معالم في طريق النصر والتمكين (1): القيم التي غرسها ذو القرنين في شعوب الأرض
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
إنَّ الله تعالى أظهر في سيرة أحسن الملوك (ذي القرنين) -التي عرضتها سورة الكهف في ست عشرة آية- مفاهيمَ حضارية وجعل في سيرته دروسًا لكل من أراد أن يحكم بالحق والعدل من الحكام في الناس، فأرشد القرآن الكريم عباده إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه بين العباد، فمن أهم هذه الركائز: الإيمان، العدل، العمل، وإنها لصفات لابد منها حتى يستقيم أمر الشعوب، ويأمنوا بحق على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، وأديانهم، وعقولهم، فالإيمان بالله ربًا يجعل الحاكم يحرص على أن يستقي أوامره وتشريعاته من منهج الله، الذي لا شطط فيه ولا خلاف، ولا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء، ويكون بعيدًا كل البعد عن هواه، فلا يظلم ولا يبطر ولا يتحكم في رقاب الناس وأمنهم بدون وجه حق، والعدل لابد منه لأنه مركب النجاة، وأمان أهل الأرض، والثقة بين الراعي والرعية، والقائد والمقود والحاكم والمحكوم، وبالعمل والتعاون ينتشر العمران، وتعم الحضارة وفق منهج رب العالمين.
لقد بنى ذو القرنين حضارة ربانية معتمدة على ركائز الإيمان، والعلم والعدل، والإصلاح مستهدفة بني الإنسان أينما حل وأقام، أو ارتحل إلى أي مكان، فقاد الدنيا بالإيمان والخير والفلاح، وعمل على تخليصها من أسر المادة الطاغية، وكذلك الكفر والشرك والإجرام.
وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة الشر من النفوس، وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط على الناس، ومحاولة استعبادهم واستغلالهم لتحقيق مصالح شخصية، فالانحطاط الأخلاقي أضر شيء بالحياة الإنسانية.
إن الحضارة الربانية متكاملة، وقابلة للبناء في أي وقت كان فيه التزام بالمنهج الرباني وأحكامه، لأن المنهج الرباني وأحكامه فيه كل الخير من عناصر معنوية اعتقادية وروحية وأخلاقية وعلمية وإبداعية، وعناصر مادية تشمل التقدم العمراني والصناعي والزراعي والتجاري، وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة، مرتبطًا بجميع جوانب الحضارة ولذلك تخرج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدم لصالح البشرية ولنشر الهداية لتعميمها على العباد وتسعى لبناء الرجال على أسس من العقلية والأخلاق، والأفكار الصحيحة، والتصورات السليمة قبل بناء المباني وتجميل المدن، وصناعة الأسلحة.
وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها، من الحاجات الجسمية والعقلية والروحية وتتطلع إلى التنافس الشريف، وإسعاد البشرية، وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل مسئولياتها الحضارية.
إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه تعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم، الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية وإعلاء كلمة الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله، (ذو القرنين القائد الفاتح، محمد خير رمضان، ص390)
ولقد سار نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون من بعده، على نفس المنوال والهدى الذي رسمه القرآن الكريم، ولقد طبقوا قول الله تعالى: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ” [الحج:41].
إن الإيمان الراسخ، والعمل الصالح، والسيرة الفاضلة، والمقاصد الخيرة، والدعوة إلى الله وإلى الحق واستخدام كل ما أوتينا من علم وحكمة يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة الصحيحة، والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلاق ربانية تسعد من دخل في منهجها في الدنيا والآخرة.
إن الحضارة الإنسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين الإسلام، وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: «تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الموحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن، وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان». (الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب، 1/490)
وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ، عبر الأنبياء والرسل والمؤمنين بهم، حتى الحلقة الأوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر النبي ﷺ وما تبعه من تفاعلات وأحداث.
وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية، التي تضم بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى، وتقبل في عضويتها العالم بأسره، أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني وأحكامه.
وتسعى لخدمة الإنسان وإسعاده، ليكون مع سائر الأكوان المحيطة به في وحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله تعالى، وفي تسبيح أصيل للخلاق العليم خالق الوجود كله، قال تعالى: +تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا” [الإسراء: 44].
إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى: وَالْعَصْرِ ` إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ` إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” [العصر:1-3]. لوجدناها بحق تمثل معنى الحضارة الربانية في مفاهيمها وعناصرها، فالسورة حوت عناصر الحضارة كلها بوضوح كامل: الإنسان، التجمع، صفة الجمع في السورة الذين آمنوا وعملوا الصالحات
– الزمن- الصبغة، كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم.
إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطل الربانية ويجعلها في حالة توقف وانتظار بل في حالة تأخر وانحسار. (الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب، /491).
إنّ ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس عقدية وأخلاق ربانية، وأكون قد أصبت الحقيقة إن قلت: وترك لنا معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها بالإيمان والعلم والعمل والعدل والإصلاح والتعمير.
___________________________________________
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم”، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب، أبحاث ووقائع اللقاء الرابع للندوة العالمية للشباب الإسلامي المنعقد في الرياض 27 ربيع الثاني 1399هـ، الموافق من 18 – 25 مارس 1979م – الناشر شركة دار العلم للطباعة بالسعودية، الطبعة الثالثة.
- ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح، محمد خير رمضان يوسف، دار القلم، دمشق الطبعة الأولى، 1406هـ – 1986م.
- فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي، مؤسسة اقرأ، الطبعة الأولى، 2006م.