مقالاتمقالات المنتدى

معاناة المرأة في زمن موسى (12)

عِبَـرٌ من قصة أُمِّ موسى

معاناة المرأة في زمن موسى (12)
عِبَـرٌ من قصة أُمِّ موسى

بقلم د. عادل حسن يوسف الحمد( خاص بالمنتدى)

تضمنت قصة أُمِّ موسى في معاناتها من بطش فرعون، وإرهابه لنساء بني إسرائيل، فوائد عِدَّة، ذكر جملة منها الطَّاهر بن عَاشُور رَحِمَهُ الله فقال: (وَمَوْضِعُ الْعِبْرَةِ مِنْ هَذِهِ القِصَّة أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ أُمُورًا ذَاتَ شَأْنٍ فِيهَا ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ.

فَأَوَّلُ ذَلِكَ وَأَعْظَمُهُ: إِظْهَارُ أَنَّ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) إِلَى قَوْله (يَحْذَرُونَ) [الْقَصَص:5، 6] وَأَنَّ الْحَذَرَ لَا يُنَجِّي مِنَ الْقَدَرِ.
وَثَانِيهِ: إِظْهَارُ أَنَّ الْعُلُوَّ الْحَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ عُلُوَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا فِي دَفْعِ عَوَاقِبِ الْجَبَرُوتِ وَالْفَسَادِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً لِجَبَابِرَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.

وَثَالِثُهُ: أَنَّ تَمْهِيدَ القِصَّة بِعُلُوِّ فِرْعَوْنَ وَفَسَادِ أَعْمَالِهِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ الِانْتِقَامِ مِنْهُ وَالْأَخْذ بِنَاصِرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ؛ لِيَحْذَرَ الْجَبَابِرَةُ سُوءَ عَاقِبَةِ ظُلْمِهِمْ وَلِيَرْجُوَ الصَّابِرُونَ عَلَى الظُّلْمِ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَهُمْ.
وَرَابِعُهُ: الْإِشَارَةُ إِلَى حِكْمَةِ: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [الْبَقَرَة: 216] فِي جَانِبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [الْبَقَرَة: 216] فِي جَانِبِ فِرْعَوْنَ؛ إِذْ كَانُوا فَرِحِينَ بِاسْتِخْدَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَدْبِيرِ قَطْعِ نَسْلِهِمْ.

وَخَامِسُهُ: أَنَّ إِصَابَةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَغْتَةً مِنْ قِبَلِ مَنْ أَمَّلُوا مِنْهُ النَّفْعَ أَشَدُّ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِ وَأَوْقَعُ حَسْرَةً عَلَى الْمُسْتَبْصِرِ، وَأَدُلُّ عَلَى أَنَّ انْتِقَامَ اللَّهِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنِ انْتِقَامِ الْعَدُوِّ كَمَا قَالَ: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) [الْقَصَص: 8] مَعَ قَوْلِهِ: (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) [الْقَصَص: 9].
وَسَادِسُهُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحُكْمِ التَّعَقُّلِ أَنْ تُسْتَأْصَلَ أُمَّةٌ كَامِلَةٌ لِتَوَقُّعِ مُفْسِدٍ فِيهَا لِعَدَمِ التَّوَازُنِ بَيْنَ الْمَفْسَدَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِأَفْرَادِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ مُتَعَذِّرَةٌ فَلَا يَكُونُ الْمُتَوَقَّعُ فَسَادُهُ إِلَّا فِي الْجَانِبِ الْمَغْفُولِ عَنْهُ مِنَ الْأَفْرَادِ فَتَحْصُلُ مَفْسَدَتَانِ هُمَا أَخْذُ الْبَرِيءِ وَانْفِلَاتُ الْمُجْرِمِ.

وَسَابِعُهُ: تَعْلِيمُ أَنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ بِتَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ بِحَادِثٍ سَمَاوِيٍّ، وَلَمَا قَدَّرَ لِإِهْلَاكِهِمْ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُرَتَّبَةَ، وَلَأَنْجَى مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْجَاءً أَسْرَعَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ تَنَقُّلَاتِ الْأَحْوَالِ ابْتِدَاءً مِنْ إِلْقَاءِ مُوسَى فِي الْيَمِّ إِلَى أَنْ رَدَّهُ إِلَى أُمِّهِ؛ فَتَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قالُوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الْأَنْفَال: 32] وَلِيَتَوَسَّمُوا مِنْ بِوَارِقِ ظُهُورِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَانْتِقَالِ أَحْوَالِ دَعْوَتِهِ فِي مَدَارِجِ الْقُوَّةِ أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ وَاقِعٌ بِأَخَرَةٍ.

وَثَامِنُهُ: الْعِبْرَةُ بِأَنَّ وُجُودَ الصَّالِحِينَ مِنْ بَيْنِ الْمُفْسِدِينَ يُخَفِّفُ مِنْ لَأْوَاءِ فَسَادِ الْمُفْسِدِينَ؛ فَإِنَّ وُجُودَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ كَانَ سَبَبًا فِي صَدِّ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِ الطِّفْلِ مَعَ أَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: (لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) [الْقَصَص: 9] كَمَا قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ.
وَتَاسِعُهُ: مَا فِي قَوْلِهِ: (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ نَصْرَهُمْ حَاصِلٌ بَعْدَ حِينٍ، وَوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ وَعِيدَهُمْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْهُ.
وَعَاشِرُهُ: مَا فِي قَوْلِهِ: (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ يُؤْتَى مِنْ جَهْلِهِ النَّظَرَ فِي أَدِلَّةِ الْعَقْلِ). (التحرير والتنوير 20/ 85).

هذه الفوائد العظيمة التي ذكرها الطاهر بن عاشور رحمه الله تستحقُّ أن نقف معها كلِّها، ولكن المقام لا يتَّسع لذلك، ولعلي أقف مع فائدة واحدة ذكرها الشيخ رحمه الله وهي الفائدة السابعة:
(أَنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ بِتَهْيِئَةِ الأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ بِحَادِثٍ سَمَاوِيٍّ، وَلَمَا قَدَّرَ لإِهْلاكِهِمْ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُرَتَّبَةَ، وَلأَنْجَى مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْجَاءً أَسْرَعَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ تَنَقُّلاتِ الأَحْوَالِ، ابْتِدَاءً مِنْ إِلْقَاءِ مُوسَى فِي الْيَمِّ إِلَى أَنْ رَدَّهُ إِلَى أُمِّهِ)

فأُذكِّرُك أختي الكريمة بما يتناقله الناس اليوم في الأحداث الجارية، مثل الحرب التي كانت في سورية، أو في فلسطين، أو في غيرها، فيقولون: لماذا لا يعذبهم الله وينزل عليهم عذابًا من السماء فيُدمِّرهم تدميرًا؟!
هذا النوع من التفكير دليلٌ على اليأس الذي أصاب النفوس من جهة، ومن جهة أخرى هو دليل على ضعف الإيمان بالله وعدم معرفة سننه في الكون؛ فإن من سنن الله أن يدفع أهل الشرِّ بأهل الخير، قال تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]، وقال سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].

فهذه هي سنة الله عزَّ وجلَّ: أن شرَّ أهل الباطل لابدَّ أن يقاومه رجالٌ من أهل الحقِّ، ويُقاوَم الشَّرُّ بكل وسيلة، ويُدفَع بكلِّ قوة.
فلا تستهيني أختي الكريمة بأي عمل تقومين به في مواجهة أهل الباطل أيًّا كان باطلهم، فالله وعد بنصر من ينصره، فكوني ممن ينصر دين الله عزَّ وجلَّ بالتمسُّك بدينه، لتكوني نموذج الثبات في هذا الزمان، وشاركي بنشر الحقِّ بالكلمة والكتابة وغيرها، وخاصة بين النساء، فإن صلاح المرأة هو صلاح المجتمع، وصلاح المجتمع هو صلاح الأُمَّة.

ومن العِبَر والفوائد كذلك ما ذكره الشيخ السَّعْدِي رَحِمَهُ الله فقال: ((فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) فصار من لقطهم، وهم الذين باشروا وجدانه، (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) أي: لتكون العاقبة والمآل من هذا الالتقاط، أن يكون عدوًّا لهم وحزنًا يحزنهم، بسبب أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل، قيض الله أن يكون زعيمهم، يتربَّى تحت أيديهم، وعَلَى نظرهم، وبكفالتهم!
وعند التدبُّر والتأمُّل، تجد فِي طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل، ودفع كثير من الأمور الفادحة بهم، ومنع كثير من التعديات قبل رسالته، بحيث إنه صار من كبار المملكة.

وبالطبع، إنه لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا، وهو هو ذو الهِمَّة العالية والغيرة المتوقِّدة، ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف الذي بلغ بهم الذلَّ والمهانة إلى ما قص الله علينا بعضه أن صار بعض أفراده ينازع ذلك الشعب القاهر العالي فِي الأرض، كما سيأتي بيانه.
وهذا مقدمة للظهور، فإن الله تعالى من سنته الجارية، أن جعل الأمور تمشي عَلَى التدريج شيئًا فشيئًا، ولا تأتي دفعة واحدة).( تفسير السعدي 612).

ولكن هل كانت معاناة المرأة في زمن موسى في مصر فقط؟
أم أنها حالة من الظلم منتشرة في أماكن أخرى؟

12رمضان 1446هـ

��عبر من قصة أم موسى_12�

إقرأ أيضا:حmاس وحميد الأحمر

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى