
معاناة المرأة في زمن موسى (٩)
معاناة أخت موسى
بقلم د. عادل حسن يوسف الحمد( خاص بالمنتدى)
لمَّا ربط الله على قلب أُمِّ موسى لتكون من المؤمنين بوعده، ألهمها كيفيَّة التَّصرُّف مع فقد وليدها، فَقالَتْ لِأُخْتِهِ: (قُصِّيهِ) [القصص: 11].
هنا بدأت مرحلة التَّفكير الصَّحيح والهادئ لحلِّ المشكلة الواقعة عليها وهي فقد وليدها موسى، مع أنَّ القلب كما وصفه الله عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) [القصص: 10] إلَّا أنَّ الحزن والبكاء والعيش فِي داخل المشكلة بكثرة تردادها لا يوصل إلى حلٍّ.
فكانت النعمة من الله على أُمِّ موسى أن ربط على قلبها لتُحسن التَّدبيرَ والتَّفكيرَ، فَقالَتْ لِأُخْتِهِ: (قُصِّيهِ).
وهذه فائدة عظيمة لكِ أيَّتها الأخت الكريمة فِي معرفة كيفيَّة التَّصرُّف عند حلول المشاكل فِي حياتك؛ بحيث لا يسيطر على قلبك الحزن، فبادري ابتداءً باللُّجوء إلى الله ليربط على قلبك، ويُلهمك السَّداد فِي التعامل مع مشكلتك، وهذا يحتاج منك إلى خمسة أمور:
الأوَّل: يحتاج منك إلى ركعتينِ تتوجَّهينَ فيهما إلى الله بخالص الدُّعاء أن يكشف عنك هذه المصيبة التي حلَّت بك. وهذا كان فعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. (رواه أبو داود)
قال محمد بن عز الدين رحمه الله: (أي: نزل به أمر مُهِمٌّ، أو أصابه غَمٌّ. “صلى”؛ ليسهلَ ذلك الأمرُ ببركةِ الصلاة). (شرح المصابيح 2/205)
وقال العيني رحمه الله: (ويستفاد من هذا: أنَّ الرَّجل إذا نزل به أمر يهمُّه، يُستحبُّ له أن يُصلي). (شرح سنن أبي داود 5/226)
الثَّاني: يحتاج منكِ إلى كثرة الاستغفار، لأنَّ المصائب والمشاكل التي تصيبنا داخلة فِي قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165] والاستغفار يمحو الله به الذنوب وآثارها على القلب، ويغيِّر حياة المستغفر وأحواله، كما قال هود لقومه: (وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود: 52]
الثَّالث: يحتاج منكِ إلى تَقْوى الله، لحلِّ جميع مشاكلكِ، وخاصَّةً فِي التَّعامل مع أطراف المشكلة، فلا تقعي فِي غِيبتهم، ولا ظلمهم، ولا الافتراء عليهم، وخاصَّة إذا كانت المشكلة بينكِ وبين زوجكِ، فإذا فعلتِ ذلك فأبشري بالفرج، فهو وعد من الله لا يُخلف، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2-3].
الرَّابع: يحتاج منكِ إلى الأناة وعدم الاستعجال فِي اتخاذ أيِّ قرار، فإنَّ العجلة فِي اتخاذ القرارات من الشَّيطان، ليُعمي قلبَكِ عن معرفة أبعاد اتخاذ مثل هذه القرارات السَّريعة، فيوقعكِ فِي الخطأ، وهذا سبب كثيرٍ من المشاكل فِي حياة النَّاس، وخاصة فِي موضوع الطَّلاق، والتَّفريق بين الأحبَّة.
عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (التأَنِّي منَ الله والعَجَلَةُ مِنَ الشيْطانِ). (رواه أبو يعلى)
الخامس: يحتاج منكِ فِي حلِّ أيِّ مشكلة فِي حياتك إلى الاستشارة، والاستفادة من عقول الآخرين وخاصَّة العلماء، وأهل الاختصاص، ومن هم أكبر منكِ سنًّا وخبرةً.
وما خاب من استشار.
فهذه خمسة أمور تَحلَّيْ بها فِي حياتك لمعالجة مشاكل الحياة المتنوعة.
فأُمُّ موسى لما ربط الله على قلبها اتخذت القرار الصَّحيح فِي التَّعامل مع فقدها لرضيعها فَقالَتْ لِأُخْتِهِ: (قُصِّيهِ) قال ابن قتيبة الدينوري رَحِمَهُ الله: (أي قُصِّي أثرَه واتَّبعيهِ). (غريب القرآن 329)
وهنا تبدأ معاناة جديدة للمرأة فِي زمن فرعون، وتدخل شخصيَّة جديدة فِي هذه المعاناة، وهي أخت موسى.
فكانت أوَّل مراحل المعاناة تتبع أثر موسى، قال ابن كَثِير رَحِمَهُ الله: ((قُصِّيهِ) أَيْ اتْبَعِي أَثَرَهُ، وَخُذِي خَبَرَهُ، وَتَطَلَّبِي شَأْنَهُ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ). (تفسير ابن كثير 6/ 201)
وهذا التَّتبع يمكن أن يكون فِي جانب سير التابوت فِي اليمِّ، ولكن كيف يمكنها أن تتبع أثره وهو في داخل القصر؟!
وكيف تسير على الشاطئ وهي تراقب التابوت الذي تتقاذفه الأمواج من غير أن يشعر بها أحد، أو يشكُّ فيها أحد؟!
قال السَّعْدِي رَحِمَهُ الله: ((وَقَالَتِ) أُمُّ موسى (لأخْتِهِ قُصِّيهِ) أي: اذهبي فقُصي الأثر عن أخيك وابحثي عنه من غير أن يحسَّ بكِ أحدٌ أو يشعروا بمقصودكِ). (تفسير السعدي 613)
إنَّها معاناة الفتاة الشَّابة فِي زمن فرعون؛ خوفٌ، وقلقٌ من أن تُكتشف أو يُفتضح أمر الطِّفل ويعرف أهله، فتأتي عليهم العقوبة.
فالمهمَّة فِي تتبُّع أثره شاقَّة وليست يسيرة، إنَّها ليست مجرد مسيرٍ مع نظرٍ للتابوت، وإنَّمَا هي خوفٌ وقلقٌ وحذرٌ شديدٌ من أيِّ تصرُّفٍ خاطئٍ قد يؤدي إلى قتل الطِّفل، وإيذاء أهله.
والأخت الأولى عادة ما تكون مثل الأُمِّ فِي رعاية مَن هم أصغر منها سنًّا، فقلبها مثل قلب الأُمِّ، فإذا كانت أُمُّ موسى قلقة، فهي كذلك مثلها.
ولبَّت أخت موسى نداء أُمِّها، ونفَّذت أمرها فسارت تتبع أثر أخيها موسى وتتسمَّع لأخباره من بعيد حتَّى لا يشعر بها أحد، ونجحت فِي هذه المهمَّة الأولى (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [القصص: 11]
قال ابن جرير الطبري رَحِمَهُ الله: (يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَصَّتْ أُخْتُ مُوسَى أَثَرَهُ، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ): يَقُولُ فَبَصُرَتْ بِمُوسَى عَنْ بُعْدٍ لَمْ تَدْنُ مِنْهُ وَلَمْ تَقْرَبْ، لِئَلَّا يُعْلَمَ إنَّها مِنْهُ بِسَبِيلٍ). (جامع البيان 18/ 174)
وقال الشنقيطي رحمه الله: (أَيْ رَأَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ كَالْمُعْرِضَةِ عَنْهُ، تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَإنَّها لَا تُرِيدُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِإنَّها أُخْتُهُ جَاءَتْ لِتَعْرِفَ خَبَرَهُ). (أضواء البيان 4/10)
وهذا دليلٌ على حرص أخت موسى وشدَّة حذرها، وعلى ذكائها فِي التَّعامل مع أكبر طاغوت وُجد على وجه الأرض وهو فرعون.
فإذا كان فرعون المدَّعي للربوبية، الطاغية، الذي وصفه الله بقوله: (إِنَّهُ طَغَى) [طه: 24] استطاعت فتاة أن تتعامل معه من غير أن يشعر بها وبمرادها، بل لم يعرف مَن هي، فكل طواغيت الأرض بعده يمكن لأهل الحقِّ أن ينشروا ما هم عليه من الحقِّ وينصروه من غير أن يشعر بهم هؤلاء الطواغيت، أو يكتشفوا أمرهم!
لأنَّ الله ينصر أهل الحقِّ فِي نصرتهم للحقِّ، ولا يوفق أهل الباطل فِي محاربتهم للحقِّ.
قال تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 264]،
وقال سبحانه: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 258].
وقال عز وجل: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 108].
فالتَّوفيق مسحوب من الكافرين، والظالمين، والفاسقين.
فكوني مؤمنة بالله وتأسَّيْ بأخت موسى وأُمِّه، وانصري أهل الحقِّ، ودافعي عنهم، من غير أن يشعر بك أحد.
9 رمضان 1446هـ
إقرأ أيضا:الرد على الشيخ عثمان الخميس(٧)