معالم في طريق الثورة
بقلم أ. عباس شريقة
قد يستوحش البعض من طريق الثورة الطويل وغرمه الثقيل، وهو يرى مرارة الخذلان من حوله، وتساقط الرفقاء بجانبه، وقلّة الزاد، وتعثّر المطيّة، وتآمر العالم ومكره بنا، وهذا شيء طبيعي جدّاً، لأنّنا نسلك هذا الطريق لأوّل مرّة، فنحن اليوم المستطلع والرائد والسّائق والقائد ، ولكن عندما نقرأ التاريخ، ونعتبر من دروسه وأيّامه الخوالي، في ملحمة الحرّيّة الطويلة، والصراع المستدام بين الأنظمة المستبدّة، تشفّ لنا السجوف عن صورة واضحة ، ونبصر معالم طريق الحرية المتشح بالتضحيات، فالتاريخ كما يقول هيجل: هو قصّة ذلك الصراع الطويل في الحرّيّة.
وقد نقف في طريق الحرّيّة الطويل على معالم ومحطّات كثيرة، لكنّنا نلحظ خمس محطات كبرى، تشكّل بمجموعها منارات تجلّي لنا طبيعة هذا الطريق الوعرة، حتّى لا نستغرب ولا نستوحش من أطلاله الدارسة ومنحدراته القاسية.
1- المرحلة الأولى: هي مرحلة التوتر العاطفيّ: التي تتأجج في بداية الطريق، و شرارة الثورة التي تتشكّل وتنبعث من كمّيّة الظلم المتراكمة، والضغط الذي لم يعد يحتمل، هنا يبدأ الانفجار العاطفيّ، والتوتّر الروحيّ، حيث يتسابق الشباب إلى الموت والتضحية والبذل بكلّ سخاء وإيثار، وتسود الروح الأخويّة بين رفقاء الدرب، ويشعرون في دواخلهم بحال قريب إلى الوجد الصوفيّ، يكلّل كلّ تعبهم بلذّة يجدونها في القلب، وهمّة تنشط في خلد الروح، رغم بطش عدوّهم وكثرته وقوّته ورغم قلتهم وضعف إمكاناتهم.
2- المرحلة الثانية: مرحلة الاستيقاظ الأيديولوجيّ : وهنا تبدأ الأفكار المتعدّدة التي يحملها رفقاء درب الثورة ، بالتعبير عن نفسها ومدارسها وهم يتحدّثون عن بديل الاستبداد والنظام القادم، فتتباين المشاريع، وتختلف الأفكار، وتتكاثر التنظيمات، حيث تنتقل الثورة من الاجتماع على القيم الجامعة ( في الحرّيّة والعدالة والكرامة الإنسانية )، إلى المشاريع السياسية التفصيليّة التي يكمن فيها شيطان الاختلاف، وهنا يبدأ الجميع بالبحث عن ظهير وحليف دوليّ وإقليميّ لدعم مشروعه المستقبليّ، ويتحوّل جزء كبير من طاقة الثورة من الصراع الكامل مع المستبدّ الحاكم ، إلى مدافعة ومنافسة داخل الصفّ الثوريّ، فتفقد قدْراً كبيراً من طاقتها وزخمها ، وتتحول بيئة الثورة من بيئة جاذبة إلى بيئة طاردة، وهنا يتوقف الرافد البشري الممتد من المنشقين عن النظام والمنضمين للثورة بالتوقف متوجسين من الشعارات الجديدة.
3- المرحلة الثالثة: وتبدأ عندما تتحرّك قوى المصالح والدولة العميقة، والثورة المضادّة المتضرّرة من الثورة، والمستفيدة من النظام السابق، بالتحالف والتجمّع ودعم النظام القائم ، للحفاظ على ذاتها ومكتسباتها، ثمّ تنضمّ لهم القوى السياسيّة والمجموعات العرقيّة الأقلوية ، و المجموعات الإثنيّة المتوجّسة شرّاً من الشعارات الأيديولوجيّة التي ترفعها الثورة في مرحلتها الثانية بعد خفوت القيم الجاذبة من الحرّيّة والكرامة، وعلوّ الأيديولوجيا المنفّرة من الدولة الإسلاميّة، أو الدولة العلمانيّة، هنا تفقد الثورة عدداً كبيراً من حلفائها، وينضمّ للنظام عدد كبير من المناصرين، الذين يقلبون الكفّة من جديد لصالح النظام المستبدّ.
4-المرحلة الرابعة: وهي مرحلة الردّة الثوريّة: وهي المرحلة التي يبدأ بعض شباب الثورة بالخروج من صفوف الثورة.
* فإمّا أن يتحوّل إلى قوّة مُعطّلة، بسبب ضغط التيّارات الراديكاليّة المتطرّفة (القاعدة وداعش مثلاً) التي تستحوذ على قرار الثورة، وتبدأ بضرب وتصفية كلّ من يعمل لمشروع سياسيّ يختلف مع مشروعها وينافسه، فيضطرّ هؤلاء -وهم من الرعيل الأوّل-إلى العزلة في البيوت، أو الخروج خارج الحدود، والهجرة أو الانضمام لصفوفهم مُكرهاً لحفظ النفس من غدرهم.
* أو ربّما تدفعه الردّة الثوريّة إلى السقوط في أثناء الطريق، واعتبار أنّ طريق الثورة هو طريق عبثيّ، وأنّه كان ضحيّة لمؤامرة كبيرة تحاك ضدّ البلد وفخ منصوب لتدمير الوطن، فلا يمتنع عن العودة إلى حضن المستبدّ، والانضمام إلى صفوفه (كظاهرة الضفدعة) والعائدين إلى حضن الوطن من الذين يسترون استسلامهم وخياناتهم بالمصالحات المذلة .
5- المرحلة الخامسة: وهي مرحلة تحقيق التوازن والعودة لامتلاك زمام المبادرة، وهنا يجب التأكيد على أنّ الثورات لا تنتصر بالمفهوم المثاليّ للنصر، بمعنى سحق الخصوم وتصفيتهم عن بكرة أبيهم، لكن الثورات بحسب سنن التاريخ تحقّق نوعاً منالتوازن مع قوى الشرّ والاستبداد، فتقلّم مخالبهم ، وتكسر أنيابهم، وتصلح من خلال قوّة المدافعة وشوكة الحماية والنكاية ما أفسدته سلطة الفساد والاستبداد، لأنّ طول طريق الثورة وصمود الثلّة المتبقية من المؤمنين الأحرار بها ، يفرض على أنظمة الفساد والاستبداد إحداث تغييرات بنيويّة في تركيبها وسلوكها وسياستها، تتعذّر معها إعادة تأهيل هذه الأنظمة وتتحوّل إلى عبء ثقيل حتّى على حلفائها الذين تكثر عليهم فاتورة الحفاظ عليها، أكثر من فاتورة التضحية بها، هنا يتمّ التخلّص من هذه الأنظمة الفاسدة، ضمن صفقة تحقّق التوازن ، وتفرز مظهر جديداً لا ينتمي بشكله لا للنظام ولا للثورة ، لأنّها من المستحيل تحقيق القصاص من كلّ من تورّط في مساندة هذه الأنظمة المجرمة، وربما تنتهي المسألة على شكل عدالة انتقاليّة، وإعادة التعاقد الاجتماعيّ من جديد.
لكن.. ونحن نمرّ على هذه المعالم الكبرى في طريق ثورتنا، لا بدّ من تجاوز ثلاث عقد خطيرة قد تشوّش علينا الرؤية، وتربك مسيرتنا، وتشكّكنا في الطريق إن لم نتغلّب عليها.
العقدة الأولى:-عقدة الزمن:
علينا أن ندرك إنّ عمر الثورات، وحركة التاريخ، ليست مفصّلة على عمر الإنسان، فربما يستهلك التاريخ جيلاً أو جيلين، حتّى ينتقل نقلة واحدة، فهناك من لا يؤمن بانتصار فكرته، إلا إذا حاز قطاف ثمارها بيده، وهنا علينا أن نعي أنّنا قد نرمي بذار ثورتنا اليوم فيجني ثمارها أجيال تأتي من بعدنا، ولكن حسبنا أن نقضي ونحن على العهد لا نبيع ولا نساوم ولا نسقط في أثناء الطريق.
فالله تعالى خاطب نبيّه عليه السلام أنّه قد يقضي في الطريق ولا يرى ثمار دعوته:
قال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) الآية 77 غافر.
فيا ليتنا نتعلّم من أعدائنا كيف كان ثيودور هرتزل يناضل من أجل تحقيق حلم الدولة الصهيونيّة في فلسطين، ومات ولم يدرك اليوم الذي قامت بها دولة إسرائيل ولكن جاء من بعده من قطف ثمرة جهوده.
العقدة الثانية: -عقدة الوسيلة:
فالثورات ليست مدّة من الزمن تنتهي بانقضائها، ولا تحكمها الوسيلة، فالبارودة والمدفع والكفّ العزلاء والهتاف، والقلم والمنبر، والسياسة كلّها وسائل نعبر بها على الطريق، وليست غاية بحدّ ذاتها، لأن الثورة منهج حياة، يعيشه الأحرار متمرّدين على كلّ مظاهر الظلم والطغيان، ولو أثقلتهم القيود، وغيّبتهم القضبان، وألهبت ظهورهم سياط الجلّاد، وتناءت بهم الديار، فهم على العهد والوعد ثابتون، ولا تتوقّف ثورتهم على وجود السلاح، أو عدمه، فالثورة محكومة بالغاية وليست محكومة بالوسيلة ، الوسيلة متبدلة ومتغيرة والمبدأ ثابت لا يتغير.
العقدة الثالثة: عقدة الجغرافيا
إن التأثّر بالانتصارات العابرة، أو الانكسارات العابرة: قد يشوش على البعض رؤية المشهد الكلي ، وعمق الصراع وهو ينغش بما يطفو على السطح.
فقد وجدنا من بدأ يرسم استراتيجيّة شاملة، بناء على تحرير مطار هنا ، أو تحرير مدينة أو محافظة هناك (كإدلب أو الرقّة)، ووجدنا من اعتبر الثورة منتهية بسقوط مدينة كبيرة (كحمص أو حلب)، وهذا نوع من ربط المواقف المبدئيّة الاستراتيجيّة، بتطوّرات آنيّة تكتيكيّة هشّة.
وفي هذا المعنى يقول هوبز: ” إنّ السلاح ليس هو الذي يعطي الحقّ للمنتصر في ممارسة السيطرة على المهزوم، وإنّما الاتفاق المعقود معه، فهو لا ينتهي، لأنّه هزم أو أسر، أو اضطرّ للهجرة والهروب، وإنّما فقط لأنّه استسلم ووافق على الخضوع للمنتصر، وعليه فإنّ المنهزم يرضى بالخضوع وينتهي، منذ أن يكفّ عن المقاومة، وتقتل فيه إرادة الاستمرار.
من المسلم به أنّ ثورتنا لم تنتصر، لكنّها بالتأكيد لم تهزم، لأنّ الهزيمة تبدأ حين نقبلها، ونقرّر التوقّف عن المقاومة.
وإنّ الطاقة المدخّرة في عروق شعبنا العظيم الصامد، تجعلنا قادرين على التنبّؤ بمستقبل ثورتنا، ففي الوقت الذي يظنّ الكثير أنّها في عداد الموتى، تنتفض فيها الحياة، وفي الوقت الذي تنحدر إلى الحضيض تعاود السعي للنهوض والارتقاء وفي حمأة الهزيمة تعاود الكرّ من جديد عصية على الموت، وتحمل مشعل الحرية الذي لا يخبو مهما عصفت بها الريح ، وتيقن أن الطريق لابد مفضٍ إلى الآخر.
(المصدر: رؤية للثقافة والإعلام)