مع انطلاقة قطار التطبيع مع إسرائيل.. رسالتنا لمن يهمه الأمر!
بقلم د. محمود العمر
يبدو أن قطار التطبيع بين بعض البلاد العربية وبين إسرائيل قد انطلق رسميا، ويبدو بأن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي برفقة وفد رفيع المستوى إلى سلطنة عمان ولقائه بالسلطان قابوس بن سعيد كانت تتويجا لزيارات العديد من الوفود الرياضية الإسرائيلية التي تم إرسالها من قبل إلى أبو ظبي والدوحة والمنامة، أو في الاتجاه المقابل زيارات بعض الوفود العربية إلى القدس بشكل غير رسمي ولكن بعلم ومباركة السلطات كالوفد البحريني أو السعودي أو غيرهم. كما أنه من الواضح بأن الأمور ستتطور بسرعة ولن تقف عند هذا الحد. وعملا بمبدأ “وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ“، سنتوجه برسالة من خلال مقالنا هذا إلى كل من يهمه الأمر.
من المعلوم والملاحظ تماما بأن قيام “إسرائيل” إنما تم منذ البداية على أسس عقائدية محرفة مستندة إلى تاريخ مزور. فعبارات “أرض الأجداد”، و”الأرض الموعودة”، و”مهد الشعب اليهودي” وإسرائيل الكبرى” في كتابات ومذكرات قادة الحركة الصهيونية تشير بوضوح إلى العامل العقائدي الذي استد اليه قيام إسرائيل على أرض فلسطين. إلا أن هدفنا من هذا المقال لن يكون منصبا على مناقشة وبيان الروايات الإسرائيلية المشوهة والتي تثبت حسب زعمهم أحقيتهم في بناء دولة قومية للشعب اليهودي في فلسطين، فهذا الجانب قد أشبع في الحقيقة بحثا، وإنما سنناقش هنا وبشكل موضوعي إمكانية إقامة سلام دائم مع الصهاينة في إسرائيل باعتبارهم قد أصبحوا “أمرا واقعا” “لا يمكن تجاوزه” كما يحلو للبعض أن يرى أو يعلق.
حسنا، بادئ ذي بدء دعونا نوضح نقطة مهمة للغاية: لا مشكلة لنا في التعامل مع إسرائيل باعتبارها قد أصبحت أمرا واقعا ولا في تقديم بعض التنازلات لها من أجل تحقيق سلام دائم وعادل وشامل يحقق تطلعات شعوب المنطقة في الاستقرار والرفاهية، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل إسرائيل نفسها تستهدف أو ترغب في تحقيق السلام؟
في الحقيقة، لا يستطيع أحد أن يثبت عمليا وجود رغبة إسرائيلية في الوصول إلى اتفاقيات سلام عادل وشامل تضمن استقرار المنطقة وازدهارها بكل شعوبها وأطيافها. هذه الرغبة موجودة فقط وعلى مضض واستحياء في بعض خطابات قادة الصهاينة التضليلية والمخادعة. قد يرد علينا أحدهم بالقول: فلماذا وقعت إسرائيل إذن اتفاقيتي السلام في كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن وقامت بتقديم بعض التنازلات في سبيل ذلك إن كانت فعلا لا تستهدف الوصول إلى السلام؟
إن توقيع إسرائيل للسلام مع مصر أو مع الأردن لا يشكل هدفها النهائي يا سادة. بل يعتبر خطوة استراتيجية مهمة في طريق تحقيق أهدافها الأيديولوجية الكبرى. بعبارة أخرى، الهدف ليس هو السلام بحد ذاته، بل هو ضمان أمن إسرائيل مرحليا من خلال السلام من أجل الوصول إلى أهداف أكبر من المستوى الاستراتيجي.. إنها الأهداف على المستوى الأيديولوجي أو ما يسمى “إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل” وفقا للرواية التوراتية (سفر التكوين 18:15- 21).
إن القول بأن السلام ليس هدف إسرائيل النهائي بل هو خطوة في طريق تحقيق أهدافها إلا بعد ليس ضربا من الخيال، بل هو كلام قابل للإثبات علميا وموضوعيا والأدلة عليه أكثر من أن تحصى نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر فيما يلي:
أولا: أهداف إسرائيل الكبرى مذكورة تقريبا في معظم كتابات ومذكرات قادة الصهيونية من تيودور هرتزل إلى حاييم وايزمان وديفيد بن غوريون ووصولا إلى رئيس الوزراء الحالي بن يمين نتنياهو الذي ذكرها صراحة في كتابه “مكان تحت الشمس”. هذه الأهداف ليست من قبيل الشعارات الفارغة والرنانة التي نسمعها كل يوم في عالمنا العربي، بل هي مبادئ عمل تكرس لها كل الإمكانات وتوضع في خدمتها كل السياسيات والاستراتيجيات، وهذا واضح تماما في كل تصرفات إسرائيل.
فالتوسع الاستيطاني السرطاني في الضفة الغربية وضم الجولان وتهويد القدس واعتبارها عاصمة أبدية لإسرائيل والبحث عن الهيكل تحت المسجد الأقصى كلها سلوكيات عملية تبرهن ما نقوله. زد على ذلك ما اقره الكونغرس الإسرائيلي مؤخرا من قانون يهودية الدولة. هذا القانون بالذات يبرهن بالدليل القاطع أن إسرائيل دولة عقائدية متطرفة لا تهتم في سبيل تحقيق أهدافها حتى بمن وقفوا معها وحاربوا في صفوفها.. تخيل!
ثانيا: من الواضح لكل مراقب موضوعي بأن السلوك العدائي لإسرائيل تجاه مصر لم يتوقف يوما لا قبل كامب ديفيد ولا بعدها. فإسرائيل هي التي وقفت ودعمت انفصال جنوب السودان حتى تم فعليا عام 2011. كما أن إسرائيل هي التي شجعت ودعمت ومولت تشييد أكبر سد كهرومائي على مستوى أفريقيا على منابع النيل الأزرق في أثيوبيا. وساذج بالتأكيد من لا يرى بوضوح أن هذه الخطوات الإسرائيلية ليست سوى استهدافا للأمن القومي المصري في الصميم من خلال السيطرة على منابع النيل. وهاتين القضيتين ليستا بالتأكيد على سبيل الحصر بل على سبيل المثال لان القائمة تطول. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا: لماذا يا إسرائيل تكيدين كل هذا الكيد لمصر التي وقعت معك اتفاقية السلام؟.. الجواب فيما يلي.
ثالثا: في عام 1982 نشرت مجلة كيفونيم، وهي المجلة الرسمية للمنظمة الصهيونية العالمية، ما سمته الخطة الاستراتيجي لإسرائيل في الثمانينيات. تضمنت هذه الخطة بوضوح وصراحة سعي إسرائيل لتفتيت المنطقة العربية والإسلامية المحيطة بإسرائيل من تركيا إلى الصومال ومن باكستان إلى المغرب على أسس عرقية وطائفية من أجل ضمان التفوق والهيمنة الإسرائيلية. وبما أننا نتحدث عن اتفاقية السلام مع مصر فسنذكر ما نصت عليه الوثيقة بهذا الخصوص فقط دون غيره:
“ان قيام دولة الأقباط المسيحيين في صعيد مصر مع دويلات ضعيفة حولها هو المفتاح لعملية تاريخية في المستقبل تأجلت بسبب اتفاقية السلام، لكنها حتمية على المدى البعيد”
نعتقد أن هذا النص في وثيقة كيفونيم واضح ولا يحتاج إلى كثير من الجهد لتأويله أو تفسيره.. أليس كذلك؟
إسرائيل الكبرى لا تعني بالضرورة نشر اليهود ليسيطروا عسكريا على المنطقة المستهدفة.. هذه فكرة متخلفة. لكن إسرائيل الكبرى تقوم عندما يكون لإسرائيل الكلمة العليا ثقافيا واقتصاديا على كامل أرجاء المنطقة
يقول البعض بأن هذه الرواية ليست سوى جزءا من أحلامنا وأوهامنا مستدلين بالقول بأن قيام “إسرائيل الكبرى” ليس ممكنا على الإطلاق من الناحية التطبيقية لسبب بسيط يتعلق بالبعد الديمغرافي. فاليهود الموجودون في العالم بأسره لا يتجاوز عددهم أربعة عشر مليونا. فلو افترضنا أنهم قد قبلوا جميعا الهجرة إلى إسرائيل فانهم لن يكونوا كافين لا لملأ “إسرائيل الكبرى” التي ستمتد على مساحة جغرافية واسعة في مصر وسوريا والأردن والسعودية والعراق ولا لحمياتها في مواجهة مئة مليون تقريبا من سكانها العرب والمسلمين.
في الحقيقة قد تبدو وجهة النظر هذه منطقية، إلا أن للصهاينة وجهة نظر أخرى. فاليهود يشكلون نسبة لا تذكر من سكان الولايات المتحدة، إلا أنهم يسيطرون على السياسة الأمريكية أكثر مما يسيطر عليها سياسيوها المنتخبون. كل هذا يتم في دول العالم المتقدم فما بالك في منطقة بدأت تتجه للتفكك وفقدان السيادة. فإسرائيل الكبرى لا تعني بالضرورة نشر اليهود ليسيطروا عسكريا على المنطقة المستهدفة.. هذه فكرة متخلفة. لكن إسرائيل الكبرى تقوم عندما يكون لإسرائيل الكلمة العليا ثقافيا واقتصاديا على كامل أرجاء المنطقة التي ستكون مفككة بين أطياف متناحرة وباستخدام ذيول على شكل ولاة لا حول لهم ولا قوة إلا الارتماء في حضن إسرائيل وتنفيذ أوامرها بدون تردد أو تعليق، مع التأكيد على رفع علم إسرائيل عاليا في كل هذه المناطق كرمز للدولة.
في المحصلة: انطلاقا من كل ما ذكرناه أعلاه، نود أن نوجه رسالة لكل واهم بالسلام مع الإسرائيليين، وعلى رأسهم بعض حكام العرب. هذه الرسالة ليست بكلماتي، بل بكلمات الصهيوني العتيد ديفيد بن غوريون أول رئيس لإسرائيل والذي قال يوما محاورا زميله ناحوم غولدمان:
“…. لو كنت زعيما عربيا فلن أوقع اتفاقا مع إسرائيل أبدا.. إنه أمر طبيعي جدا: لقد جئنا وأخذنا بلدهم. صحيح أن الله قد وعدنا به ولكن في ماذا يمكن أن يهمهم ذلك.. ربنا ليس ربهم….”
– (كتاب المعضلة اليهودية لناحوم غولدمان، 1978)
هذه الرسالة لكل مسؤول عربي حسن النية يعتقد ربما أنه قادر على تحقيق سلام عادل وشامل مع الإسرائيليين. أما أولئك الحكام الذين يسعون للارتماء في حضن إسرائيل لتحقيق مصالح خاصة بهم أو بعروشهم مع علمهم ووعيهم لكل ما ذكرناه أعلاه، فرسالتنا لهم لا تزيد عن قول الله سبحانه في كتابه الكريم: “وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم”، فهل تصل رسالتنا.. أم أنها لن تصل أبدا؟
(المصدر: مدونات الجزيرة)