مقالاتمقالات مختارة

معالم في الأساس التربوي عند “العدل والإحسان” المغربية (2من4)

معالم في الأساس التربوي عند “العدل والإحسان” المغربية (2من4)

بقلم عمر أمكاسو

تعدّ جماعة العدل والإحسان، واحدة من كبريات الحركات الإسلامية في المغرب، وعلى الرغم من أن لها قيادات معروفين ومواقع رسمية على الإنترنت، فإن السلطات المغربية لا تزال تعدّها جماعة محظورة، وهو تصنيف ترفضه الجماعة، وتقول إنها حصلت على ترخيص رسمي في الثمانينيات.

بعيدا عن الإشكال القانوني والسياسي، تفتح “عربي21” ملف المقومات الفكرية والسياسية لجماعة العدل والإحسان، بقلم واحد من قياداتها، وهو الدكتور عمر أمكاسو، وهو بالإضافة لصفته باحثا في التاريخ، فهو مسؤول مكتب الإعلام وعضو مجلس الإرشاد في الجماعة.

في الحلقة الأولى من هذا الموضوع، استعرضنا ثلاثة محاور منه، وهي:

أولا: مدلول التربية في مشروع الجماعة
ثانيا: محورية التربية ومركزيتها في مشروع الجماعة
ثالثا: شروط التربية الإيمانية الإحسانية

في هذه الحلقة الثانية، نتناول بحول الله تعالى متوكلين عليه سبحانه، المحورين التاليين:

ثالثا: غايات التربية الإيمانية الإحسانية
رابعا: خصائص التربية الإيمانية الإحسانية

ثالثا: غايات التربية

من أهم وظائف التربية الإيمانية، الإجابة عن سؤال الكَيْفِ المحوري: “كيف نُربي الإيمان في القلوب، وعلم الجهاد في العقول، ودراية التحرك بين الناس، وطلب الشهادة في سبيل الله مع الصف وبنظام الصف؟” (المنهاج النبوي، ص 18).

ويتم ذلك على مستويين:

ـ على مستوى الخلاص الفردي: غاية التربية الإيمانية الإحسانية على هذا المستوى، الرقي بالفرد بإيقاظ ميثاق الفطرة الأزلي الكامن في القلوب والأرواح (وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (الأعراف 172)، واستنهاضه لطلب الكمالات الممكنة في معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته، ومحبة رسوله  صلى الله عليه وسلم  ومحبة أولياء الله وكافة المؤمنين وتحرره من سجن شهوته، وضنك غفلته، إلى أَوْجِ انعتاق الروح واطمئنان القلب وتزكية النفس، حتى يعبد الله كأنه يراه، فهي تغرس في قلب المؤمن والمؤمنة حب الله والشوق إلى لقائه، والترقي في مدارج الإيمان ومعارج الإحسان، وتشحذ همتهما لاتخاذ أسباب اقتحام العقبة والسلوك إلى الله عز وجل بمعية المؤمنين وفي صحبتهم، طلبا للخلاص الفردي في بُعده الذي لا ينفك عن الخلاص الجماعي للأمة.

ـ على مستوى الخلاص الجماعي: غاية التربية الإيمانية على هذا المستوى، تجديد إيمان الأفراد وتعاونهم على حب الله وطاعته، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي لخلاص الأمة وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، كما لخص ذلك سيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه أمام رستم قائد جيش الروم.

ولن يتم هذا الأمر إلا بواسطة طليعة مؤمنة مجاهدة مقتحمة، تنفض بذكرها لله تعالى  ويقظتها غُبارَ الغفلة عن نفسها، وتبدد بنورانيتها وإشعاعها ظلامَ الشك والظلم عن الأمة المسلمة لتعود إليها الريادةُ وتكون أهلا للخيرية: ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ” (سورة آل عمران، 110)؛ وذلك بسعيها لامتلاك الأسباب المادية والمعنوية اللازمة من أجل نشر دعوة الله وتبليغ رسالته للناس أجمعين، رحمةً ورفقاً وعدلاً وإحسانا. بما يتطلب ذلك من توازن وتدرج مع الحرص على الاستمرار والفاعلية استشرافا لغد الإسلام ومستقبل الأمة.

بناء على ذلك، يمكننا تحديد غايات التربية الإيمانية الإحسانية في ثلاث غايات كبرى:

1 ـ غاية طلب وجه الله،
2 ـ غاية طلب الكمال القلبي،
3 ـ غاية نصر دين الله تعالى.

1 ـ غاية طلب وجه الله:

الغاية العظمى من الخَلْق أن يعرف العبدُ ربَّه، بأن يتقرب إليه حتى يُحِبَّه سبحانه، ويكرمه بما يكرم به أولياءَه. وكل القربات من أقوال، وأفعال، وأحوال، وأخلاق، ومعاملات هي في جوف هذه الغاية وفي طريقها ومن شروطها. وكل ما يسميه لسان الاصطلاح تربية دون أن يحقق هذه الغاية فليس التربية التي نقصدها على حد تعبير المنهاج النبوي، (ص 384).

إنه لا يستطيع حمل هم الأمة، وهو ثقيل، إلا من أصبح همّه الله، وغايته طلب وجهه، فهانت عليه الشدائد، واسترخص الموت في سبيل الله، في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبح وهمُّه غيرُ الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن أعطى الدنية من نفسه طائعا غير مكره فليس مني”. ولا تتنافى هذه الإرادة العظمى مع إرادة الجنة، التي هي حُداءٌ تترنم به النفوس الطيبة. ويبقى التَّوَقانُ الأعظمُ هو الشوق إلى رب الجنة والنار.

2 ـ طلب الكمال الإيماني الإحساني:

الدين إسلام وإيمان وإحسان وترقب للساعة كما مر بنا في حديث جبريل عليه السلام، والدين الذي يجدده الله للأمة بمن يصطفيه من خَلْقِه هو كُّل هذا، لا يتبعض. لذا لابد من طلب العبد للرقي من إسلام لإيمان لإحسان. “نعلمه ذلك الطلب، بل نجعل ذلك الطلبَ عبيرَ جو العمل، وريحانةَ رياضه، وحادي سيره، ونَجِيَّ خلواته، وشعار جلواته” (ياسين، المنهاج، ص:33،34)؛ فالإحسان رتبة في الدين ودرجة في التقوى، لها الأهمية القصوى. الإحسان غاية الغايات ومحط نظر ذوي الهمم العالية.

ويدل الإحسان على معان ثلاثة ورد بها القرآن الكريم والسنة الشريفة:

ـ الإحسان التعبدي: بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ـ الإحسان الاجتماعي أو المعاملاتي: بأن تحسن إلى الناس، كالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين والمسلمين وسائر الخلق أجمعين.

ـ الإحسان العملي: إحسان العمل وإتقانه وإصلاحه، سواء العمل العبادي أو العادي أو المعاملاتي.

مجموع هذه الدلالات يعطينا مواصفات العبد الصالح في نفسه وخُلُقه وتعامله مع المجتمع، ويعطينا الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس وبمحيطه. فإن كان في العامِلِين في الدعوة، وفي العلماء المرشدين الموجِّهين لهم، نقيصةٌ في معنىً من هذه المعاني الثلاثة كان نقصُهم الذاتيُّ القلبيُّ والعقلي والخلقي آفةً عليهم في خاصة أنفسهم في الآخرة، وآفة تهدد دنيا الأمة وتُؤْذِنُ بخرابها.

يبدأ التغيير الجذري العميق بتوبة المؤمن والمؤمنة. وليس المقصود بالتوبة التوبةَ الجزئية الآنية الطارئة من ذنب يقترف ومعصية تؤتى، لكن المقصود التوبة العميقة التي تقلب كل الموازين، العقلية القلبية الأخلاقية السلوكية، وتوجه التائب وِجهةَ الآخرة، وتنقله من الاستخفاف بدين الله إلى المشاركة المهمومة في النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.

ونقرأ عند بعض علمائنا ذكراً للكمال والوراثة، ويخيل لبعضنا أن كمال الوراثة ينحصر في التحصيل العلمي! إنما التربية الإيمانية الإحسانية ترقى بالمؤمنين صُعُداً في معارج الكمال القلبي والكمال العلمي والكمال الخُلُقي. (ياسين، المنهاج 34):

ـ الكمال القلبي الإيماني الإحساني: الكمال القلبي وراثة لمقامات الإحسان. وهو مما اختص به الله سبحانه، لا يدخل كسبُ العبد فيه إلا من حيث كون التحصيل العلمي الضروري والتربية يُهَيئِان للدخول على بابٍ دَخَل منه إلى حَضْرةِ القُربِ من أنعمَ اللهُ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.” (ياسين، المنهاج 34)، “وسائر شعب الإيمان البضع والسبعين، ركائز سلوكية لا يمكن لطامح في مقامات الإحسان وسلوك طريق العرفان أن يتجاوزها أو أن يَتَنَكَّبَها، وإلاَّ كان كمن يبني على غير أساس” (ياسين، الإحسان ج 1، ص253).

ـ الكمال الخُلُقي: أهمُّ ما يتمايز به المرء من حيث المعدنُ والفطرةُ: الكرمُ والعقلُ والخلق، وما يتفرع عنها من محامِد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كرمُ المَرْءِ دينُه، ومروءته عقله، وحسَبه خلقُه”، إن حمل أمانة عظيمة مثل أمانة الدعوة وتبليغ كلمة الله عن رسول الله مهمة جليلة يَلزمها من الحلم مثل ما يلزمها من العلم. فرأس الخُلق الكامل امتلاك النفس، وقمعها تحت طائلة التقوى. هذا يعني القدرة على سياسة القوة الشهوانية، وكبح جماح القوة الغضبية بالشرع. “فإن لم يُبطل القائمون الباطل في نفوسهم، فلن يستطيعوا إبطاله في غيرهم. وإنَّ بناء النفس وتحصين النفس وتزكية النفس بإخراج حب الدنيا جملة وتفصيلا من القلب لهو البناء. وكلما ارتقى العبدُ في سُلَّم المعرفة بالله عز وجل كانت تكاليف الأدب وضبط النفس عليه أدقَّ وأرقَّ” (ياسين، الإحسان ج 2، ص397).

3 ـ غاية نصر دين الله:

هدف التربية الإيمانية أن تُعِد إعدادا شاملاً المؤمنَ والمؤمنة المجاهدين اللذين ينبريان أمام العدو، ويتقدمان خطوة خطوة بالقضية الإسلامية، سرا وجهرا، كرا وفرا، يوما لنا ويوما علينا، حتى النصر إن شاء الله. كان الإمامُ حسن البنا مجددُ القرن الماضي رحمه الله يتحدث عن ضرورة “صناعة الموت”، يستحث بذلك في إخوانه تلك الجذوة َالجهاديةَ التي تتحول نورا يُضيء لهم الطريق إلى العز في الدنيا والآخرة، ويضيف الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله صناعة أخرى في نفس المستوى من الضرورة، وهي “صناعة التاريخ” التي تجعل مصيرَ المؤمن المقبل على الله حقا لا ينفك عن مصير أمته التاريخي. هَمُّ ما بعد موته لا ينفك عن هَمِّ انتصار دين الله واستمراره.

رابعا: خصائص التربية الإيمانية الإحسانية

يمكننا من خلال استقراء مشروع الجماعة التصوري والعملي إجمالُ خصائص التربية الإيمانية الإحسانية فيما يلي:

ـ تربية أساسها ذكر الآخرة: من الآفات الخطيرة المضرة التي جعلت التدين عند المسلمين ضعيفًا سطحيًا، وجعلت جاذبية الأرض ـ بشواغلها وأهوائها وشهواتها ومتاعها ـ تجذب الناسَ وتأسرهم وتسحرهم وتفتنهم السكوتُ عن الآخرة، وعدم استعدادهم لها رغم إيمانهم بها، بل يصبح الأمر مأساة مضاعفة حينما لا يجدون أمامهم وحولهم مربين يعلمونهم كيف يستعدون للآخرة. وقد تقرأ صفحات لمنظري الدعوة، ولا تجد فيها ذكرا للآخرة، غرقى نحن في الإسلام السياسي، وفي الإسلام الفكري الثقافي، وفي الإسلام السطحي المنحبس. صرعى نحن حينما نأخذ ديننا وسيلةً لتحسين ظروفنا المعيشية الدنيوية فقط، ونتنافس مع الأمم ونتطلع لتكون لنا حضارة كما لهم. نكون غافلين، لا شك إن نسينا أن هناك آخرة بدون السعي لها، سنبقى حطاما وركامًا وأعدادا غثائية.

فالتربية على الاستعداد للآخرة هي من أمهات الأولويات في المشروع التربوي لجماعة العدل والإحسان.. إن الإيمان بالآخرة لا يكفي، وباعث ونية الطلب لا يكفيان، بل مَربِضُ الأمر ومَربَطه أن نجد من يعلمنا كيف نطلب الآخرة وكيف نستعد لها لنفوز عندها وبها.

فلا عمران للمسلمين حاضرًا أو مستقبلا إن لم يكن هناك جيلٌ إيماني قرآني تربى على العيش للآخرة، “اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة، فاغفر للأنصار والمُهاجرة”، حديث شريف يضع الأمة على سكة السلف من الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، كانوا أبناء الآخرة بامتياز …!

ـ تربية قرآنية نبوية أصيلة: ضرورة إرساءِ قواعدِ التربية المجدِّدة المنقِذَةِ على مَتينِ عقيدَة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قاعدة كتابِ الله وسنةِ رسول الله. يعني هذا أن كل تعليم وتربية، وكل حركة، وكل تخطيط وإنجاز، لا تكون إسلامية إلا بموافقتها واستجابتها لنقل صحيح من كتاب وسنة يجتهد في إطارهما عقل عالم، بإرادة جهادية.

ـ تربية كاملة متكاملة عقلا وقلبا وخُلُقا: إن الله الخالق جلت عظمته فرض على كلِّ جوارح الجسم من قلوب وعقول وغيرهما عبودية خاصة، تتكامل هذه بتلك، ولكل عبوديةٍ مراسيمُها وشروطُها وأركانُها. لذا فإن من اللازم أن تجمع التربية الإيمانية الإحسانية القلوبَ والعقولَ على ذكر الله، والتفكر في النفس ومصيرها، وأفعالِ الله بها وبالعالم، والتفكر في الآخرة وذكرها.

ـ تربية تجمع الدينَ من أطرافه:

ـ الدين بما هو إسلام وإيمان وإحسان: فيَعْلَم جند الله ثم يعملوا على السلوك الإحساني، ويُثار طموحُ كل منهم للرقي في مقامات الإحسان وتُوَجَّه خطاه لذلك.

ـ الدين بما هو دعوة ودولة: التربية في حق جند الله أن يُفشوا معانيَ الإيمان فيما بينهم، استعدادا ليعكسوا ذلك على المجتمع المسلم كله، سياسة، وتعليما، وتخلقا واقتصادا، وشعورا، وسلوكا، وعبودية لله عز وجل.

ـ تربية سلوكية جهادية، لا تبركية قاعدة: التربية الجهادية المنشودة هي التي تسعى إلى إنشاء جند الله، الطالبين وجه الله، الراغبين في الشهادة في سبيله، لا جيلاً من الدراويش المتبتلين. وتتم الملامح الخلقية التأهيلية للتربية المجاهدة باستناد المؤمنين في تربيتهم إلى الأصول الآتية:

ـ أعلى السلوك وأكملُه وأقربُه سلوك كبار الصحابة رضي الله عنهم: “كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين نشأوا ورشدوا في حجر خير البرية صلى الله عليه وسلم، إمام الأنبياء، وأب الأولياء. كبار الصحابة هم سادة الأولياء وأئمتهم. فضلوا الكل بالصحبة المباشرة لأكرم مخلوق على الله. وفضلوهم بالجهاد، شغلتهم نُصرة الله ورسوله عن تَملِّي بَهاء الأنوار الكونية، وعن تذوق التجليات الربانية. شغلتهم الاستماتة في سبيل الله في ميادين الجلاد عما يحدثه الله عز وجل في قلوبهم وأسرارهم من إنشاء معنوي روحي. شغلتهم الدعوة والهجرة والنصرة وتدبير أمر الأمة عن الاهتمام بالتحولات الباطنية فيهم، زواها الله عنهم، ودبَّرها لهم تدبير الوكيل. كانوا لله فكان الله لهم.

لا عمران للمسلمين حاضرًا أو مستقبلا إن لم يكن هناك جيلٌ إيماني قرآني تربى على العيش للآخرة، “اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة، فاغفر للأنصار والمُهاجرة”، حديث شريف يضع الأمة على سكة السلف من الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، كانوا أبناء الآخرة بامتياز …!

ولا تظنَّنَّ أن سكوتهم عما لَهَجَ به من بعدَهم قصورٌ، بل هم في القمة، نالوا ما ناله القوم رضي الله عنهم، وزادوا، وزادوا. العُمدة ليست في اطّلاعك على ما يفعله الله بك عز وجل، العمدة في اشتغالك بما أمرك. فمما أمرك به الجهاد. كان القوم أحلاس بيوتهم فما وجدوا من جهاد إلاّ جهاد أنفسهم، وأنت يا من تقرأ كتابي أحياك الله في أزمنةٍ أصبح فيها الجهاد لإقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة فرضا. فاشتغل بالعمل الصالح، لكن لا يفتك الله،” (ياسين، الإحسان، ج 1، ص 198ـ 199)، ويضيف رحمه الله في نفس المرجع، ص 183 “ونرجو من كرم من له الفضل والمنة والرحمة سبحانه أن يتصل مدد السالكين فيما يستقبلنا من زمان بحضرة النبوة، فيكون السلوك جهاديا عفويا جامعا مانعا رائعا كما كان في عهد الصحابة وهم في حضن خير البرية صلى الله عليه وسلم”.

ـ فاتَ أوان التعَذّر والاستعذار: يقول الإمام ياسين رحمه الله. “فيما نستقبله بحول الله من أيَّام ازدهار الإسلام ارتفع عنا العذر فلا مكان بين الأخيار بعدُ للغامض الخامل. يكفي أولئك الأخفياء أمناء الرسل شرفاً في الدين أنهم حافظوا لنا على بذور الإيمان حتى أورثوناها رحمهم الله. رَفَع عنا العذرَ وفَتَح لنا أبوابَ الجهاد والاجتهاد إخبارُ المصطفى أمين الوحي صلى الله عليه وسلم أنها ستكون خلافة ثانية راشدة ينهض بها إخوانُه على منهاج النبوة والخلافة الأولى بعد أن يَنقضي زَمانُ الملك العضوض والجبري الذي قضى به الله في سنته الأزلية، ونزل به القدر بعد ثلاثين عاما من وفاة الرسول الكريم، وكسَبَت أيدي الناس وقُلوبهم ما كسبت من إثم في خوض فتنه، وسفك دمائه، وتأجيج ناره، واعتلاء كراسيه. روى الإمام أحمد رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت” (الإحسان، ج1، ص 123).

ـ تربية متدرجة ومتوازنة: التدرج أمر ضروري وسنة لازمة في التربية، فلا يتحمل كل الناس أن يسمعوا ولا أن يستجيبوا لنداء المسيرة الجهادية من أول لقاء وعاشر لقاء. وكذلك التوازن، ونسمي “تربية متوازنة” تلك التربية الإيمانية التي تحرص ألا تكون السمةُ الغالبة على جند الله زهادةً بدعوى الروحانية، (إسلام الدروشة) ولا إغراقا في الفكر، (إسلام فكري) ولا إسرافا في الحركة (إسلام حركي سياسي).

ـ تربية ربانية مستقبلية: التربية الإيمانية الإحسانية استبصَار للمستقبلَيْن، الفردي عند الله والجماعي التاريخي في أرض الله:

ـ مستقبلية ربانية دنيوية: مستقبل تحمل مسؤولية الدولة، وتغيير ما بالأمة من تخلف حضاري، وذلة وتبعية، وعجز عن حمل رسالة الله. بحيث يتطلع المؤمن الذي نربيه ليكون من صانعي غد أمته.

ـ مستقبلية ربانية أخروية: بدون مستقبلية أخروية يتوقد همها في قلوب المؤمنات والمؤمنين، فالعيش هُونٌ. إنما ينصر دين اللهُ، من في قلبه جمرة حزنه على ذنبه، وإِرادة الزلفى عند ربه. له مع الله قضية هي الحاكمة الموجهة الباعثة. هي المستقبل.

ـ تربية ربانية علمية عملية: العلم وطلبه واستكماله هو نور العقل الذي به يكون المؤمن متوهجاً بين باهِتين، حياً بين أموات. فمن كمال توبته أن ينزع عن نفسه رذيلةَ الجهل، وأن يتحلى ويتجمل بالمعارف الشريفة. التي تشمل:

ـ علما بالله، وبغيب الله، وبرسل الله، وبكتب الله، وملائكة الله، وقدر الله، ومصير الإنسان في الدار الآخرة إلى الله. مصدره الوحي لا مصدر له غيرُه. وآلة تلقيه القلب المؤمن ينير العقل الراجع من تأملاته كليلا يتتلمذ على الوحي.
ـ وعلما آخر عن كون الله، وخلق الله، وما أودعه الله في أرضه وسمائه من أسرار، وما رتب سبحانه من أسباب، وما سخر سبحانه للإنسان تسخيرا طبيعيا، آلته العقل المُشاع بين بني الإنسان مؤمنهم وكافرهم. فاكتساب العلوم والتقنيات المتقدمة والاستغناء بالمقومات الاقتصادية ضرورة وشرط للبقاء، وعماد مادِّيّ لمن له مغزىً في الوجود، يريد أن يقول كلمةً تُسْمَع.

ـ تربية تراعي الوسطية أو الاقتصاد في السلوك: الاقتصاد في لغة القرآن معناه الاستقامة على الطريق بين طَرفَيْ الإفراط والتفريط، ويتضمن معنى الاعتدال والتوسط، مما يقتضي:

ـ السير الحثيث المتواصل: فلا يجنح المبتدئ في السير إلى الحماس الكاذب فيخبو ويضمحِلُّ، ولا إلى التراخي المالِّ المُمِلِّ الآيل إلى التوقف والفشل. هذان الطرفان المذمومان يُعَبِّرُ عنهما البلاغ النبوي بـ”الشِّرّة والفَترة”، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لكل شيء شِرَّةً، ولكل شيء فَتْرَةً. فإنْ صاحِبُها سدد وقارب فارجوه. وإن أشير إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوه”. أخرجه الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن حبان..

ـ التيسير والتبْشير بَدَلَ التعسير والتنفير: اليُسْرُ من صلب السنة النبوية في العبادة الفردية كما هو في العلاقات بين الناس. والتنطع العنيف هَلَكَةٌ.

ـ اللين في غير ضعف والقوة في غير عنف: عند الإمام البخاري في صحيحه في “كتاب الأدب” أبواب متساوقة تخط صراط اليسر والرفْق والتؤدة. وبعد ذلك يأتي “باب لا يُلدَغ المؤمن من جحر مرتين”، ليعلم القارئ في السُّنَّة أن ذلك المُيَسِّرُ المُبَشِّرُ الرفيق المنبسط إلى الناس المُدَارِي لهم في غاية الحيطة، ليس رِفْقُه من قبيل رخاوة المغفلين.

4 ـ تربية من أجل التغيير:

يبدأ التغيير الجذري العميق بتوبة المؤمن والمؤمنة. وليس المقصود بالتوبة التوبةَ الجزئية الآنية الطارئة من ذنب يقترف ومعصية تؤتى، لكن المقصود التوبة العميقة التي تقلب كل الموازين، العقلية القلبية الأخلاقية السلوكية، وتوجه التائب وِجهةَ الآخرة، وتنقله من الاستخفاف بدين الله إلى المشاركة المهمومة في النهي عن المنكر والأمر بالمعروف. في قلب المسلم الفرد وعقله ونفسه وخلُقه ومروءته تحتدم المعركة الحاسمة بين الإسلام والجاهلية. لذا ينبغي أن نغرس عقيدة التمايز والالتزام في ناشئتنا، وأن نجعلها بساطا للتربية الإيمانية الإحسانية. ولن تكون خلافة إسلامية، ولا جهاد إسلامي، إن لم تحدث التربية في إرادة جند الله وفكرهم، في قلبهم وفي جوارحهم، هذه النقلة، نقلة الهوية والشخصية والسلوك.

المصدر: عربي21

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى