معالم غائبة من النظام الأخلاقي والاجتماعي في الإسلام
بقلم أحمد التلاوي
تتعدد في الشريعة الإسلامية أحكام الأمور من عبادات ومعاملات، ما بين فرائض ونوافل، وبين ما هو واجب ومستحب ومكروه ومُحرَّم، إلى غير ذلك من الأحكام.
وأنزل الله تعالى شريعته واضحة ومحددة فيما يخص الأحكام، من أجل ضمان تحقق التوازن والعدالة في صيرورات الحياة الإنسانية، وبالتالي استقامة المجتمعات.
إلا أن الله عز وجل قد شاءت حكمته أن تتحقق هذه الأهداف -الغاية في الأهمية لديمومة العمران بالصورة التي تحقق الاستخلاف وعمارة الأرض، وصولاً إلى غاية خلق الإنسان، وهو عبادة الله تعالى- أن تتحقق بشكل متعدد الصور والأبعاد.
ففي مقابل تأكيد الوجوب، وضع سبحانه، الرُّخَص، وفي مقابل التأكيد على التحريم المشدد، شرع أحكام الاضطرار، وهكذا، وفي نهاية المطاف، شَرَع التَّوْبة والاستغفار، وتعهَّد بالمغفرة والعفو.
وضع الله سبحانه، الرُّخَص في مقابل تأكيد الوجوب، وفي مقابل التأكيد على التحريم المشدد، شرع أحكام الاضطرار، وهكذا، وفي نهاية المطاف، شَرَع التَّوْبة والاستغفار، وتعهَّد بالمغفرة والعفو
وجاء ذلك حتى فيما يتعلق بأمور العبادات، التي تُعتَبر على أكبر قدر من الأهمية، باعتبار أنها الصِّلَة التي تجمع بين العبد وربه، وتعبِّر عن أداء واجبات العبد إزاء الله تعالى، وهي أساسًا، غاية خلق الإنسان… يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سُورة الذاريات-الآية:56].
ويأتي ذلك لتحقيق المرونة اللازمة، في ظل علم الله تعالى بنوازع البشر وضعفهم، وغير ذلك من سمات خَلْقِه، وهو أعلم بمَن خَلَق وهو اللطيف الخبير.
وفي عصرنا الراهن، فإننا نقف أمام الكثير من الظواهر على مستوى العلاقات الإنسانية والمجتمعات البشرية، من صور التعقيد، وكذلك الأزمات المختلفة، والتي ترتبط في كثير من الأحيان بقضية الحقوق والمعاملات.
ومن ضمن الأمور والمجالات التي أسبغ الله تعالى عليها هذا الطابع، ولها أبلغ الأثر في تحسين مستوى العلاقات الإنسانية في المجتمعات الإسلامية، هي ما يُعرَف بالمروءة التي تتضمن العفو في بعض الأحيان عن بعض الحقوق؛ إعلاءً للرابطة الإنسانية.
في هذا الإطار، فإن هناك تصحيحاً مفاهيمياً واجباً، حيث يضع البعض “المروءة” ضمن الرقائق ومكارم الأخلاق أو ما شابه، بينما هي من صميم السلوكيات والممارسة المجتمعية التي أصَّلها الإسلام، ودعا إليها من خلال النص، أي أنها من أصول الشريعة الإسلامية التي يجب على كل مسلم أن يكون حريصًا عليها.
يضع البعض “المروءة” ضمن الرقائق ومكارم الأخلاق أو ما شابه، بينما هي من صميم السلوكيات والممارسة المجتمعية التي أصَّلها الإسلام، ودعا إليها من خلال النص، أي أنها من أصول الشريعة الإسلامية التي يجب على كل مسلم أن يكون حريصًا عليها
والأدلة الشرعية على ذلك عديدة في القرآن الكريم، وفي السُّنَّة النبوية الشريفة.
ومن بين ذلك، قول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [سُورة البقرة–الآية: 178].
فهذه الآية تتكلم عن أخطر أمر من أمور حقوق الإنسان إزاء الإنسان، وهو حق الدم، حيث تقول الآية في شطرها الأول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى}.
وفي نقطة حق الدم كذلك، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [سُورة النساء–الآية: 92].
في كلا الآيتَيْن، هناك دعوات واضحة وصريحة للتنازل في بعض الأحوال المتعلقة بحقوق الدم، بالعفو والتصدُّق، وغير ذلك مما كان فيه النص القرآني واضحًا.
وفي آية أخرى من سُورة “البقرة”، الآية (237)، يقول الله تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، ويزيد: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، وهو بدوره جاء في موضع حديث لحقوق أخرى شديدة الأهمية، وهي حقوق الزواج والطلاق، وهي لها أكبر الأهمية في النظام الاجتماعي للإسلام كما نعلم.
وفي أمرٍ آخر على أكبر قدر من الأهمية في المنظومة الاجتماعية في الإسلام، وهو المواريث، والتي لأهميتها، يقول علماء الفقه والتفسير، إنه لا يوجد أمرٌ حَظِيَ بتغطية شاملة، واضحة –لو صحَّ التعبير– في القرآن الكريم، مثل المواريث، والزواج والمحارم، في هذا الأمر، نجد القرآن الكريم يدعو إلى بعض الأمور التي تتجاوز التحديد الدقيق للأنصبة، حيث يقول الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [سُورة النساء–الآية: 8].
إلا أنه من جانب آخر، فإنه من الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى بعض الأمور التي تؤكد كمال التشريع الإسلامي، حيث إن هذه الأوامر وُضِعَ لها، كما أي شيء في الشريعة الإسلامية، ضوابط تنظِّمها.
ففي الآية (178) من سُورة “البقرة” التي أشرنا إليها فيما تقدَّم، يقول الله تعالى في تمامها، بعد أن دعا إلى العفو والاتباع بالمعروف والأداء بإحسان كتخفيف من الله عز وجل، نجده يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
كما أنه، وفي آيات المواريث، بعد أن شَرَع اللهُ تعالى الوصية، كما جاء في الآيتَيْن (11) و(12) من سُورة “النساء”، فإن السُّنَّة النبوية وضعت الضابط أو القيد الشرعي فيها؛ لعدم الجور على أصحاب الحقوق الأصليين، وهو “تقنين” الوصية بالثُّلُث، كما ثَبُتَ في الصحيحَيْن.
فقد ورد أن سعد بن أبي وقاص رضي اللهُ عنه، أراد أن يوصي بماله كله، فنهاه الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، وراجعه في كل مرَّة قال له فيها سعد إنه سوف يوصي بجزء من ماله، حتى وصل إلى الثُّلُث، فقال “عليه الصلاة والسلام”: “الثُّلُث والثُّلُث كثير (وفي رواية: كبير)”.
وفي العلاقات الزوجية. القرآن الكريم يقول حُكْمًا قد يبدو مطلقًا، حيث يقول تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [سُورة البقرة-الآية: 223]، ولكنه أتبع ذلك بقواعد ناظمة تراعي الطبيعة البشرية، حيث يقول {وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاقُوهُ}، بل وربط ذلك بالإيمان، حيث تتمة الآية، يقول فيها الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
وفي السُّنَّة النبوية، نجد هناك بعض الأمور التي حددها الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في نقطة “وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ”، حيث يدعو إلى التمهيد والترفُّق قبل إتيان الزوج لزوجته، ودعا عليه الصلاة والسلام إلى تجنُّب اتباع الغرائز بشكل بهيمي في هذا الأمر.
فكما في الصحيح، عن الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنه قال: (لا يقعنَّ أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة، وليكن بينهما رسول). قيل: وما الرسول يا رسول الله؟. قال: (القبلة والكلام)، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضًا: (ثلاث من العجز في الرجل)، وذكر منها أن يقارب الرجل زوجته فيصيبها (أي يجامعها) قبل أن يحدّثها ويؤانسهاـ ويضاجعها فيقضي حاجته منها، قبل أن تقضي حاجتها منه).
وعلى هذا النحو، يمضي القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية الشريفة، ويجب أن نفهم أن هذا في الإسلام، وهذا هو الإسلام، ويجب علينا أن نقدمه على تعصُّباتنا في أمورنا وسلوكياتنا كافة.
ويفتح ذلك المجال أمام حديث آخر أخطر، وهي قضية قاعدة القيود والقواعد الناظمة التي وضعها الله تعالى لتنفيذ الأحكام الشرعية كافة، وهي من أهم القضايا التي كان لغياب الفهم فيها، أثر كبير في التشويش الحاصل على المشروع الإسلامي، وفي ظهور آفات مثل التطرف والتكفير وغير ذلك، ولكن لهذا موضع آخر من الحديث.
(المصدر: موقع بصائر)