معالم في طريق التمكين (5) الأخذ بأسباب التمكين في حياة الصّدّيق رضي الله عنه
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
إِنَّ الاستخلاف في الأرض، والتَّمكين لدين الله وإِبدال الخوف أمناً وعدٌ من الله تعالى متى حقَّق المسلمون شروطه، ولقد أشار القران الكريم بكلِّ وضوحٍ إِلى شروط التَّمكين، ولوازم الاستمرار فيه، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستحلفنهم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} [النور: 55، 56].
ولقد أشارت الآيات الكريمة إِلى شروط التَّمكين، وهي: الإِيمان بكلِّ معانيه، وبجميع أركانه، وممارسة العمل الصَّالح بكلِّ أنواعه، والحرص على كلِّ أنواع الخير، وصنوف البرِّ، وتحقيق العبودية الشَّاملة، ومحاربة الشِّرك بكلِّ أشكاله، وأنواعه، وخفاياه.
وأمَّا لوازم التمكين؛ فهي: إِقامة الصَّلاة، وإِيتاء الزَّكاة، وطاعة الرَّسول (ص) ، وقد تحقَّقت هذه الشروط واللوازم كلُّها في عهد الصديق والخلفاء الراشدين من بعده، وكان للصدِّيق الفضل بعد الله في تذكير الأمَّة بهذه الشروط، ولذلك رفض طلب الأعراب في وضع الزَّكاة عنهم، وأصرَّ على بعث جيش أسامة، والتزم بالشَّرع كاملاً، لم يتنازل عن صغيرةٍ، ولا كبيرةٍ . قال عبد الله بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله (ص) مقاماً كدنا نهلك فيه؛ لولا أن منَّ علينا بأبي بكر، أجمعنا على ألا نقاتل على ابنة مخاضٍ، وابنة لبون، وأن نأكل قرى عربيَّةً، ونعبد الله حتَّى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكرٍ على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إِلا بالخطَّة المخزية، أو الحرب المُجْلِية. (الكامل في التَّاريخ، 2/21).
الأخذ بأسباب التَّمكين:
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ *} [الأنفال: 60].
وقد لاحظت: أنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كان إِعداده شاملاً معنويّاً وماديّاً، فجيَّش الجيوش، وعقد الألوية، واختار القادة لحروب الردَّة، وراسل المرتدِّين، وحرَّض الصحابة على قتالهم، وجمع السِّلاح، والخيل، والإِبل، وجهَّز الغزاة، وحارب البدع، والجهل، والهوى، وحكَّم الشَّريعة، وأخذ بأصول الوحدة، والاتِّحاد، والاجتماع، وأخذ بمبدأ التفرُّغ، وساهم في إِحياء مبدأ التَّخصُّص، فخالد لقيادة الجيوش، وزيد بن ثابت لجمع القران، وأبو برزة الأسلمي للمراسلات الحربيَّة، وهكذا، واهتمَّ بالجانب الأمني، والإِعلام، وغير ذلك من الأسباب .
اثار تحكيم الشَّرع:
تظهر اثار تحكيم شرع الله في عصر الصِّدِّيق في تمكين الله للصَّحابة، فقد حرصوا على إِقامة شعائر الله على أنفسهم، وأهليهم، وأخلصوا في تحاكمهم إِلى شرعه، فالله سبحانه وتعالى قوَّاهم، وشدَّ أزرهم، ونصرهم على المرتدِّين، ورزقهم الأمن، والاستقرار، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} [الأنعام: 82].
وتحقَّقت فيهم سنَّة الله في نصرته لمن ينصره؛ لأنَّ الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزت، وقوَّته، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ *} [الحج: 40، 41].
وما حدث قطُّ في تاريخ البشريَّة أن استقامت مجموعةٌ على هدي الله إِلا منحها القوَّة، والمنعة، والسِّيادة في نهاية المطاف …. (في ظلال القران، 4/270).
وقد انتشرت الفضائل، وانحسرت الرَّذائل في عهد الصِّدِّيق رضي الله عنه.
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “الانشراح ورفع الضيف بسيرة أبي بكر الصديق”، للدكتور علي محمد الصلابي.
__________________________________________________-
المراجع:
- الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2003م.
- الكامل في التَّاريخ، ابن الأثير.
- في ظلال القران، سيد قطب.