مقالاتمقالات مختارة

معالم منهجية تعقيب على المناظرة بين د. عبد الله الغذامي ود. راشد العبد الكريم

معالم منهجية تعقيب على المناظرة بين د. عبد الله الغذامي ود. راشد العبد الكريم

بقلم د. عبدالله بن محمد القرني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

حمل المقال PDF

حصلت نقاشات وثارت إشكالات على هامش المناظرة الأخيرة بين د. عبدالله الغذامي ود. راشد العبدالكريم، وقد كانت المناظرة حول ما طرحه د. الغذامي في كتابه الجديد: “العقل المؤمن/العقل الملحد، كيف لعقول البشر أن تؤمن أو تلحد”، وما نشره د. راشد العبد الكريم من ملاحظات على الكتاب، وقد تباينت المواقف حول المناظرة، وظهر أن ما تم طرحه في المناظرة من الطرفين قد أثار عند كثيرين إشكالات أكثر مما أجاب عن الأسئلة التي دار حولها النقاش.

وإذا لم يمكن استيفاء القول في المسائل التي طرحت في المناظرة لكثرتها وحاجة كل منها إلى تفصيل في أمور دقيقة فلا أقل من التأكيد على معالم مجملة عسى أن يحصل بها النفع.

 ومن تلك المعالم:

1- أن إعلان المناظرة وأن تكون عامة مما تختلف فيه وجهات النظر تبعًا للاختلاف حول ما يترتب على ذلك من مصالح ومفاسد، ورأيي أنه لو كانت المناظرة قد حصلت في نطاق أكاديمي محدود لكان أولى، لأن موضوع المحاضرة يمس أمرًا هو أصل الأصول، وهو الكلام عن وجود الله تعالى بين أدلة المثبتين وشبهات المنكرين، وليس هذا الطرح في مستوى عامة الناس حتى يذاع فيهم، هذا لو لم توجد في المناظرة إشكالات منهجية وعلمية من الطرفين غير مجرد أن تكون المناظرة عامة، فكيف وقد وجدت؟.

ومن وجه آخر فإن انتشار الإشكالات العقدية على نطاق واسع في وسائل التواصل والفضائيات وغيرها مما يحتم على أصحاب التخصصات الشرعية والمتخصصين في مجال العقيدة خاصة أن يراعوا ما يجب عليهم وجوبًا عينيًا من الدراسة التفصيلية للنظريات العلمية الحديثة التي لها صلة بتخصصهم، وأن يعينوا الدارسين في مرحلتي الماجستير والدكتوراة على مواكبة العلوم التي تدرس فيها تلك النظريات، ودراستها دراسة عقدية تبين ما يُقبل منها وما يُرفض، وأن يتجاوز بعضهم الانكفاء على صراعات الماضي فقد كفانا العلماء الكلام فيها وقاموا بما يجب عليهم تجاهها، وألا يكون موقفهم مجرد تَكرار ما ذكروه عن طوائف وشبهات قد يكون بعضها مندثرًا لا واقع له، وأن يستلهموا المنهج الذي أنار العلماء المتقدمون طريقه في نقد ما  يجد في واقعهم من شبهات.

كما ينبغي العمل على وجود دراساتٍ مشتركة حول النظريات العلمية الحديثة بين التخصصات في العلوم البحتة، والتخصصات الشرعية لتجاوز الفصام النكد الذي لا مبرر له بين تلك التخصصات، بحيث يكون نقد أصحاب التخصصات الشرعية للنظريات العلمية مبنيًا على تصور لها كما هي عند أصحابها، وتكون دراسة أصحاب التخصصات القائمة على النظريات الحديثة وخصوصًا في علمي الفيزياء والأحياء في حدود ما لا يصادم النصوص الشرعية، للجزم بأنه لا يمكن التعارض في نفس الأمر بين حقيقة علمية وبين نص شرعي، وإنما يكون التعارض في حال الاحتمال في النظرية، أو في حال الاحتمال في ثبوت النص أو في دلالته، وأما مع تحقق القطع والجزم فيهما فيستحيل التعارض، فإن القطعي لا يعارضه قطعي، وإنما تكون المعارضة بين قطعي وظني، وهذا المعنى هو ما فصل القول فيه الإمام ابن تيمية في كتابه العظيم “درء التعارض بين العقل والنقل“، وما ذكره فيمكن البناء عليه في التأسيس لمشروع معاصر يتم فيه بيان الموقف من التعارض بين النصوص الشرعية ونظريات العلم الحديث.

2- من القواعد المنهجية المحكمة أن الحقائق العلمية لا يمكن أن تعارض قطعيات النصوص ثبوتًا ودلالة، أما إذا وردت النصوص القطعية بما يخالف نظرية علمية، أو كان النص ظنيًا في ثبوته أو دلالته وخالف حقيقة علمية لا تقبل الشك والاحتمال فيمكن ورود التعارض بينهما حينئذ.

وإذا تأملنا ما جاءت به النصوص القطعية في خلق آدم عليه السلام خاصة وجدنا أنها قد دلت دلالة ظاهرة لا تحتمل التأويل على أن الله تعالى قد خلقه خلقًا مستقلاً، وأن خلقه لم يكن تطورًا عن خلق آخر كما تنص عليه نظرية التطور.

ومن تلك النصوص قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص:75]، ودلالة الآية ظاهرة في أن خلق آدم عليه السلام لم يكن نتيجة تطور بيولوجي عن نوع سابق عليه كما في نظرية التطور، وإنما كان بطريق الخلق المباشر، ولا يصح تفسير خلق الله لآدم بيديه أنه خلقه بقدرته، فإن القدرة لا تقبل التثنية، ثم إن سائر المخلوقات إنما يخلقها الله بقدرته فلا يكون لآدم خصوصية لو فسرت الآية على هذا المعنى.

وقد جاء في آيات أخرى كثيرة أن الله تعالى قد خلق آدم من تراب كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران:59] وفي هذا دلالة ظاهرة على أن الله قد خلق آدم خلقًا مباشرًا خاصًا من تراب، فلم يكن وجوده نتيجة تطور عن نوع حيواني سابق عليه، وإنما كان عن تراب، وهذا لا يمكن تفسيره وفق نظرية التطور على أي معنى محتمل ولو على وجه بعيد، بل يستحيل التوفيق بين أن يكون آدم قد تطور عن نوع حيواني وبين أن يكون قد خُلق من تراب، فيلزم من أثبت أحد الأمرين أن ينفي الآخر لزومًا ضروريًا.

وإضافة إلى النصوص الواردة في خلق آدم خاصة فقد وردت نصوص أخرى كثيرة في أمر الله للملائكة بالسجود لآدم، وأنهم استجابوا لأمر الله تعالى فسجدوا لآدم سجود تكريم لا سجود عبادة، وأن إبليس أبى أن يسجد لآدم، وأن الله نهى آدم أن يأكل من شجرة في الجنة فأغواه إبليس حتى أكل منها هو وزوجته، وكل هذا وآدم ليس على الأرض، ولا تطور وجوده عن وجود حيواني سابق عليه على الأرض، وإنما أهبط آدم إلى الأرض بعد أن تم خلقه، وخلقت زوجته من ضلعه، وكان عاقلاً مكلفًا مأمورًا منهيًا، فيستحيل إثبات ما دلت عليه النصوص الواردة في هذه المعاني مع كثرتها بما يمكن فيه عدم التعارض فضلاً عن التوافق مع نظرية التطور.

والتعارض بين نظرية التطور وهذه النصوص هو ما يفسر الارتباك والحرج الذي حصل لـلدكتور الغذامي في المناظرة، حتى لم يجد مخرجًا إلا بالقول بأن السؤال عن خلق الله لآدم بيده هو سؤال غبي، مع أنه هو السؤال المفصلي الذي يترتب عليه إما القول بالنظرية وإن عارضت النصوص، وإما التراجع عن دعوى أن التطور حقيقة علمية لا تقبل الشك؛ إلى اعتبارها مجرد نظرية قابلة للنقد والإبطال، والغريب أن يبادر د. الغذامي إلى الجواب عن سؤال د. راشد له عن موقفه من خلق الله لآدم بيده بقوله بأنه لا يعلم، فكيف أمكنه الجزم بصحة نظرية وأنها لا تعارض النصوص مع عدم العلم بما يدل من النصوص دلالة قاطعة على بطلان النظرية؟ وهذا ليس في أمر قد يقال فيه إنه مما قد يخفى، بل إن دلالات النصوص التي سبق إيراد بعضها هنا هي مما يدخل فيما هو معلوم عند عموم المسلمين.

بل إن د. الغذامي لم يقف لا في المناظرة ولا في كتابه عند مجرد القول بأنه يمكن القبول بنظرية التطور لكونها لا تعارض النصوص، وإنما تجاوز ذلك إلى الدعوى بأن في النصوص ما يدل على صحة النظرية، وأن من المفسرين من أشار إلى ذلك كالإمامين الطبري والقرطبي. وهذا ما يوجب بيان الموقف مما ذكره، وهل التأويلات التي فسر بها الآيات التي أوردها مما  يمكن أن تحتمله النصوص أم لا ؟.

وابتداءً فإن نظرية التطور تقوم على القول بالسلف المشترك لجميع الكائنات الحية، وأنه بسبب الطفرات في الجينات تشكلت أنواع إثر أنواع لجميع الكائنات الحية، وأنه بناء على الانتخاب الطبيعي الحاكم لصيرورة الطفرات في الجينات لتلك الأنواع تشكلت شجرة الحياة.

لكن التسليم بالنظرية على هذا الوجه يحتاج إلى إثبات تحقق التطور الكبروي بين أنواع الكائنات الحية، وأن ذلك تفرع عن السلف المشترك، وعدم المعارضة للإيمان بالله تعالى وما يلزم عنه من انتفاء العشوائية في تدبيره للكائنات، وعدم المعارضة للنصوص الشرعية فيما يتعلق بخلق آدم خاصة وما ثبت ثبوتًا قطعيًا من أنه لم يدخل ضمن الشجرة المفترضة للأحياء، وإنما خلق خلقًا خاصًا مباشرًا على ما سبق بيانه.

والحقيقة أن النظرية من الجانب العلمي لم تجاوز إثبات ما يمكن حدوثه من التطور الصغروي داخل النوع الواحد إلى إثبات التطور الكبروي بين الأنواع؛ فضلاً عن إثبات السلف المشترك وأنه حقيقة علمية، كما لا يمكن وفق النظرية إثبات كيف بدأت الحياة من اللاحياة، كما أنه لا يمكن التوفيق بأي حال بين النظرية وبين ما ورد من النصوص المعارضة لها.

وقد حاول أصحاب ما يسمى بالتطور الموجه البحث عن مخرج يمكن معه التوفيق بين الإيمان والنظرية، فاكتفوا بإثبات التدبير الإلهي في حدوث الطفرات الجينية، مع التسليم بالسلف المشترك والتسليم بحدوث التطور بين الأنواع، وأما النصوص المعارضة للنظرية فانصبت جهودهم على تأويلها بما يخرجها عن دلالاتها المعتبرة.

وإنما حملهم على تلك التأويلات ما ظنوه من أن التطور حقيقة علمية لا تقبل الشك، وأن المؤسسات العلمية قد أقرتها واعتمدها في المناهج العلمية في جامعات العالم، فلا يكون مقبولاً أن يكون للمسلمين موقف يخالف ما عليه تلك المؤسسات المعتبرة، بل إن ذلك سيكون حسب ظنهم سببًا في تشويه الإسلام عند غير المسلمين واعتباره دينًا مخالفًا للعلم، كما يمكن أن يكون من وجه آخر سببًا في التشويش على بعض المسلمين، وأنه ربما يصل بهم الأمر إلى الإلحاد بناء على أن الدين الذي يرفض نتائج العلم لا يمكن إلا أن يكون باطلاً، ويعزز هذا الموقف في نظرهم ما حصل عبر تاريخ طويل من حرب ضروس بين العلم والدين في الغرب كانت نتيجته انتصار العلم وهزيمة الدين.

ولا شك أن هذه الأسباب هي التي دفعت د. الغذامي إلى ما ذهب إليه في المناظرة وفي الكتاب من التأويل لبعض النصوص الشرعية لتتوافق  مع نظرية التطور، فهو من جهة يعتبر النظرية حقيقة علمية لا يمكن إنكارها، ومن جهة أخرى هو حريص على حماية الشباب من موجة الإلحاد الجارفة التي تعتمد في جانب أساسي منها على دعوى معارضة الإسلام لنظريات العلم الحديث، ومنها نظرية التطور، وهذا الدافع مما يشكر عليه، وأسأل الله ألا يحرمه ثواب حرصه على حماية الشباب من التأثر بشبهات الإلحاد، لكن ذلك لا يبرر القبول بتأويل النصوص بما يخالف ظاهرها المعتبر عند أهل العلم، بل ينبغي الحرص على حماية النصوص الشرعية من التحريف، وأن يكون الاجتهاد في فهمها مقيدًا بالقواعد التي قررها العلماء في علم أصول الفقه. ومما ذكره د. الغذامي مما ظنه يؤيد نظرية التطور أنه حمل معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج:47]، على أن  “نشوء الخلق وصفات ذلك الخلق” لا يتوافق مع ما ورد في النصوص من أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام من الأيام المعهودة للبشر، وإنما بحسب “مفهوم الزمن عند الله” حسب قوله.

ومعلوم أن الأصل في خطاب الله لنا إنما يكون بحسب المعهود لنا، فتكون الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض هي الأيام التي نعرفها.

ومع ذلك فإنه لا إشكال في القول بأن الأيام التي تم فيها الخلق كان اليوم فيها بألف سنة أو أكثر، ولا تلازم بين القول بذلك وبين التأييد لنظرية التطور.

بل قد نقل الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنه أن المقصود بالأيام في الآية “يوم مقداره ألف سنة“،  واعتمد الإمام أحمد في كتابه “الرد على الزنادقة والجهمية” هذا المعنى ورد به عليهم في دعواهم التعارض بين آيات القرآن، وورد عن السلف في معنى الأيام الستة قول آخر، وهو أن المقصود بها مقدار الحساب يوم القيامة، وذكره الطبري عن ابن عباس أيضا، ومجرد ذكر هذه الأقوال عن السلف دون استشكال أن يكون أحدها مناقضًا للآخر مما يبين أن خلق الله للسموات والأرض يستوي فيه عندهم أن يكون قد تم في الستة الأيام المعهودة أو في ستة آلاف عام، لأن الأمر في كلا الحالين إنما يعود إلى تدبير الله وحكمته، ولا صلة له بإثبات التطور ولا نفيه.

وينبغي أن يعلم أن عدم الإقرار بنظرية التطور ليس مبنيًا على أنها من المحال لذاته الذي لا يمكن إثباته ولا التصديق به، وإنما لأنها في جانبها العلمي قد بُنيت على مالم يثبت علميًا، فلا السلف المشترك قد تم إثباته علميًا، ولا الانتقال من التطور داخل النوع الواحد إلى التطور بين الأنواع قد تم إثباته أيضًا، ثم إنه مع انتفاء الثبوت فيما هي أصول النظرية التي لا تقوم بدونها قد تفرع عن النظرية فيما يتعلق بخلق آدم خاصة ما هو باطل قطعًا، فأن يقال بأن خلق العالم لم يكن في الستة الأيام المعهودة، وإنما هو في ستة آلاف سنة أو حتى في أضعاف أضعاف ستة آلاف سنة، فهو على فرض ثبوته مما لا صلة له بإثبات الأصول التي تقوم عليها النظرية، ولا يحل إشكال تناقضها مع النصوص الشرعية، بل الكلام في مدة الخلق شيء، والكلام في كيف كان الخلق شيء آخر، والاستدلال لإثبات الأول لا يلزم منه لذاته التسليم بالثاني، ومن يجزم بأن الله قد خلق آدم بيده، وأنه خلقه من تراب فإنه لا يمكن أن يحصل له الشك في ذلك لو فرض أنه سلم بأن الله قد خلق العالم في بلايين السنين، وأي صلة بين الأمرين حتى يستدل بأحدهما على  الآخر ؟.

ومما استدل به د. الغذامي لتأييد نظرية التطور قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾ [الإنسان:1]، وحاصل استناده إلى هذه الآية هو ظنه أن في الآية ما يدل على أن خلق آدم عليه السلام قد مر على مراحل زمنية فوق حسابات البشر، لأن كلمة “حين” تشير إلى زمن غير محدد.

كما استدل على المعنى السابق بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر:29]، واستند في ذلك إلى ظنه بأن الآية تفتح مجالاً لما يسمى في العلم الحديث بالظروف الأولية التي يتم فيها البحث في حال نشوء الكائنات وكيف تطورت إلى أن وصلت لمرحلة الاكتمال.

ومن حيث المبدأ فإن التناقض الجوهري بين نظرية التطور وبين ما دلت عليه النصوص الشرعية الواردة في خلق آدم هو مما يستحيل معه احتمال دلالة هذه النصوص وغيرها مما يستدل به أصحاب التطور الموجه على ما يؤيد نظرية التطور؛ وإلا لزم أن تكون النصوص متناقضة، فإن النصوص الدالة على الخلق المباشر لآدم لا يمكن أن يسلم بها مع التسليم بأن آدم لم يخلق خلقًا خاصًا، وإنما كان وجوده نتيجة تطور أنواع إثر أنواع من الكائنات الحية حتى انتهى الأمر إلى اكتمال وجود النوع الإنساني، ولا أحد من أئمة التفسير، لا الطبري ولا القرطبي ولا غيرهما يمكن أن يصدر عنهم ما يمكن معه أن يسلموا بما تتناقض فيه دلالات النصوص، بل إن مجرد تسليمهم بالخلق المباشر لآدم هو في ذاته رفض لنظرية التطور وكل ما يظن أنه يدل عليها، وهذا التناقض الجوهري لا يمكن ترقيعه بمجرد أن بعض النصوص قد تحتمل أن خلق آدم قد تم في مراحل زمنية فوق حسابات البشر، لأن جوهر الإشكال في نظرية التطور هو في طبيعة وكيفية الخلق وليس في مدة الخلق وزمنه، وهذا التناقض متحقق مع من يقول بالتطور الموجه الذي يؤمن أصحابه بخلق الله للتطور بين الأنواع، فالتناقض على هذا يكون أشد وأوضح على القول بالتطور الناتج عن طفرات عشوائية في الجينات ينتج عنها تحول للأنواع الحية إلى أنواع أخرى.

وعلى هذا فلا يمكن أن نكتشف وفق ما يسمى بالظروف الأولية عن نتيجة مناقضة لما دلت عليه النصوص القطعية، بحيث يمكن معها احتمال دلالة النصوص لأن يكون خلق آدم قد كان نتيجة تطور عن نوع حيواني سابق، ولا أنه قد مر بمرحلة البشرية قبل مرحلة الإنسانية، ولا أن خلقه حين كان بشرًا لم يكن مستويًا مستقيم الصلب ثم سواه الله حين انتقل إلى مرحلة الإنسانية، وأنه لم يكن عاقلاً ثم أصبح بعد تسويته عاقلاً، بل كل ذلك وغيره مما يدعيه أصحاب التطور الموجه مجرد أوهام لا حقيقة لها وليس لها قيمة في ميزان العلم والشرع، وغاية ما يمكن إثباته أو اكتشاف ظروفه الأولية إن أمكن اكتشافه هو في حدود التطور الصغروي الذي يكون داخل النوع الواحد، وهذا لا إشكال فيه كما تقدم، لكنه لذاته لا يدعم نظرية التطور بين الأنواع، وهو الذي يسمى التطور الكبروي.

وهنا يتبين أن استناد أصحاب التطور الموجه إلى الآيات السابقة وغيرها مما هو في معناها واعتبارها أدلة داعمة للتطور ليس هو لأجل ظهور دلالة الآيات على المعاني التي ادعوها، ولا أن ما فسروا به تلك الآيات هو ظاهرها بحسب قواعد اللغة العربية، ولا أنه قد وافقهم أئمة التفسير على ما ادعوه من تلك المعاني، وإنما حصل الإشكال عندهم في فهم تلك الآيات لوجود خلل في مرجعية فهم النصوص الشرعية وضوابط فهمها؛ فإنه لما تقرر عند التطوريين عدم إمكان فهم النصوص على وجه يعارض نظرية التطور كان النظر إلى النصوص مقيدًا عندهم بفهمهم للنظرية، فبحثوا عما يمكن أن تفسر به النصوص ولو على جهة التعسف، ولو أنهم تعاملوا مع النصوص الشرعية وفق المنهحية الشرعية المنضبطة لانتفى الإشكال من أساسه؛ لأن النصوص حينئذٍ ستكون المرجعية والأساس في قبول النظرية أو رفضها، بحيث تكون النصوص القطعية حاكمة على النظريات المحتملة علميًا لا محكومة بها، ومصححة لما قد يحصل للناظر فيها من لبس، بدل أن يحصل اللبس فيها وإخراجها عن ظاهرها المتبادر لأجل موافقة النظرية أو عدم معارضتها على الأقل، وسيكون تعارض النظرية مع النصوص باعثًا على إعادة النظر والتحقق من علمية النظرية، وهل هي نظرية لا تحتمل الشك كما ظنوا أم أنها مجرد نظرية يمكن أن يكتشف العلم ما يبين بطلانها إضافة إلى دلالة النصوص على ذلك.

والإشكال في المرجعية خطر لا يقف عند نص أو نصوص محدودة، بل يجاوز ذلك إلى أن تكون النصوص في جملتها خاضعة لهذه المنهجية، وينشأ عن ذلك إتجاه جديد في فهم النصوص، يعتمد على التحكم في تفسيرها، وتخريجها على أي معنى يؤيد نظرية التطور، وهكذا الأمر في كل ما يتعلق بنظريات العلم الحديث وصلتها بالنصوص الشرعية.

وكما قوبلت النصوص قديمًا بدعوى المعارض العقلي، ونشأ عن ذلك الانحراف الكلامي والتأويل للنصوص بما يخرجها عن دلالتها الظاهرة، وقام العلماء بما يجب عليهم تجاهها؛ فإن دعوى التعارض بين النصوص ونظريات العلم الحديث قد ترتب عليها إشكالات وتأويلات أخرى للنصوص ينبغي على أهل العلم الكشف عنها وبيان بطلانها.

3- من الحقائق الظاهرة التي جاءت بها النصوص الشرعية أن الإيمان بتوحيد الله عمومًا وبوجوده خصوصًا قد تظافرت في الدلالة عليه الفطرة والأدلة العقلية.

وهناك فرق مهم بين دلالة الفطرة ودلالة الأدلة العقلية على وجود الله تعالى، فإذا كانت دلالة الفطرة قائمة على شعور وجداني ضروري يجده الإنسان من نفسه، فإن الأدلة العقلية تستند إلى مبادئ أولية ضرورية أيضًا؛ لكن دلالة الفطرة مما يمكن للشخص الإخبار فيها عن حاله وما يجده من العلم الضروري بتوحيد الله تعالى وما يتضمنه من إثبات وجوده، وأما الأدلة العقلية فإنه مع كونها تقتضي العلم بوجود الله تعالى بحيث يمكن للشخص الإخبار عن حاله وما يجده من العلم الضروري كما في دلالة الفطرة، إلا  أنه يضاف إلى ذلك أنه يمكن إقامة الحجة بالأدلة العقلية على المخالف ببيان وجه دلالتها والكشف عن استنادها إلى المبادئ العقلية وإلزامه عند مخالفتها بمخالفة الضرورة العقلية، وعلى هذا تكون دلالة الفطرة ذاتية وإن كانت ضرورية، وتكون دلالة العقل مستندة إلى مقدمات برهانية تتحقق بها إقامة الحجة على المخالف إضافة إلى تحقق اليقين الذاتي المبني عليها.

ثم إن الفطرة قد تنحرف وتفسد وينطفئ نورها بسبب اجتيال شياطين الإنس والجن للناس عنها إلى ما يناقضها، وأما الدلالة العقلية فإن لها خصوصية المحاكمة إلى المبادئ الأولية التي لا ينكرها إلا من ينكر خاصية العقل، فإن تلك المبادئ هي الواسطة بين الغريزة العقلية وبين كل استدلال عقلي مهما كان موضوعه.

وإذا تبينت مكانة الدلالة العقلية على وجود الله تعالى فإن من الاجحاف والخلل في منهج الاستدلال أن يظن بأن غاية ما تنتهي إليه الأدلة العقلية على وجود الله هي تكافؤ الأدلة، والتسليم بما انتهى إليه كانط من دعوى استحالة الاستدلال العقلي على وجود الله، وأنه ليس مطلوبًا من الإنسان إثبات وجود الله لكونه يحس بالفطرة، وإنما المطلوب الإيمان غيبًا بما هو مركوز في الفطرة، وهذا حاصل ما يقرره د. راشد العبدالكريم في المسألة.

وأما د. الغذامي فعنده أن “الفلسفة والعلم محايدان”، ويعرض على جهة الإقرار ما يذكره روسو من أن “الإيمان منطقة عاطفية وليست عقلانية”، وأن “الضمير مصدر الإيمان والعقل مصدر الإرادة”، وأن “الوجدان يطعم العقل بالذوق في التقبل أو الرفض دون الخضوع لأوامر العقل المطلقة” ونتيجة ذلك الانتهاء إلى ما قرره كانط من “نقص العقل وعجزه عن تحقيق أجوبة مبرهنة على الأسئلة الكبرى، مثل السؤال عن الله الخالق “.

وبهذا يتبين أن د. راشد ود. الغذامي وإن اختلفا في المناظرة التي أقيمت بينهما في الموقف من نظرية التطور اختلافًا جذريًا إلا أن موقفهما من الدلالة العقلية ومكانتها متقارب إلى هذه الدرجة.

والحقيقة أن كانط وإن أثبت وجود الله بالدليل الأخلاقي إلا أنه قرر استحالة الاستدلال بما سماه العقل الخالص على وجود الله، بدعوى أنه ليس من خاصية العقل النظري الحكم في مسألة وجود الله بنفي أو إثبات، ومنشأ الإشكال عنده أنه جعل دلالة العقل الخالص مقيدة بعالم الظواهر المحسوسة، فلا يكون الكلام في وجود الله إثباتًا أو نفيًا داخلاً عنده في نطاق قدرة العقل الخالص، والغريب أنه فيما يتعلق بالعالم المحسوس قد افترض وجود ما سماه الشيء في ذاته وراء ما ندركه من ظواهر الأشياء، ثم حكم بأنه لا يمكن للعقل أن يتصور حقيقة الشيء في ذاته، لكونه مما لا يدخل تحت المعطيات الحسية التي ندركها، مع أن ما سماه الشيء في ذاته ليس له حقيقة وجودية في نفس الأمر، بل لو فرض إمكان انتزاع ما سماه ظواهر الأشياء بالكلية فإنه لا يتصور بقاء أي حقيقة كامنة للشيء تبقى بعد انتفائها، وبهذا يكون قد تناقض، فلا هو أثبت وجود الله بناء على دلالة المخلوقات على  الله تعالى من جهة دلالة حدوثها وما فيها من إبداع وإتقان يستلزم أن يكون لها خالق مبدع وفق مبدأ السببية، ولا هو اكتفى بإثبات ما ندركه في الواقع الخارجي دون تكلف إثبات ما لا وجود له ولا يمكن إثباته مما سماه الشيء في ذاته.

بل قد تناقض كانط في كلامه عن وجود الله خاصة؛ حيث استدل بالدليل الأخلاقي على وجود الله، ونفى دلالة العقل الخالص على وجوده، مع أن مبدأ السببية هو المستند في الحالين، فإذا كان قد سلم بدلالة مبدأ السببية فيلزمه أن يطلق دلالته ولا يقيده في حال دون.

وما يلزم كانط من التناقض في هذه المسألة فهو لازم لكل من اعتبر دلالة الضمير أو الفطرة على وجود الله، وأهمل دلالة مبدأ السببية بحدوث المخلوقات وما فيها من إحكام وإتقان على وجود الله تعالى.

وإذا كان ربط الإيمان بالضمير دون الدلالة العقلية مما يمكن معه فهم المبرر الذي حمل الفلاسفة الغربيين على القول به، حيث وجدوا في نصوص الكتاب المقدس ما يناقض العقل، كالقول بالتثليث وتجسد الإله، فإنه لا مبرر لإهمال الدلالة العقلية وعدم اعتبارها مع ما جاءت به النصوص من الأدلة العقلية على أصول الاعتقاد، وخصوصا في التوحيد والنبوة والمعاد.

والإشكال الفلسفي الذي واجه كانط في رفضه للاستدلال العقلي على وجود الله أنه قد أقام فلسفته على الربط التام بين المقولات العقلية والمعطيات الحسية، حيث حكم حكمًا مطلقًا بأن المقولات والقوالب العقلية بدون معطيات حسية تكون جوفاء لا تنتج أي تصور أو حكم، وأن المعطيات الحسية بدون المقولات العقلية تكون عمياء، فلزمه أن يرتب على ما فرضه من هذا التلازم المطلق أنه يستحيل على العقل تصور وجود علة للموجودات المحسوسة تكون خارجة عن حدود الخبرة الحسية، لأن مقولة السببية كحال بقية المقولات عنده لا تنتج إلا في حال ارتباطها بالخبرة الحسية.

والحقيقة أن ما تقتضيه الضرورة العقلية وجاءت به النصوص الشرعية أنه بناءً على مبدأ السببية القائم على أن ماله بداية فلابد له من موجد يدل دلالة ضروية على أن ما نشهده من حدوث المخلوقات وما نشهده فيها من إحكام وإبداع لا يمكن أن يكون قد حصل صدفة ولا أنه ذاتي من نفس المخلوقات، بل لا يكون إلا لأن لها خالقًا هو الذي أحدثها وأتقن خلقها، وهذا ما يوجزه قول الله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:35]، فجاءت الآية ببيان بطلان احتمالين، وهما: أن يكون وجودهم صدفة من غير خالق، أو أن يكون وجودهم من أنفسهم، ليبقى الاحتمال الحق وهو أن يكون لهم خالق.

وهذه الطريقة العقلية الشرعية في الاستدلال على وجود الله ليست مستندة على مبدأ السببية مجردًا عن النظر في حدوث المخلوقات وما فيها من إبداع، بل لا تكون الضرورة العقلية لمبدأ السببية منتجة للدلالة على وجود الله إلا في حال ارتباطها بالضرورة الحسية القائمة على حدوث المخلوقات وإحكام خلقها، وشرح هذا التلازم بين الضرورة العقلية والضرورة الحسية، وبيان وجه بطلان الاستدلال التصوري العقلي المحض على وجود الله مما يطول به الكلام هنا، وقد فصلت القول فيه في كتاب: “المعرفة في الإسلام” (475-520).

ولو أن كانط سلك هذا الطريق لأمكنه إثبات وجود الله تعالى دون أن يتوهم أن الاستدلال العقلي على وجود الله محصور في الاستناد إلى مجرد التصور المحض، وما ذكره وأطال القول فيه من بطلان  الاستدلال العقلي على هذا الوجه فلا شك أنه حق، لكن ما فرضه من أن تكون دلالة مبدأ السببية مقيدة بالخبرة الحسية بحيث لا تدل على حقيقة غيبية قيّده عن أن يصل إلى وجه للدلالة العقلية على وجود الله تعالى فاكتفى بالدليل الأخلاقي.

يبقى أن يقال إن الدليل العقلي الشرعي على هذا الوجه يفرض التسليم الضروري بوجود الله تعالى، فلا معنى حينئذ لأن يقال إن الدليل العقلي على وجود الله محايد، وإن الإرادة هي التي يترتب عليها قبول الدليل أو رفضه، والكلام هنا ليس في أن من تبين له الحق بناء على هذه الدلالة وجزم بوجود الله قد يعرض عن الالتزام بدلالتها، وإنما في القول بأن العقل لا يتصور الحق في هذه المسألة تصورًا ضروريًا لمجرد وضوح أدلته، بل هو يحتاج في ذلك إلى مرجح من إرادته، وعلى هذا فقوة الإرادة ليست سابقة لقوة العلم والتصور وحاكمة عليها، بل لا تكون الإرادة إلا تابعة للتصور، ثم إنه مع اليقين بالحق قد ينحرف الإنسان عنه، فيكون كفره وإلحاده نتيجة لانحراف إرادته، لا لجهله بالحق، كما أخبر الله عن حال الكفار بقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:14]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33]، فالجحود في الآيتين هو عمل الإرادة، مع أن ذلك الجحود كان مع تحقق اليقين بالدين الحق وانتفاء التكذيب به.

(المصدر: موقع أثارة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى