مقالاتمقالات مختارة

معركة «آخر الزمان»: الماشيحانية في صراع الهلال الخصيب

بقلم ممدوح الشيخ

مربكة وجدلية هي العلاقة بين «السياسة» و«الغيبيات»، وأحد أكثر النماذج تعبيرًا عن هذه الحقيقة ما يتردد من احتهادات وتفسيرات تربط بشكل قاطع – بحسب قطاع كبير من المتدينين – الصراع في الهلال الخصيب (سوريا والعرق)، باقتراب «معركة آخر الزمان». ويروي الرئيس الفرنسي جاك شيراك أن الرئيس الأمريكي جورج بوش اتصل به منفعلاً؛ كيف لا تضع فرنسا جهدها في «خدمة الرب»؟، في تخليص البشرية من يأجوج ومأجوج؟، وتكلم كثيرًا بلا انقطاع عن حرب هرمجدون. يقول شيراك: «لقد أدركت أن جورج بوش يدمج بين السياسة والأسطورة».

وبحسب الكاتب السعودي علي البلوي: «في الثمانينيات، وكما يروي لي د. عبد الغفور السامرائي، أستاذ عراقي متخصص بالعلوم النفسية، أنهم طلبوا مجموعة على عجل للذهاب إلى الاتحاد السوفييتي؛ وذلك للدخول في دورة متقدمة بعلوم الباراسيكولوجي، وهو العلم الخفي الذي أقام السوفييت حوله ستارًا حديديًا، وبدأت رحلة البحث في الأديان والأساطير بغية التحكم بالعالم، أو التفسير الاستباقي للأحداث».

وبحسب الكاتب السعودي: «راح الأمريكان يجمعون أساتذة تاريخ الحضارات، وكان أغلبهم من اليهود، وخرجوا بموضوعات يأجوج ومأجوج وهرمجدون، وكان لذلك سوابق في التاريخية الصهيونية التي سيطرت على التاريخ والفكر الأوروبي وجعلت ثمة اندماجات نهاية بين اليهودية والنصرانية، توجت في طروحات مارتن لوثر كنج والبروتستانتية، وقد حكمت هذه المعادلات الفكر والأبحاث والأكاديميات والسياسة الغربية منذ ذلك الحين».[1]


الغيب والسياسة، أية علاقة؟

يبدو الأمر عند تقاطع هذه المعطيات في الحقيقة صعبًا وبخاصة إذا لم تتم التفرقة بين الأصل النظري (والتاريخي) للظاهرة، ونعني بذلك قراءة الواقع من خلال الغيب، وبين الوقائع المتعينة التي قد تحمل مشابهة – صحيحة أو مضللة – مع التصور الغيبي. ويبدو الأمر في مساحة اللامعقول – كما هو حال حديث الرئيس الفرنسي الذي أوردناه سلفًا – إذ يعتبر هذه الأفكار (بشكل مبدئي لا يقبل النقاش): أساطير. ومرد ذلك في المقام الأول إلى إنكار أية صلة بين السياسة والغيبيات سواء كانت الغيبيات قيمًا أخلاقية أو معايير تشريعية أو بشارات مستقبلية، وهو منطق يرد على التطرف في تفسير البشارات والانطلاق من انطباقها الحتمي على الواقع، بالرفض التام لأن يكون للغيب صلة يالسياسة مطلقًا.

الأكاديمي الأمريكي ريتشاد نيد ليبو أستاذ كرسي جيمس و. فريدمان الرئاسي في كلية دارتموث – أستاذ الذكرى المئوية بكلية لندن للاقتصاد، يطرح فكرة تغاير السائد في تصور العلاقة بين السياسة والغيبيات. يقول في كتابه: «لماذا تتحارب الأمم؟: دوافع الحرب في الماضي والمستقبل»[2]:

يمثل الاتساق مع الأدلة أساسًا ضروريًا، لكنه غير كافٍ، للثقة المبدئية في نظرية ما، …. …. سأقوم بإخضاع فرضياتي للاختبار نفسه، كما سأبحث عن دعم قوي للروح (spirit) باعتبارها الدافع الرئيس للحرب في النظام الأوروبي حتى يومنا هذا[3]

وهو يبرر مسعاه لتتبع البعد الروحي في السياسات المعاصرة بالقول: «إن عدم رضاي عن الكتابات الموجودة عن الحرب، وعن نظرية العلاقات الدولية بصورة أكثر عمومية، كان الحافز وراء تأليفي لكتاب ‹نظرية ثقافية للعلاقات الدولية›»، الذي يضع نظرية للعلاقات الدولية مبنية على نموذج اقتصادي ضيق (Parsimonious) للدوافع البشرية»، ويضيف: «وفي العصر الحديث، تعرضت الروح (thumos) إلى التجاهل بدرجة كبيرة من قبل الفلسفة والعلوم الاجتماعية. إنني مقتنع بأنها موجودة في كل مكان، وأنه ينتج عنها الدافع العالمي لاحترام الذات، الذي يتم التعبير عنه في السعي نحو الشرف أو المكانة»، ويقول نيد ليبو بوضوح: «لا تمتلك المؤسسات والدول نفوسًا ولا عواطف، لكن الناس الذين يديرون هذه الجماعات أو ينتسبون إليها أو يمتلكونها، وهم يقومون في كثير من الأحيان بإسقاط احتياجاتهم النفسية على وحداتهم السياسية؛ ومن ثم يشعرون بالرضا عن أنفسهم عندما تحقق تلك الوحدات انتصارات أو تبلي بلاءً حسنًا»[4]. و«في كتابي: ‹النظرية الثقافية›، استخدمت إلياذة هوميروس كنموذج مبدئي (Prototype) لتطوير نموذج للسياسة والعلاقات الدولية مبني على الروح، وقمت بتوثيق أهميته في السياسة الداخلية والقرارات الحاسمة في السياسة الخارجية بعددٍ من دراسات الحالات تراوحت بين اليونان القديمة والحربين العالميتين، والغزو الأنجلو – أمريكي للعراق»[5].


البؤس وانتظار الخلاص

من زاوية التجربة التاريخية فإن أزمنة الأزمات كانت دائمًا تربة خصبة لانتشار مثل هذه الأفكار عن «نهاية التاريخ»، فالانتشار الواسع لفكرة اقتراب هذه المعركة واقتراب ظهور المخلص (المهدي – المسيح – … )، مرتبط في حالات كثيرة بالواقع المتأزم لا بالغيب وبشاراته.

من المآسي التاريخية الكبيرة التي تجسد مآل الانجرار المهووس وراء هذه الفكرة التي قد يكون لأصلها الغيبي وجوه من الصحة ما حدث على يد الدجال اليهودي الشهير شبتاي تسفي، وتعد رحلته أحد أكثر الفصول الظاهرة إثارة. وُلد تسفي بأزمير التركية لأسرة تجارية، تلقى تسفي تعليمًا دينيًا تقليديًا، واستغرق في دراسة التصوف اليهودي «القبَّالاه»، وشهد عام 1648 حدثين أولهما انتهاء حرب الثلاثين عامًا (1618 ـ 1648)، وهي حرب استفاد منها نخبة اليهود، وعانـت منهـا الجماهير اليهودية أيما معاناة، ونهاية الحرب نفسها كانت بداية تدهور الشبكة التجارية اليهودية العالمية، وتدنّي وضع النخبة اليهودية والاسـتغناء عن الدور التجاري المميز لليهـود.

شهدت هذه الفترة إرهاصات الفكر الصهيوني بين مسيحيي إنجلترا والاهتمام باليهود، واسترجاعهم كشرط لـ «الخلاص». وكانت هناك نبوءة تسري في الأوساط المسيحية (البروتستانتية الصهيونية) بأن عام 1666 سيكون بداية «العصر الألفي» الذي سيتحقق فيه استرجاع اليهود لفلسطين. وفي هذا الجو من الإحباط والثورات والتردي الحضاري والاقتصادي، حققت القبَّالاه انتشارًا غير عادي، ولعبت عوامل عديدة دورًا في تهيئة الجو لانفجار الأفكار المتصلة بعودة المسيح، انتشار يهود إسبانيا بكثير من موانئ البحر المتوسط، وكانوا يحملـون فكرًا صوفيًا يهوديًا، كما أنهم كانوا يعانون الضيق بعد أن شهدوا أيامهم الذهبية في الأندلس وإسبانيا المسيحية، وقامت أعداد كبيرة من اليهود بالإعداد لوصول المسيح وبدأت الإشاعات تنتشر عن جيش يهودي جرار «يفتح فلسطين».

في هذا المناخ، ظهر شبتاي تسفي، ويبدو أن حياته النفسية لم تكن سـوية. تزوج فتاة بولندية يهودية حسناء يقال إنها كانت عاهرة وكانت تدعي أنها لن تتزوج إلا «المسيح»، ولذا فإن الإله أعطاها رخصة أن تعاشر من تشاء جنسيًا حتى يظهر المسيح ويتزوجها، وقد قابلها تسفي في القاهرة، وأعلن تسفي أنه المسيح، وقد رفض الحاخامات الاعتراف به، فطُرد من أزمير وتنقل في الأعوام العشرة التالية في مدن اليونان، ورحل لفلسطين عام 1662. دخل شبتاي القدس في 1665، وأعلن أنه المتصرف الوحيد في مصير العالم كله، وركب فرسًا (كما هو متوقع من المسيح) وطاف القدس سبع مرات هو وأتباعه، وأعلن عام 1666 أنه سيذهب لتركيا ويخلع السلطان، وزاد ذلك حدة الحماس الديني بين يهود أوروبا، ووصلت الأنباء لعواصم أوروبية، وصارت الجماهير اليهودية تحمل بيارق المسيح في بولندا وروسيا، ووصل الأمر حد أن بعض الأثرياء باعوا كل ما يملكونه استعدادًا للعودة، واستأجروا سفنًا لتنقل الفقراء لفلسطين، واعتقد البعض الآخر أنهم سيُحملون إلى القدس على السحاب، وسيطرت الهستيريا على الجماهير، فكان أتباعه يُغشَى عليهم ويرونه في رؤاهم ملكًا متوجًا، وانقسمت كثير من الجماعات اليهودية بصورة حادة.


هرمجدون ونظائرها

بظهور الترجمة العربية لكتاب: «النبوءة والسياسة» للكاتبة الأمريكية جريس هالسل، في تسعينات القرن الماضي أصبح هناك ما يعزز فكرة أن النبؤات الغيبية تلعب دورًا أكثر مما يبدو في العلاقات الدولية، ومن الناحية الثقافية ألهم هذا كثيرين لإنتاج أدبياتهم الخاصة بنهاية التاريخ وفقًا لقناعاتهم الدينية. وكان الهلال الخصيب نقطة التقاء عدة رؤى لهذه النهاية الملحمية، و«ترتبط معركة نهاية التاريخ في أذهان اليهود والنصارى بالماضي القاسي الذي عاشه الآباء والأجداد، حين كانوا في صراع مستمر مع الأغيار؛ مما جعلهم يتعرضون للسبي والشتات والاضطهاد أكثر من مرة، ومن ثم فهم يتطلعون إلى ظهور المسيح اليهودي – المسيحي المنتظر ليقوم بجمع ‹المؤمنين الصالحين› من كلتا الديانتين، وتجييشهم للانتقام من الأمم التي آذتهم عبر تاريخهم الطويل في معركة فاصلة بين الشر والخير تدعى ‹معركة هرمجدون›».

وهَرْمَجَدُّون «كلمة عبرية مكونة من مقطعين: ‹هر أو هار› ومعناه الجبل، و‹مجدّون› وهو اسم وادٍ في فلسطين»، و«من المنظور المسيحي هي مجزرة بشرية هائلة أو حرب نووية يباد فيها معظم البشرية، ستقع بين قوى الشر من جانب ممثلة في الشيطان وجنوده، يعاونه – في زعمهم – المسلمون وبعض الروس، وبعض المنشقين عن الكنيسة، وبعض اليهود أيضًا، وبين قوى الخير من جانب آخر ممثلة في المسيح وقواته من الملائكة التي سترافقه في عودته، تعاونهم قوى الخير من البشر ومنها الشعب الأمريكي، وسوف تباد في هذه المعركة غالبية البشر، وعقب نهاية المعركة بانتصار المسيح يقبض هذا الأخير على الشيطان، ويأسره، ويسجنه. وأثناء المعركة سوف يُرفع الأبرار من النصارى المؤمنين بهذه العقيدة إلى السماء لمراقبة أحداثها من خلال السحاب، ثم يعودون سالمين إلى الأرض ليعيشوا مع المسيح لمدة ألف سنة في ‹الفردوس الأرضي›»[6].


من جهيمان إلى البغدادي

من السوابق المبكرة في تاريخ الحركات الإسلامية لسيطرة هذه الفكرة عملية اقتحام الحرم المكي في 1977 على يد جماعة جهيمان العتيبي، وقد كانوا يظنون أن أحد أعضاء الجماعة هو «المهدي». والآن تحرص داعش على استثمار الرصيد المعنوي الهائل لبشارات آخر الزمان مستحضرة رموزها، وفي إصدار لها عنوانه: «دابق موعدنا»، واستنادًا لرواية في صحيح مسلم، عن رسول الله، قال: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق (منطقة تتبع أنطاكيا جنوب تركيا) أو بدابق (تتبع حلب شمال سوريا)، فيخرج إليهم جيش من المدينة (يرجّح أن تكون دمشق بحسب تفسير ابن كثير)، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافّوا، قالت الروم: خلّوا بيننا وبين الذين سُبُوا منّا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلّي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فيُهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا (الذين يرتّدون عن الإسلام بسبب الفتن بحسب ابن كثير)؛ أي لا يلهمهم الله التوبة، ويُقتلُ ثُلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبدًا، فيفتتحون قسطنطينية».

واستعان أنصار التنظيم عبر حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بحديث آخر يشير إلى أن المعركة في دابق ستكون «عظيمة» تضم مئات الآلاف من المقاتلين، وينص الحديث في نهايته على «تغدر الروم وتجمع للملحمة فيأتونكم تحت ثمانين غاية (راية) تحت كل غاية اثني عشر ألفًا».

ولهذا السبب فإن منبج بحد ذاتها لا تمثل قيمة سياسية أو جيوسياسية كبيرة، لكنها بوابة الفرات تجاه دابق، الأبعد باتجاه الغرب، والقرية التي تعتمد عليها داعش في خطاب التجنيد والحشد؛ لكونها ستشهد الملحمة الكبرى ونهاية التاريخ، ولعل هذا ما دفع داعش للتخلي عن منبج، والتوجه نحو مارع، الملاصقة لدابق.

وما تزال الرموز تُستدعى من عالم الغيب إلى عالم الشهادة وتحت رايتها يخوض كثيرون حروبهم!

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى