متقاربة في الإجابة على هذا السؤال، وقد اعتمدوا في إجاباتهم على روايات لاتنسجم مع الآيات، ونرى من الأفضل،كعادتنا في مثل هذه المواطن، أن نرجع إلى تلك الآيات مباشرة، وندرسها دراسة واعية جادّة، ونمعن فيها النظر إمعانا، فالآيات بألفاظها وأساليبها ونظائرها هي التي ستكشف القناع عن بغيتنا، وسترشدنا بإذن الله إلى نوعية تلك الرحلة وأهدافها.

علما بأن قصة سيدنا موسى عليه السلام بمختلف أجزائها وحلقاتها وردت مرارا وتكرارا في سور متعددة، ولكن هذه الحلقة ما وردت إلا مرة واحدة في هذه السورة.

والرحلة  كانت للقاء عبد من عباد الله، كانت للقاء عبد كان وجيها عند الله، وقد آتاه الله رحمة من عنده، وعلّمه من لدنه علما.

واختلفوا في هوية هذا العبد، فقيل: نبيّ من الأنبياء. وقيل: ولي من الأولياء.

ويملي الموقف أنه كان من الملائكة المكرمين المقربين؛ فالأفعال التي فعلها كلها مفاجآت غيبية، كلها مما تقوم بها الملائكة، وليست من شأن البشر، ولا في متناول البشر.

ويبدو من سياق الآيات أن سيدنا موسى عليه السلام لم يعرف هويته بادئ ذي بدء، وحسِبَه عبدا من عباد الله الصالحين فحسبُ.

حسبه عبدا أنعم الله عليه، وفتح عليه آفاقا من العلم والمعرفة، ولكنه لم يعرف أنه من الملائكة المقربين، وأنه يفعل كل ما يفعل بأمر الله.

ولذلك كانت مآخذه عليه شديدة قاسية: (لقد جئت شيئا إمرا)! (لقد جئت شيئا نكرا)!

ولم يعرف سيدنا موسى كونه من الملائكة إلا في نهاية المطاف.

لم يعرفه إلا بعد ما ذكر له تأويل أفعاله التي استنكرها، وذكر ما فيها من الخير والحكمة، وختمها بقوله:

( ومافعلته عن أمري، ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبرا)

واستطعامهما أهل القرية لاينهض دليلا على كونه من البشر؛ فإن الاستطعام ليس من الأكل، ولايستلزم الأكل، وماكان هذا الاستطعام إلا لإظهار لؤم أهل القرية، والأصل في القصة إقامة جدار يريد أن ينقضّ ! إقامة جدار كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان أبوهما صالحا.

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)

فمشى سيدنا موسى مع فتاه، ومشى، ومشى حتى بلغا مجمع البحرين، وألما هناك إلماما، ولم يشعرا أنهما بلغا المنزل، فنهضا واستأنفا المسير.

واستمرا في السفر حتى أصابهما التعب والجوع، فألقى موسى عصاه، وأمر فتاه بإحضار الغداء، ولم يكن لهما بتات غير الحوت.

 ومن الظاهر الطبيعي، وهو المسلّم عند الجميع، أن الحوت كان مشويا مملّحا، وكان صالحا جاهزا للأكل.

فاعتذر الفتى قائلا: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت، وكان العجب العجاب، حيث تسرّب الحوت إلى البحر ! الحوت الذي قد صُنع وأُعدّ للغداء!

قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)

وكانت هذه بشرى سارّة لسيدنا موسى عليه السلام!

كانت بشرى حلوة أنسته جوعه ونصبه! فقدكان الموعد مجمع البحرين، وهو يمتدّ إلى أميال وأميال. ونقطة اللقاء، أومكان اللقاء لم يكن معلوما بالضبط.

ولعله كان مكانا تظهر فيه آية من آيات الله، فظهرت تلك الآية العظيمة بصورة واضحة ناطقة، حين اتخذ الحوت المشويّ سبيله في البحر سربا. واتخذ سبيله في البحر عجبا.

ففرح موسى واستبشر، وعلم أن موعد اللقاء هي تلك الصخرة التي ألما بها إلماما، ثم رحلا عنها.

وإذاً فعاد موسى وفتاه على أدراجهما، عادا إلى تلك الصخرة التي ظهرت عندها تلك الآية العظيمة.

 فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)

ماذا كان يريد سيدنا موسى أن يتعلم من ذلك الرجل؟ الرجل العالم الذي قطع لأجله تلك المسافة الهائلة الشاسعة، حتى لحقه النصب، ومثل موسى القوي العملاق قلّ أن يلحقه التعب والنصب ! وكان مصمما على لقائه، ولو طال السفر و طال، وكلفه أن يمضي حقبا!

ماذا كان يريد سيدنا موسى أن يتعلم منه؟ وهو رسول الله ينزل عليه الكتاب، وهو على صلة وثيقة بربه، يأتيه الوحي كلما اقتضى الأمر. ولم يرد عن رسول من رسل الله الكرام، ماعدا موسى، عليه وعليهم الصلاة والسلام، أنه ذهب إلى غيره يتعلم منه العلم، فصلته بربه تغنيه عن الرجوع إلى غيره.

ويزداد الأمر غرابة حين نرى سيدنا موسى، صلوات الله وسلامه عليه، يرغب في مرافقة صاحبه الكريم في سفره، حتى يستفيد من علمه ورشده، فيعتذر قائلا:

إنك لن تستطيع معي صبرا ! أي: لاتطيق الصبر أبدا، ولاتطيقه بحال من الأحوال!

وأيّ شيء لايستطيع أن يصبر عليه موسى بحال من الأحوال؟ وموسى هو موسى، الرجل الجلد القويّ العملاق!

هنا يحضرنا ما جاء في سورة الأعراف عن سيدنا موسى نفسه، أنه لما كلمه ربه، هاج به الشوق إلى رؤيته، وهاج به الشوق إلى النظر إلى وجهه الكريم! قال تعالى:

 وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

ويبدو أنه لما عجز سيدنا موسى عليه السلام عن رؤية ربه تبارك وتعالى، هاج به الشوق إلى مشاهدة ملكوت الله! هاج به الشوق إلى مشاهدة ما يجري وراء أستار الغيب من نظام الكون الخفي الدقيق! ومن نظام الكون الحكيم المتين

فاستجاب له ربه، وأرسله إلى هذا العبد العالم، الذي علّمه من لدنه علما. والقرائن كلها تدل على أنه لم يكن بشرا من بني آدم، وإنما كان ملكا كريما من ملائكة الرحمن.

والواقع أن الإنسان العاقل المفكر، الذي يهتزّ بطبيعته للخير والرحمة، ويشمئزّ من الظلم والمنكر، لواطلع على ما يجري وراء أستار الغيب، لم يستطع عليه صبرا، فمن المستحيل أن يطيق الصبر على ما يراه بعينيه الكليلتين القاصرتين، لأنه لا يرى إلا قسوة الظاهر المشاهد، ولايرى ما في باطنه من الخير العميم، والحكمة الحكيمة، والرحمة البالغة، والسعادة الغامرة.

وهكذا كان أمر سيدنا موسى عليه السلام، حيث لم يطق الصبر على تصرفات ذلك العبد العليم، لعدم اطلاعه على ما فيها من الأسرار والحكم، وعدم اطلاعه على ما فيها من الخير والرحمة.

نعم، لم يطق سيدنا موسى عليه السلام أن يصبر وإن كان واثقا بصبره وجلده، وقد وعده وعدا جازما مؤكدا أنه لايسأله عن شيء ، ولايعصي له أمرا.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)

فلم يستطع موسى أن يصبر على خرق السفينة، وكان المفروض أن يحصل بينهما فراق،لأن سيدنا موسى لم يكن عند عهده، ولكن سرعان ما اعتذر موسى إلى صاحبه بعذر النسيان، والعذر عند كرام الناس مقبول.

والظاهر أن الخرق كان واسعا فاحشا يخاف معه الغرق، وأصحاب السفينة كانوا مساكين، فسكتوا ومازجِموا بحرف. ولكن موسى الجريء الشجاع لم يسكت، وسجل استنكاره بلفظ واضح صريح! ولم يكن استنكاره إلا لعدم اطلاعه على ما وراءه من الخير والحكمة.

 فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)

وفي المرة الثانية أيضا لم يستطع موسى أن يصبر، فهذه كانت أشد من الأولى، فقتل نفس زكية بغير نفس أشد من خرق السفينة على كل حال!

فذكّر موسى صاحبه أنه كان على عهد الصبر، ولكنه لم يلتزم العهد!

فما كان من موسي إلا أن يعتذر مرة أخرى، ويطلب من صاحبه الفرصة الأخيرة.

هنا لا يفوتنا التنبيه إلى نكتة، وهي دخول الفاء على جواب الشرط في قوله تعالى: (فقتله) خلافا للجملة الأولى، حيث لم تدخل الفاء على جواب الشرط في قوله تعالى: (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)

ولعل السر في تحلية (قتله) بالفاء أن القتل لم يكن بعد اللقاء مباشرة، بل سبقه سؤال واستفسار عن طبيعته وأحواله، والغلام لم يكن صغيرا وديعا، بل  الظاهر أنه كان في سنّ يعقل فيها الخير والشر، وقد غلبت عليه مخايل الشر.

وأما السفينة، فأمرها يختلف، حيث خرقها حين ركب فيها من غير مقدمات.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)

(لوشئت لاتخذت عليه أجرا)  لم يكن هذا القول في ظاهره سؤالا ولااعتراضا، ولكن تُشمّ فيه رائحة السؤال و الاعتراض، فحمل عليه نظرا إلى المعنى والمغزى دون المبنى، فالأصل في الكلام هو المعنى دون المبنى.

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

وهكذا تمت تلك الرحلة العلمية الممتعة، رحلة سيدنا موسى مع عبد آتاه الله رحمة من عنده، وعلمه من لدنه علما.

تمت تلك الرحلة الهادفة المباركة السائحة في ملكوت الله، وفارق موسى صاحبه بخير وهدوء وسلام.

وحينما ننظر في تلك القصة، وننظر في موقعها وسياقها القريب والبعيد، نتوصل إلى  ظاهرة تدلّ على رعاية الله الساهرة لعباده المؤمنين الصالحين، ونتوصل إلى ظاهرة تدخل البهجة في نفوسهم التي تتراكم عليها الهموم والأحزان، وذلك لمايحيط بهم من ظروف حالكة، ومحن قاسية!

لقد استهلت تلك السورة بتلك الآيات النيرات:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)

فالسورة فيها إنذار وتبشير، تبشير للمؤمنين الصالحين، وإنذار للمشركين الكافرين. وحينما ننظر في تلك القصة- قصة سيدنا موسى- نجد ها تحوي الجانبين، وإن كان جانب التبشير فيها أغلب وأظهر من جانب الإنذار.

فالقصة الأولى، وهي قصة السفينة، دليل على رعاية الله لعباده، ولاسيما عباده المساكين المستضعفين، حيث أنجاهم من المصيبة التي  كانت تنتظرهم، وكانوا مقبلين إليها، غافلين عنها.

أنجاهم من مصيبتهم حيث أرسل إليهم عبده، حتى يخرق سفينتهم، ويدفع عنهم بلاء ذلك الملك الغاصب الغاشم .

والقصة الثانية الأخرى، وهي قصة الغلام الذي قتله صاحب موسى، دليل على رعاية الله لعباده المؤمنين،حيث قال:

 وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)

فقتل هذا الغلام، وإن كان في ظاهره مفاجأة سيئة، وكان مثارا للحزن والألم لدى والديه المؤمنين، ولكنه كان خيرا لهما في عاقبتهما!

 وكم يصيب الناس مما يسوءهم ويقلقهم في حينه، ولكنه يكون في صالحهم، ويكون خيرا لهم في مستقبلهم. وكم يصيبهم مما يفرحهم ويملؤ صدورهم بشرا وسرورا، ولكنه في النهاية يصدمهم ويكون حسرات عليهم!

والإنسان- وهو ما أوتي من العلم إلا قليلا- لايعرف خيره وشره، ولايعرف موضع حزنه وفرحه، فكم يفرح بشيء يكون سببا لشقائه، ويكون وبالا عليه!

 وكم يحزن على أمر يكون مفتاحا لسعادته، ومدعاة لأفراحه!

وأما القصة الثالثة الأخرى، وهي قصة إقامة الجدار، فهي دليل على رعاية الله لعباده الصالحين، ودليل على رعاية ذراريهم نظرا إلى صلاحهم، حيث قال:

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

فالجدار كان يريد أن ينقضّ، والانقضاض غير السقوط والانهدام، وإنما هو انقضاض كما ينقضّ صقر على سرب من الطير ! فالجدار كان يريد أن ينقضّ على الغلامين!

ولو انقضّ الجدار على الغلامين اليتيمين لأودى بهما! وكان من فضل الله ولطفه بهما أنه أرسل من يقيم ذلك الجدار قبل أن ينقضّ عليهما! ولو تأخر ذلك العبد الصالح لثوانٍ لكانت الكارثة!

وما كان ذلك إلا لصلاح أبيهما، فالله يتولى الصالحين.

وذكرت قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام مع قصة أصحاب الكهف رضوان الله عليهم. وكلتا القصتين يغلب عليهما طابع عطف الله وحنانه، ومودته ورعايته لعباده الصالحين.

كما يغلب عليهما طابع الاستجابة السريعة لدعوات الصالحين، فأصحاب الكهف أووا إلى الكهف، فقالوا:

رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)

فاستجاب الله دعاءهم لساعته، فأكرمهم غاية الإكرام، وكلأهم من شر أعدائهم، وحفظهم من عوادي الزمان، وجعلهم من آياته العظام ، وأنزل عليهم الرحمة، وهيأ لهم من أمرهم رشدا.

وهكذا كان الأمر مع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، حيث قال لربه: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ!

فطلب من ربه المستحيل ! ولكنه كان وجيها عند ربه، فلم يردّ دعوته، وأجابه بكلام كله مودة وحنان:

قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

ويبدو من سياق الآيات التي نحن فيها، كما ألمحنا إليه في بداية الحديث، أن سيدنا موسى لما لم يستطع النظر إلى وجهه تعالى، رغب أن يطلع على ملكوت الله!

رغب أن يطلع على نظام الله في الكون، وأن يطلع على ما يجري في العالم وراء أستار الغيب، فاستجاب له ربه، وأرسله إلى من يحقق له رغبته، ويريه لمحة منه، وكان عند الله وجيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى