معالم في الأساس التربوي عند “العدل والإحسان” المغربية (1من4)
بقلم عمر أمكاسو
تعدّ جماعة العدل والإحسان، واحدة من كبريات الحركات الإسلامية في المغرب، وعلى الرغم من أن لها قيادات معروفين ومواقع رسمية على الإنترنت، فإن السلطات المغربية لا تزال تعدّها جماعة محظورة، وهو تصنيف ترفضه الجماعة، وتقول إنها حصلت على ترخيص رسمي في الثمانينيات.
بعيدا عن الإشكال القانوني والسياسي، تفتح “عربي21” ملف المقومات الفكرية والسياسية لجماعة العدل والإحسان، بقلم واحد من قياداتها، وهو الدكتور عمر أمكاسو، وهو بالإضافة لصفته باحثا في التاريخ، فهو مسؤول مكتب الإعلام وعضو مجلس الإرشاد في الجماعة.
مفهوم التربية وشروطها في مشروع الجماعة
تقديم عام
نختم سلسلة التعريف بمنهاج وتصورات جماعة العدل والإحسان بما نعتبره لب دعوتها وأساسها ورسالتها الكبرى، ألا وهو تصورها التربوي. وسنستعرض هذا الموضوع بحول الله تعالى في ثلاث حلقات:
1 ـ الحلقة الأولى: وهي هذه الحلقة، نخصصها لثلاثة عناوين، هي:
ـ مدلول التربية في مشروع الجماعة
ـ محورية التربية الإيمانية ومركزيتها في مشروع الجماعة
ـ شروط التربية الإيمانية الإحسانية
2 ـ الحلقة الثانية: نخصصها هي الأخرى لثلاثة عناوين، هي:
ـ غايات التربية عند الجماعة،
ـ خصائص التربية عند الجماعة
ـ محاذير تربوية
3 ـ الحلقة الثالثة: نستعرض فيها وسائل ومحاضن التربية عند الجماعة
تقديم عام
ظهرت في زماننا صحوة إسلامية مباركة امتدت في العالم كله بفضل الحنان المنان، لكن بدأ يغلب فيها الهمُّ الاجتماعي الجماعي السياسي على الهمِ الفردي التربوي الأخروي، وتعاني في الغالب بسبب ذلك مما يسميه بعض روادها الخواء الروحي، ويظل الشباب المسلم الصاحي من غفوته، الظامئ إلى إسماع فطرته يسأل عن أسباب هذا الخواء وضعف الإيمان وقلَّ مَنْ يُجيب، لأن جل الذين يُنتظر منهم أن يجيبوا عن هذه الأسئلة الحائرة منهمكون في الإسلام السياسي أو الفكري أو الحركي.
في خضم هذا الوضع، قَلَّ من الدعاة من يجسُر على معالجة موضوع التربية والتزكية بشمولية وتفصيل، وعلى حد تعبير الشيخ سعيد رمضان البوطي رحمه الله: “إننا لا نعدو الحقيقة عندما نقول: إن جل مشكلات مجتمعاتنا الإسلامية اليوم إنما يكمن في غياب هذه التربية الوجدانية التي هي العمود الفقري في جوهر الإسلام”. ونفس الهم عَبَّر عنه غيرُه من الدعاة، أمثال الإمام حسن البنا صاحب المقولة الشهيرة “لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لعدت بالإخوان لأيام المأثورات”، والشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه” ربانية لا رهبانية”، والشيخ سعيد حوى في سلسلة كتبه المشهورة بـ” التربية الروحية” والشيخ عبد السلام ياسين في كل كتبه، وخاصة كتاب “الإحسان”. رحمهم الله تعالى جميعا، وأجزل لهم العطاء على ما نصحوا وربوا.
فما هو مدلول هذه التربية في مشروع جماعة العدل والإحسان؟ وما مكانتها فيه؟ وما هي الشروط الكفيلة بتحقيقها؟ وما غاياتها؟ وما الخصائص المميزة لها؟ وما المحاذير التي تهددها؟
أولا ـ في مدلول التربية في مشروع الجماعة
التربية في اللغة معناها: التنمية والزيادة والتقويم والإصلاح، وإيصال الشيء إلى كماله، ومفهومها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يتمحور حول كونها تغيير باطني لنفس الإنسان وتزكيتها، وتجديد إيمانه وتنميته، وتقويم سلوكه وتهذيبه، وتوجيه سيره وتصحيح وجهته. وبناء على ذلك، فإن وظيفة التربية تتمثل في تنمية الجوانب الفطرية في الإنسان، وتقويم الانحراف الناتج عن التأثيرات الأسرية والاجتماعية والثقافية، روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال” ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”.
وقد أولى الإمام عبد السلام ياسين هذا الموضوع اهتماما فائقا تأصيلا وتنظيرا وتنزيلا، بعد خبرة طويلة وتجربة عميقة، كما مر بنا في سيرته، واعتبره رحمه الله أساسا متينا في الدعوة، وليس مجرد جانب من جوانبها.
ويلخص رحمه الله فقه التربية في جملة واحدة: ” كمالُ التربية امتلاكُ النفس”، والغاية معرفة الله تعالى. فاستنادًا إلى نصوص الوحي القرآنية والحديثية، فإن النفس معدن الضعف والعجلة والجزع، مصنع الزلل والزيغ والتردي، منشأ الكبر والأنانية والشح. مازالت تدعو صاحبها وتزين له المفاسد حتى يخرق حدود الله ويعتدي عليها ويتعداها إلى أن يسقط في الكبائر حيث الهلاك والخسران الأبدي.
ويؤكد رحمه الله “حرفتنا التربية. هي وسيلتنا لتغيير الإنسان حتى يتبنى موقفا ونظرة وإرادة تتعالى على الظرفيات التاريخية، وتتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة التي تحيطنا بها سياسة المنـزل الإقليمي الصغير، وذهنية الهوية التجزيئية…. نظرتنا وحرفتنا اللتان نجتمع عليهما وننتظم، تميزاننا عن الأحزاب السياسية… مشروعنا بعيد المدى، والتغيير العميق الذي يتم بواسطة التربية والإقناع لا يمكن أن يعاش إلا بعد مخاض عسير” (ياسين عبد السلام، الإسلام والحداثة، ص 325).
وترى جماعة العدل والإحسان من خلال أساسها ومشروعها التربوي أن معرفة الله سبحانه لن تتحقق للمؤمن الراغب السالك والنفسُ مازالت تحمل لوثةَ الأنانية والذاتية المقيتة، وعقبة الجهاد لا يمكن اقتحامها اقتحاما إيمانيا إحسانيا والنفس مازالت تتخبط في شقاوة الجبن والجدل والرياء، والاندماج في صف المؤمنين الشاهدين بالقسط لن يكتمل والنفس مازالت سجينة لم تتحرر من الكبر والعجب والاستعلاء، ومقام البذل لن يفوز به الطالبُ الساعي والنفس تحت ركام الشح والبخل والحرص، ولا ذكر ولا صدق ولا علم ولا عمل ولا نجاح ولا فلاح والنفس تُكَبِّل إرادةَ المرء وهمته بقيود العجز والكسل والتثاقل والتسويف، وتغرقه في سفاسف الأمور.
لن تبلغ التربية مبتغاها ومنتهاها إلا بعد أن يمتلك المرء نفسه، بمعنى أن تصير تابعة لإرادته لا متبوعة، مأمورة لا آمرة، خادمة لا مخدومة، طائعة لا مطاعة. حينها، وحينها فقط، تُفتح الأبواب ليرقى المؤمن في مدارج العبودية ويفوز ببشارة “قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا”
إن التربية الإيمانية الإحسانية الجهادية هي وحدها مناط تغيير ما بالنفس وتطهيرها وتزكيتها، مصداقا لقوله تعالى “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ” (سورة الرعد الآية 11).
ولن تبلغ التربية مبتغاها ومنتهاها إلا بعد أن يمتلك المرء نفسه، بمعنى أن تصير تابعة لإرادته لا متبوعة، مأمورة لا آمرة، خادمة لا مخدومة، طائعة لا مطاعة. حينها، وحينها فقط، تُفتح الأبواب ليرقى المؤمن في مدارج العبودية ويفوز ببشارة “قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا” ( سورة الشمس، 9). كلمة الفلاح كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة.. وهل هناك من خير أعظم من معرفة الله ومحبته في الدنيا والنظر إلى وجهه الكريم الجليل المجيد القدوس في الآخرة!!؟
وقد صنف علماؤنا رحمهم الله ما لا يعد ولا يحصى من المصنفات الحديثية ليسترشد بها أبناء الأمة الإسلامية، ثروة علمية حاول من خلالها كل واحد منهم أن يختار في مصنفه الأحاديث النبوية الفاضلة الجامعة. فعل ذلك الإمام عبد الله المبارك، وابن أسلم الطوسي، والراغب الأصفهاني، والحاكم النيسابوري، وأبو الحسن علي الدارقطني، وأبو بكر البيهقي، وأبو عثمان الصابوني، وغيرهم كثير. وقد جمع بعضهم أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم وفق مقاصدها. فمنهم من اختار الجهاد، ومنهم من اختار الزهد، ومنهم من فضل الآداب… وغيرها من الفضائل.
أما الإمام ياسين رحمه الله فقد اجتهد لعصره في صياغة “فقه جامع تجديدي” لإعادة بناء أمة الإسلام من جديد. فقام بتبويب الأحاديث النبوية الواردة في “شعب الإيمان” وتصنيفها وفق خصال عشر تمثل في مجملها تصوره لأركان التربية الإيمانية التي تؤهل كل مؤمن تحلى بها للاستجابة لنداء القرآن، وبالتالي اقتحام كل العقبات النفسية والذهنية والعقلية لتحقيق العبودية الفردية لله سبحانه، واقتحام عقبات الواقع السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والعلومية نشدانا للتغيير وتحقيقا للغاية الاستخلافية المنوطة بالأمة المحمدية جماعة.
وقد أدرج اجتهاده هذا في كتابه “شعب الإيمان بجزأيه” (يمكن الاطلاع على الكتاب وتحميله في موسوعة سراج،https://siraj.net/ar/read?id=1075) هذه الخصال العشر هي: الصحبة والجماعة، والذكر، والصدق، والبذل، والعلم، والعمل، والسّمت الحسن، والتؤدة والصبر، والاقتصاد ثم الجهاد. وقد أدرج رحمه الله تحت كل خصلة مجموعة من شعب الإيمان المتوافقة معها، التي وردت في الأحاديث الشريفة.
وجعل رحمه الله مدار مشروعه التربوي متوقفًا في أسسه وآفاقه على الحديث العمري المشهور والذي ننقله نظرًا لجلالة قدره وأهميته ومكانته وقدسيته.
عَن عُمَر رضي الله عنه أَيْضًا قال: “بَيْنَما نَحْنُ جُلْوسٌ عِنْدَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَياضِ الثِّيَاِب شَديدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عليه أَثَرُ السَّفَرِ ولا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتى جَلَسَ إلى النَّبِّي صلى الله عليه وسلم، فأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ ووَضَعَ كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ، وقال: يا محمَّدُ أَخْبرني عَن الإسلامِ، فقالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: الإسلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأَنَّ محمِّدًا رسولُ الله، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتيَ الزَّكاةَ، وتَصُومَ رَمَضان، وتَحُجَّ الْبَيْتَ إن اسْتَطَعتَ إليه سَبيلًا. قالَ صَدَقْتَ. فَعَجِبْنا لهُ يَسْأَلُهُ ويُصَدِّقُهُ، قال: فَأَخْبرني عن الإِيمان، قال: أَن تُؤمِنَ باللهِ، وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ، ورسُلِهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، قال: صدقت؛ قال: فأخْبرني عَنِ الإحْسانِ. قال: أنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاك، قال: فأَخبرني عَنِ السَّاعةِ، قال: ما المَسْؤولُ عنها بأَعْلَمَ من السَّائِلِ، قال: فأخبرني عَنْ أَمَارَتِها، قال: أن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها، وأَنْ تَرَى الحُفاةَ العُراةَ العالَةَ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُون في الْبُنْيانِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قال: يا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللهُ ورسُولُهُ أَعلَمُ، قال: فإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ”؛ رواه مسلم. رحم الله الإمام القرطبي الذي قال في حق وأحقية هذا الحديث العظيم: “هذا الحديث يصلح أن يُقال له أم السنة، لما تضمنه من جمع علم السنة “.
وقال عنه الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: “هذا حديث عظيم اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه، وقال عنه الإمام عبد السلام ياسين نفسه:” هذا الحديث يجب أن يدخل كل بيت من بيوت المسلمين ويُحفظ ويُعلم”. فهو حديث عليه مدار التربية ومسارها ومحورها.
بناءً على هذا الحديث، نبه الإمام ياسين رحمه الله إلى أن ديننا ليس طريقا مسطحة منبسطة ذلولة، بل هو عقبة يبدأها السالك من الإسلام إلى الإيمان إلى أعلى مراتب الإحسان واليقين.. وأن المحجة البيضاء ليست مجرد وحي وحكمة عامة، بل أصولا وقواعد وفروعا مفصلة يجب اتباعها.. وأن التوبة لا تبدأ وتنتهي عند نفس نقطة الانطلاق، بل هي مسير مستمر يبدأ بالتوبة الفردية، ليُتبع بالانسجام في صف المؤمنين، ثم الاندماج الكلي في ذات الجماعة، ثم السلوك والعروج الروحي القلبي الخلقي في مراقي الإحسان، مع الحضور الثابت الفاعل في مواطن وميادين الدعوة والجهاد.
ثانيا ـ محورية التربية الإيمانية ومركزيتها في مشروع الجماعة
تتمثل أهمية التربية في كونها أساس التغيير وشرطه، تغيير ما بالنفس البشرية وبناء أمة الإسلام والإسهام في الحضارة الإنسانية. “فالمنهاج النبوي تربية ثم تربية ثم تربية، التربية كما كانت على عهده صلى الله عليه وسلم (ياسين، الإسلام أو الطوفان، رسالة مفتوحة إلى ملك المغرب، 1974م، ص: 134)، كما أن المنهاج النبوي يعتبر التربية الإيمانية علاجا لداء الأمة وشفاء من أمراض الغثائية ووباء الفتنة وسرطان الجبن والوهن. لأن المسلمين، “جسم مريض يسمى مرضهم العام فتنة، وهذا الجسم بحاجة إلى تمريض وتطبيب وتربية بمعنى التربية الجذري أي بمعنى التنشئة والتنمية” (ياسين، الإسلام غدا، ص. 482).
كما تتضح أهمية التربية ومحوريتها عند الجماعة في توزين العامل الذاتي والذي يقتضي إبرازه وترجيح جانبه “أن نعطي الأهمية القصوى لفحص ذاتنا، للنظر في عيوبنا، لتمحيص صفوفنا وصقل قلوبنا(..) وقل ما شئتَ بعد أن تُحكِمَ مقدمات التربية وأسبقية تجديد الإيمان ويقظة التطلع إلى الإحسان، قل ما شئت عن ضرورة النضج الحركي، وإنشاء الشورى في الصف، وتكتيل الجهود(..) وعن ضبط التنظيم وتطعيمه بالوعي السياسي ودراسة الأوضاع القائمة، وعن التحالفات المرحلية وشروطها، وعن الخصم في الساحة السياسية(..) كل أولئك مكملات متممات ضروريات. أسلحة علمية ومعنوية وإعلامية ومادية لابد منها، لها الفاعلية التامة إن لم تتنزل على فراغ تربوي” (ياسين، “حوار مع الفضلاء”، ص 10)، ذلك أن “الخلل الذي يحدث في التربية ينتج عنه خلل في التنظيم، ومن ثم فشل الجهاد كله. فعلى قوة الرجال، عمق إيمان ومتانة خلق ودراية وقدرة على الإنجاز، يتوقف نجاح العمل. يجب ألا تكون السمة الغالبة على جند الله زهادة بدعوى الروحانية، ولا إغراقا في الفكر، ولا تقصيرا ولا إسرافا في الحركة… إسلام الزهادة والهروب من المجتمع، والإسلام الفكري، والحركية على حساب التقوى والعلم ثلاثة مزالق” (ياسين، المنهاج النبوي، ص59).
وقد فصل الإمام ياسين في كتابه القيم “الإحسان في جزأين” (يمكن الاطلاع على الكتاب وتحميله في موسوعة سراج،https://siraj.net/ar/read?id=1075) تفصيلا دقيقا رائعا مقام الإحسان، مبرزا معانيه، موضحا أصوله، مُبينا شروطه. وأخرجه رحمه الله من حالة الانغلاق والانزواء والانكفاء في ذات الفرد ومصير الفرد الذي أقحمه فيه ـ لأسباب تاريخية معلومة ـ رجالات التصوف رحمهم الله، وأعاده إلى عهده الأول في زمن النبوة والقرون الفاضلة حيث كان الإحسان والجهاد صنوان وأمران لا يفترقان تحت ظلال تأصيل القرآن الكريم: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَرُون”.
من أهم ما جاء به المشروع التجديدي للجماعة، في علاقته بالتصور التربوي، أنه أعاد الاعتبار لفقه السلوك إلى الله عز وجل والدلالة عليه وبين مكانته بين العلوم. وأكد أننا، معشر المسلمين، “نحتاج من يشرح لنا فقه السلوك كما نحتاج لمن يضبط لنا فقه الأحكام أصوله وفروعه، وفقه الحلال والحرام، وفقه اللغة وفقه أصول الاعتقاد
وإذا كان كتاب “الإحسان” يصور بأسلوب علمي أدبي نثري شعري راقٍ مقامَ الإحسان في ديننا الحنيف، ويُبين معالمَه ومسالكَه وسبله وآدابه وخصاله حتى يسلكه السالك على بينة ورُشد وأمان، فإن كتاب “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا” سبقه ليؤسس تصورًا كاملًا لمقام الإيمان وبُنيانه، ويخبر المُربي والمُربَّى بشُعبه وقوائمه وأعمدته لتكون لهما صوى في الطريق وعلامات فيتحقق لهما بذلك قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين”.
ويجب التنبيه إلى أن شعب الإيمان التي أسست عليها جماعة العدل والإحسان تصورها ومشروعها التربوي ليست سابحة في عالم الأحوال والذوق والوجدان، بل مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بحياة الناس وواقعهم. فهي هادية للمؤمن، بقدر ما تقربه إلى الله سبحانه سلوكا قلبيًا روحيًا تقربه أيضًا وهو يجتهد داخل الجماعة وداخل الأمة، ويأخذ بالأسباب لتحقيق الاستخلاف في الأرض، ” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا (سورة النحل، 90) “.عبادة سلوك، وعبادة عمل وجهد وسعي وجهاد. مدخلان متلازمان يكمل الواحد منهما الآخر. هما الكفيلان معًا لجعل المؤمن المحسن يتبوأ مقام المؤمن الشاهد بالقسط، “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا”. (البقرة، 143).
إلى جانب كتابي “الإحسان” و”المنهاج النبوي” يعد كتاب “تنوير المؤمنات” في جزأيه تجسيدا للثمار العلمية الفكرية التربوية التي أعطت للمشروع التربوي للجماعة بُعدا آخر يخص المرأة المسلمة عامة، والمؤمنة على وجه الخصوص. على أنه ليس خاصا بالمرأة فقط، بل هو رسالة نصيحة وموعظة ودعوة للمرأة والرجل معًا تحت قاعدة “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” (التوبة،71)، وتحت الأصل النبوي “النساء شقائق الرجال”. (من حديث رواه أبو داود عن أمنا عائشة رضي الله عنها)، فكما لها الحق الكامل في السلوك إلى الله والجمع بين الإسلام والإيمان والإحسان والمساهمة في إنجاز مشروع العمران الأخوي الإسلامي الإنساني، فعليها واجب مقدس لا نيابة فيه لأحد عنها، إنه مشروع تربية الأجيال على الفطرة وغرس المعاني القلبية في النشأ، وملإ القلوب بحب الفضائل والمحامد والمحاسن وحب الله وحب رسوله وحب القرآن وحب العمل الصالح. إنها الحاضنة، إنها المعلمة، إنها الحامية، إنها المربية. مصير الأمة أمانة بيدها.
ولم يكتف مؤسس جماعة العدل والإحسان الإمام المربي بالتأليف والتنظير في هذا المجال، بل الأساس، بالغ الأهمية، بل ربى بربانيته وحكمته ونورانيته واحتضانه المباشر وتقويمه وتهذيبه وتزكيته الآلاف من أبناء وبنات الجماعة، ولم يرحل رحمه الله إلا بعد أن ترك خلفه جماعة مازالت تمثل محضنًا تربويا إيمانيا رغم كل الصدود والسدود والموانع التي تفرضها الدولة على الجماعة وأنشطتها.
ثالثا ـ شروط التربية الإيمانية الإحسانية
من أهم ما جاء به المشروع التجديدي للجماعة، في علاقته بالتصور التربوي، أنه أعاد الاعتبار لفقه السلوك إلى الله عز وجل والدلالة عليه وبين مكانته بين العلوم. وأكد أننا، معشر المسلمين، “نحتاج من يشرح لنا فقه السلوك كما نحتاج لمن يضبط لنا فقه الأحكام أصوله وفروعه، وفقه الحلال والحرام، وفقه اللغة وفقه أصول الاعتقاد” (ياسين، تنوير المؤمنات، ج2، ص 32)
فكما أن للتربية أصولا وفروعا، فلها شروط لابد لمن له رغبة في السلوك إلى الله عز وجل وطلب معرفته والجهاد في سبيله ورفع كلمته والانتصار لمنهاج نبيه صلى الله عليه وسلم، لابد له من معرفتها.
والفاحص المدقق لأدبيات الجماعة وفكرها سيلاحظ مدى الإلحاح على أهمية هذه الشروط، وكثرة ورودها وتكرارها بصيغ وتعابير مختلفة؛ المراد من ذلك التنبيه والتذكير والتعليم والتبليغ، والتأكيد أيضا.
ـ الشرط الأول: الصحبة والجماعة / الصحبة في الجماعة: فاز أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحبة نبي الهدى، إمام الأمة ومربيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. بصحبته تزكت نفوس أصحابه، وبصحبته استنارت قلوبهم بالإيمان، وبصحبته استنارت عقولهم بالحكمة. نقلتهم الصحبة من الفراغ والجهل والقسوة إلى الإيمان والعلم والرحمة. في فترة لم تتجاوز ربع قرن من التربية النبوية صاروا سادة الإنسانية معنى وحسًا، روحًا وقلبًا، علمًا وعملًا.
الكينونة مع الصادقين التي حرض عليها القرآن الكريم هي مُدخل الصدق إلى سكة السلوك. هي الطابع على جواز السفر بمداد التقوى. والصدق خصلة إيمانية جامعة تناقض النفاق بكل شعبه، كما تناقض البقاء على العادات والذهنيات والأنانيات الموروثة، وعلى الإسلام الموروث عقيدة وعبادة وعلاقات، والرضى بالأوهام والخرافات المتفشية في الشَّعْبِ المسكين المحروم المُجَهَّل.
وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلْفَه جيلا من المحسنين تَمَثّل الإحسان في كل أبعاده عبادة وخُلقا ومعاملة وإتقانا. محسنون ربانيون مجاهدون طابت قلوبهم وتجملت أخلاقهم وصلحت بواطنهم وأقوالهم وأفعالهم وعهودهم فكانوا رحمة للعالمين، رضي الله عنهم ورضوا عنه. وبقيت صحبة الوارثين العارفين الربانيين تتقلب في الأجيال رغم ما أصاب بعض مظاهرها من تقييد وتضييق وتخصيص وتحجير وانحراف أحيانًا.
على هذا الشرط العظيم بُنيت الجماعة. فقد قيض الله تعالى لها رجلا ربانيا عالما مجاهدا محسنا التفَّتْ حوله قلوب ظمأى فاحتضنها بروحانيته ونورانيته، ليتخرج من مدرسته التربوية آلالاف المؤمنين والمؤمنات لا يميزهم داخليا إلا ميزان التفاضل والذي هو التقوى؛ جيل مازال يقتحم العقبات رغم شدتها ووعورتها، جيلٍ يصبر ويصابر ويرابط حفاظا على إرث أصبح منشورا منثورا محفوظا في قلوب الوارثين الصادقين من أبناء جماعة العدل والإحسان يتناقلونه بينهم وينقلونه إلى غيرهم طريًا سخيّاً وفطريا سلسا .
ـ الشرط الثاني الذكر: للذكر مفهوم واسع يشمل كل العبادات الموصولة الواصلة بين العبد وربه. ومن ثَم فالذكر ليس فقط مناجات في الضمائر، وكلمات على اللسان، وشعائر ظاهرة يعظمها المؤمن. بل هو كذلك إشاعة حاكمية الله في علاقات جند الله مع الله، وفي علاقاتهم استعدادا لتطبيق شريعته في كل مجالات الحكم، والسياسة، والاقتصاد، وشكل المجتمع، والعدل فيه، والثقافة، والجهاد كله.
وتركز الجماعة على الذكر المتواصل الكثير لأنه أمر إلهي رباني أولا، ثم لأنه يرفع العبد الذاكر إلى مقام التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحقق للذاكرين الله كثيرا كمال العبودية لله سبحانه، ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا “.(سورة الأحزاب،21).
وذكر الله به يتقدس الكيان القلبي للمؤمن وهو مصب الإيمان وملتقى شعبه ومصدره نوره. وللذكر مَراقٍ، يترقى المريد من ذكر اللسان إلى ذكر القلب واللسان، ومن الوفاء بأوراد محدودة إلى الاستغراق ثم درجة الاستهتار التي اختص الله بها المفردين الذين يذكرون الله كثيرا.
ولا يكتمل التصور التربوي للجماعة بدون الإكثار من الكلمة الطيبة لا إله إلا الله. فبها يتجدد الإيمان، وبتجدده تستقيم النية وتصلح كل الأعمال لترفع إلى المولى الكريم سبحانه، وبه أيضًا تشتد العزيمة وتتقوى الإرادة وتعلو الهمة. قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم “جددوا إيمانكم ” قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: ” أكثروا من قول لا إله إلا الله” رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ـ الشرط الثالث الصدق: ما تفيد الوافد أو الوافدة إلى الجماعة إن جاء بقلب تغشاه الشكوك والظنون. لن يستفيد، لن يتزكى، لن يتشرب من على قلبه أقفال الريبة والتردد والقلق والهواجس. سقط عن منزلة الفلاح مَن دخل الجماعة ولم يصحح نيته ويتبين قصده ويقدم صدقه. الصدق مفتاح البداية والنهاية، “وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا “. (سورة الإسراء، 80).
فجماعة العدل والإحسان ليست تنظيمًا حركيًا أجوف، ولا تنظيما سياسيا أرضيا، بل محضنا لتربية رجال ونساء يريدون وجه الله عز وجل، يلزمون الصدق مع الله لأنهم علموا أن الله مع الصادقين. هم أبرموا مع الله عهدًا ليكونوا له عُبّادًا وعبيدا، فلابد من الصدق في صحبتهم حتى تتحقق الكينونة الكاملة الدائمة معهم، ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ” (التوبة، 119).
فالصدق هو “الركن الذاتي والشرط الأول للسلوك. فقد يكون العلم بما هو الصدق خطوةً فكرية. ولكن من أين لنا حال الصدق وحقيقته؟” (ياسين، الإحسان 1ج ص426). فالكينونة مع الصادقين التي حرض عليها القرآن الكريم هي مُدخل الصدق إلى سكة السلوك. هي الطابع على جواز السفر بمداد التقوى. والصدق خصلة إيمانية جامعة تناقض النفاق بكل شعبه، كما تناقض البقاء على العادات والذهنيات والأنانيات الموروثة، وعلى الإسلام الموروث عقيدة وعبادة وعلاقات، والرضى بالأوهام والخرافات المتفشية في الشَّعْبِ المسكين المحروم المُجَهَّل.
المصدر: عربي21