
معناة المرأة في زمن موسى ( 13)
معاناة المرأة في مجتمع مَدْيَن
بقلم د. عادل حسن يوسف الحمد ( خاص بالمنتدى)
لما بلغ موسى تآمر الملأ من آل فرعون عليه، ونصحه النَّاصح بالخروج من البلد، خرج عليه السَّلام إلى مَدْيَن.
ولما وصل مَدْيَن كان أوَّل مشهد رآه هو ما قصَّه الله علينا بقوله: قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ) [القصص: 23].
مشهدٌ عجيبٌ له دلالاته التي تشير إلى طبيعة النَّاس في مدينة مَدْيَن، هذه الطَّبيعة التي لم تتقبَّلها نفس موسى عليه السلام.
وجد الرِّجال يُوردونَ أنعامهم ومواشيهم للشرب من ماء البئر، ووجد من دونهم امرأتين تذودان مواشيهما عن ورود الماء.
ودلالة هذا المشهد تُبيِّن لنا جزءًا من معاناة المرأة في مجتمع مَدْيَن.
هذا المشهد يدل على طبيعة الرِّجال الذين لا يرحمون النِّسَاء، فلا يُعينونهنَّ على سقاية الماشية. وهذا يعني غلظة وشدَّة في طبع الرِّجال الذين لم تنكسر نفوسهم أمام مشهد معاناة المرأتين مع أغنامهما.
هذه الغلظة والشدَّة التي ظهرت في هذا المشهد، تدلُّ على طبيعة تعامل الرِّجال مع النِّسَاء في مجتمع مَدْيَن، سواء كانت هذه المرأة زوجة أو بنتًا، أو أختًا، أو أيَّ امرأة أخرى من عموم النِّسَاء، وقد يكون نفس التعامل مع الأُمِّ!
وفي قصة الرَّجل الذي رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُ الحسن دليل على أن التقبيل من الرحمة، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثمَّ قَالَ: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ). (رواه البخاري).
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟!). (رواه البخاري).
فدلَّت هذه الأحاديث على أنَّ ترك تقبيل الأطفال دليل على نزع الرَّحمة من القلب، والذي لا يُقبِّل الطِّفل غالبًا لا يتمتَّع بتقبيل زوجته، لأن الغلظة والشِّدة تمنعه من فعل ذلك، فيأتي أهله من غير مداعبات ولا مقدِّمات!
فإذا تصوَّرنا هذه الغلظة في رجال مَدْيَن، يمكننا تصوُّر شدَّة معاناة زوجات هؤلاء الرِّجال في قضيَّة المعاشرة الجافَّة من المقدمات، وجفاف العاطفة في التَّعامل اليومي مع الزَّوجة.
وهي معاناة نفسيَّة كبيرة ومستمرة مع هذا النَّوع من الأزواج.
ومن دلالات المشهد الذي رآه موسى عليه السلام، ضعف المروءة لدى رجال مَدْيَن، وإلَّا كيف تطيب نفوسهم رؤية امرأتين تعانيان من كفكفة الأغنام أن تَرِدَ البئر الذي يستقي منه الرِّجال، ثم لا يحرِّك ذلك ساكنًا عندهم؟!
وضعف المروءة عادة تصحب معها ضعف الغيرة على المحارم من النِّسَاء، وإذا ضعفت مروءة الرَّجل وغَيْرته على نسائه، هلك المجتمع، فلا إنكارَ للمنكر إذا ظَهر، ولا أمرَ بالمعروف إذا تُرك، وتصبح أحاسيس هذا الصِّنف من الرِّجال متبلِّدة تجاه منكرات النِّسَاء في المجتمع، أو سوء التَّعامل معهنَّ.
ومن دلالات المشهد أن هذه الصفة السيئة؛ وهي ضعف المروءة والغيرة، صفة عامة في رجال مَدْيَن، إذ لم يتحرَّك رجل واحد منهم أمام معاناة المرأتين، ولم يستنكر الوضع، مع تكرار هذا المشهد يوميًّا أمامهم، فسقيا البهائم ليست مرة في السنة، وإنما هي عمل يومي شاقٌّ. وهذا يدل على أن كثرة الإمساس تميت الإحساس.
فهل أدركت أختي الكريمة معاناة المرأة التي تعيش في مجتمع رجاله لا يغارون على نسائهم، وليس عندهم مروءة في رفع معاناة المرأة أيًّا كانت هذه المعاناة، أو الدفاع عنها من ظلم الرِّجال؟!
إن الله عزَّ وجلَّ حَمَّل المجتمع مسؤولية معالجة مشكلة المرأة إذا اختلفت مع زوجها فقال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النِّسَاء: 35].
فخاطب الله بقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ) عقلاء المجتمع وكبراء الناس، ومن لهم سلطة في المجتمع.
قال ابن العربي رحمه الله: (فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُخَاطَبَ الزَّوْجَانِ فَلَا يَفْهَمُ كِتَابَ اللَّهِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ السُّلْطَانُ فَهُوَ الْحَقُّ). (أحكام القرآن لابن العربي 1/443).
وقال تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة: 229].
قال محمد أبو زهرة رحمه الله: (الجناح معناه الإثم، من جنح بمعنى مال. والافتداء معناه تخليص النفس بمال يُبذل لتخليصها، ودفع الأذى عنها، وأصله من الفدى والفداء بمعنى حفظ الإنسان نفسه عن النائبة بما يبذله. والخطاب في الآية إما أن يكون لجماعة المؤمنين من حيث إنهم متعاونون فيما بينهم، بحيث وجدوا الشرَّ بين الزوجين، وإما أن يكون خطابًا لجماعة الأزواج الذين كان بينهم وبين نسائهم ما يُخشى معه ألا يقيم كلاهما حدود الله التي رسمها للحياة الزوجية، فالخطاب لإباحة الأخذ والفداء. وعندي أن جعل الخطاب لجماعة المؤمنين أولى بالاعتبار، فإن على من يعرف ما بين الزوجين أن يتدخل بالنصح والإرشاد وبيان حكم الله، ولذلك كان الخطاب عامًّا لجماعة المؤمنين بقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حدُودَ اللَّهِ) ونفي إثم الأخذ خاصًّا بالزوجين، ولذا قال: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)). (زهرة التفاسير 2/779).
وقال د. عبدالعزيز الطريفي: (والخوف الثاني في الآية هو خوف غير الزوجين). (التفسير والبيان لأحكام القرآن 1/438).
والسلطان يعني أعلى قيادة في المجتمع، تتدخل لعلاج مشكلة المرأة إذا اختلفت مع زوجها، سواء بظلم الزوج لها، أو بنشوزها. مع أن المرأة عندها أهل يمكن أن يقفوا معها وينصرونها، إلَّا أن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يتحمَّل المجتمع إصلاح الوضع، ولا يقف مكتوف الأيدي أمام ظلم المرأة، أو نشوزها.
فإذا أمر الله عقلاء المجتمع أن يتدخلوا لعلاج مشكلة خاصَّة بين زوجين، حماية للأسرة من التَّفكُّك، فحماية المجتمع من ظلم المرأة أو إفسادها من باب أولى!
فإذا كان الرِّجال في المجتمع قد فقدوا المروءة والغيرة على النِّسَاء فمن يصلح أحوال المجتمع؟!
ومن يدافع عن المرأة إذا ظُلمت؟!
ومن يأخذ بيد المرأة إلى الحقِّ إذا هي انحرفت؟!
13 رمضان 1446هـ