معالم النصر والتمكين في سيرة الخلفاء الراشدين (5)
كيف جعل الفاروق عمر عاصمة الدولة الإسلامية منارة للعلم ومقصداً لعلماء الأمة
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
لمَّا انتقل النَّبي (صلى الله عليه وسلم) إِلى الرَّفيق الأعلى؛ كانت المدينة عاصمة الدَّولة الإِسلاميَّة، وموطن الخلافة، وفيها تفتَّق عقل الصَّحابة في استخراج أحكامٍ إِسلاميَّةٍ، تصلح لما جدَّ من شؤونٍ في المجتمعات الإِسلاميَّة، بعد الفتوح الَّتي كثرت، واتَّسعت بها رقعة الإِسلام، فقد كانت المدينة تحتلُّ المكانة المرموقة بين سائر الأمصار، فالمجتمع المدنيُّ عاش فيه رسول الله (ص)، وتربَّى فيه على يديه النَّواةُ الأولى لخير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس، وبذلك أصبح لا يدانيه أيُّ مجتمعٍ اخر.. وكان لوجود عمر على رأس الخلافة في المدينة ـ مدَّة عشر سنوات ـ لخصائصه الذَّاتية، وسياسته في الحكم أثرٌ كبيرٌ في جعل المدينة المدرسة الأولى للحديث، والفقه، والتَّشريع في القرنين الأوَّل، والثَّاني، وذلك لما يأتي:
إِنَّ المدينة كانت في عهد عمر مجمع الصَّحابة، وخصوصاً ذوي السَّبق منهم في الإِسلام، استبقاهم عمر حوله، حرصاً عليهم، ورغبةً في أن يكونوا عوناً له في سياسة الأمَّة، واستعانةً بعلمهم، واعتماداً على إِخلاصهم، واسترشاداً بارائهم، ومشورتهم، وقد بقي علمُ هؤلاء الصَّحابة بالمدينة، فبلغ فقهاء الصَّحابة المُفْتون (130) مئةً وثلاثين صحابياً، وكان المكثرون منهم سبعةٌ: عمر، وعليٌّ، وعبد الله بن مسعودٍ، وعائشة، وزيد بن ثابتٍ، وعبد الله بن عباسٍ، وعبد الله بن عمر. قال أبو محمَّد بن حزمٍ: ويمكن أن يُجمع من فتوى كلِّ واحد منهم سفرٌ ضخمٌ.
والمتوسطون من الصَّحابة فيما روي عنهم من الفتيا: أبو بكر، لقصر المدَّة الَّتي عاشها بعد رسول الله (ص)، وأمُّ سلمة، وأنس بن مالكٍ، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وأبو هريرة، وعثمان بن عفَّان، وعبد الله بن الزُّبير، وأبو موسى الأشعريُّ، وسعد بن أبي وقَّاص، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، وطلحة، والزُّبير، وعبد الرَّحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وعبادة بن الصَّامت. قالوا: ويمكن أن يجمع من فتيا كلِّ واحدٍ منهم جزء صغير، وجل من ذكرتهم بقي في المدينة في عهد عمر بن الخطاب، إِلا من كانت له مهمَّة تعليميَّة، أو جهاديةٍ كلَّفه بها الفاروق نتيجةً لتوسُّع الدَّولة، واحتياج البلاد المفتوحة لمن يعلِّم أهلها القران الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة المطهَّرة، وقد أثمرت سياسة عمر ـ رضي الله عنه ـ في جعل المدينة دار الفقه، والعلم، ومنزل أهل الرأي، والمشورة. (للماوردي، فرائد الكلام ص111).
وممَّا يدلُّ على نجاح تلك السِّياسة ما رواه ابن عباسٍ؛ حيث قال: كنت أقرأى رجالاً من المهاجرين، منهم: عبد الرَّحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر في اخر حَجَّةٍ حجَّها؛ إِذ رجع إِليَّ عبد الرَّحمن، فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين ! هل لك في فلانٍ يقول: لو قد مات عمر؛ لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكرٍ إِلا فلتةً، فتمَّت ! فغضب عمر، ثمَّ قال: إِنِّي إِن شاء الله لقائمٌ العشيَّة في النَّاس، فمحذِّرهم هؤلاء الَّذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. قال عبد الرحمن: فقلت: لا يا أمير المؤمنين ! لا تفعل فإِنَّ الموسم يجمع رعاع النَّاس، وغوغاءهم، فإنَّهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم، فتقول مقالةً يطيِّرها عنك كل مطيِّر، وألا يعوها، وألاّ يضعوها على مواضعها، فأمهل؛ حتَّى تقدم المدينة؛ فإِنَّها دار الهجرة، والسُّنَّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف النَّاس، فتقول ما قلت متمكِّناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعوها على مواضعها. قال عمر: أما والله ـ إن شاء الله ـ لأقومنَّ بذلك أوَّل مقامٍ أقومه بالمدينة! (المدينة النَّبويَّة فجر الإِسلام، محمَّد شراب 2/45).
قال ابن حجر: واستُدلَّ بهذا الحديث على أنَّ أهل المدينة مخصوصون بالعلم، والفهم، لاتِّفاق عبد الرحمن بن عوف، وعمر على ذلك، قال: وهو صحيحٌ في حقِّ أهل ذلك العصر ـ عصر عمر ـ ويلتحق بهم من ضاهاهم في ذلك، ولا يلزم من ذلك أن يستمرَّ ذلك في كلِّ عصرٍ، ولا في كلِّ فردٍ، وقد أثَّر ذلك العصر في المدارس العلميَّة الَّتي نشأت مع تطوُّر المجتمع، وتوسُّع الفتوحات، فقد كان تلاميذ مدرسة عمر في المدينة، ونشروا علمهم بالمدينة، فنشأ تلاميذ صاروا أعلاماً؛ لقربهم من المنهل، ولبقائهم في البيئة المدنيَّة، وبعض تلاميذ عمر تمَّ إِرسالهم إِلى البلدان المفتوحة؛ لتعليم، وتفقيه، وتربية الشُّعوب الَّتي دخلت في الإِسلام.
ولقد تصدَّرت المدينة مكاناً عالياً في العلم، والفقه، وأثَّرت مدرسة المدينة في الأقطار المفتوحة، والمدارس الَّتي تشكَّلت، كالبصرة، والكوفة، وغيرهما، ويأتي تعاقب مركزيَّة الفقه في المدينة كالتَّالي:
ـ المدينة مهبط الوحي، والتَّشريع، ولا ينازعها بلدٌ في العصر الرَّاشديِّ.
ـ في عهد الخلفاء الرَّاشدين كانت المدينة مركز فقهاء الصَّحابة، وعلى رأسهم عمر.
ـ قتل عثمان سنة 35هـ، وانتقل عليٌّ إِلى الكوفة، ومع ذلك بقيت المدينة مركز أهل العلم، والفتوى بسبب امتداد عُمُرِ الصَّحابة الفقهاء في المدينة، حتَّى عمَّروا أكثر النِّصف الثَّاني من القرن الأول، وهم: عائشة، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وسعد بن أبي وقَّاص، وغيرهم.
ـ نشأت مدرسة كبار التَّابعين في المدينة، وكان منهم الفقهاء السَّبعة، الَّذين لم يوجد لهم نظيرٌ في الأمصار الإِسلاميَّة، وهم المذكورون في قول الشاعر:
ألا كُلُّ مَنْ لاَ يَقْتَدِي بِأَئِمَّةٍ فَقِسْمَتُهُ ضِيْزَى عَنِ الحقِّ خَارِجَهْ
فَخُذْهُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قاسمٌ سَعِيْدٌ، أبو بكرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
ـ وجاءت الطَّبقة الثَّانية من التَّابعين (صغار التَّابعين) وعاشوا حتَّى أواخر النِّصف الأوَّل من القرن الثَّاني، أذكر منهم: ابن شهاب الزُّهري، ونافع بن أسلم، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
ـ ثمَّ جاء عصر الإِمام مالكٍ، وهو من تابعي التَّابعين، فكان من أعلم النَّاس بعلم من سبقه من التَّابعين كبارهم، وصغارهم.
ويشهد لعلم أهل المدينة احتياج أهل الأمصار إلى علم الحجاز، ورحلتهم إِليه في طلبه بما لم يعرف للأمصار الأخرى، فقد رحل علماء الأمصار الإِسلاميَّة إِلى المدينة في طلب العلم، وعرض ما لديهم على علمائهم، فكانوا المرجع في هذا الشأن، وقد ذهب علماء المدينة إِلى الأمصار قضاةً، ومعلِّمين ابتداءً من الَّذين أرسلهم عمر ـ رضي الله عنه ـ لمَّا فتحت الشَّام، والعراق لتعليم النَّاس كتاب الله، وسنَّة رسوله، فقد ذهب إِلى العراق عبد الله بن مسعودٍ، وحذيفة بن اليمان، وعمَّار بن ياسر، وعمران بن حصين، وسلمان الفارسي، وغيرهم، وذهب إِلى الشَّام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصَّامت، وأبو الدَّرداء، وبلال بن رباح، وأمثالهم، وبقي عنده مثل: عثمان، وعليٍّ، وعبد الرحمن بن عوفٍ، ومثل: أبيِّ بن كعبٍ، ومحمَّد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وغيرهم، وكان ابن مسعودٍ ـ وهو أعلم من كان بالعراق من الصَّحابة إِذ ذاك ـ يفتي بالفتيا، ثمَّ يأتي المدينة فيسأل علماء أهل المدينة، فيردُّونه عن قوله، فيرجع إِليهم. (المدينة فجر الإِسلام، 2/46).
لقد أثَّرت المدرسة المدنيَّة في بقيَّة المدارس، وكان سائر أمصار المسلمين غير الكوفة منقادين لعلم أهل المدينة، لا يعدُّون أنفسهم أكفاءهم في العلم، كأهل الشَّام، ومصر، مثل الأوزاعيِّ، ومن قبله، وبعده من الشَّاميِّين، ومثلُ اللَّيث بن سعدٍ، ومن قبله، ومن بعده من المصريِّين، وأنَّ تعظيمهم لعلم أهل المدينة، واتِّباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهرٌ بيِّنٌ، وكذلك علماء أهل البصرة، كأيُّوب، وحمَّاد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأمثالهم، ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصار.
لقد كانت ثقة أهل الأمصار في علم أهل المدينة، تجعلهم يقدِّمونه على كلِّ علمٍ؛ لما روى الخطيب البغداديُّ: أنَّ محمَّد بن الحسن الشَّيباني كان إِذا حدَّثهم عن مالكٍ؛ امتلأ عليه منزلُه، وإِذا حدَّثهم عن غير مالك لم يجبه إِلا القليل من النَّاس، فقال: ما أعلم أحداً أسوأ ثناءً على أصحابه منكم ! إِذا حدَّثتكم عن مالكٍ؛ ملأتم عليَّ الموضع، وإِذا حدَّثتكم عن أصحابكم؛ إِنَّما تأتون متكارهين. (الفتاوى 20/172).
ويتفاضل غير أهل المدينة بقدر ما يأخذونه من علم أهل المدينة، ويرون في علم أهل المدينة معياراً للتَّفوُّق، فيقول مجاهدٌ، وعمرو بن دينار، وغيرهما من أهل مكَّة: لم يزل شأننا متشابهاً متناظراً حتى خرج عطاء بن أبي رباح إِلى المدينة، فلمَّا رجع؛ استبان فضله علينا.
إِنَّ من أسباب الثَّروة الفقهيَّة؛ الَّتي حظيت بها المدينة أيَّام عمر بن الخطاب شخصيَّةُ عمر بن الخطَّاب المُلْهَمَةُ، وقد شهد رسول الله (ص) لعمر بذلك، لمَّا راه موفَّقاً في آرائه. وقد جعل من عاصمة الدَّولة مدرسةً تخرَّج فيها العلماء، والدُّعاة، والولاة، والقضاة، وإِذا نظرنا في المدارس العلميَّة الأولى في العالم الإِسلامي؛ رأينا الأثر العمريَّ عليها؛ لأنَّ كلَّ المؤسِّسين تقريباً تأثَّروا بفقه الفاروق ـ رضي الله عنه.
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” عمر بن الخطاب ” للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- الدَّاء والدَّواء، ابن قيم الجوزية.
- مجموع الفتاوى، ابن تيمية الحراني.
- مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية.
- التبيان في ادأب حملة القران، يحيى بن شرف الدين النوويّ.
- الزُّهد، الإمام أحمد بن حنبل
- البيان والتَّبيين، الجاحظ.
- الخلافة الرَّاشدة، د. يحيى اليحيى.