مقالاتمقالات مختارة

معالم المنهج الصحيح لطلب العلم

بقلم عبد العزيز الداخل

لطلب العلم مناهج متنوّعة، وطرائق متعدّدة، تتفق في غاياتها، وتتنوّع في مسالكها، لتفاوت الطلاب في أوجه العناية العلمية، وفيما أنعم الله عليهم به من الملَكَات والقدرات، فلا يُحصر طلب العلم في مسار واحد، ولا طريقة بعينها،وقد سلك العلماء في طلبهم للعلم مسارات متنوعة؛ فوصل كل عالم إلى ما كتبه الله له من المنزلة في العلم، بفضل الله تعالى ثمّ بسيره على طريقة صحيحة أوصلته إلى مطلوبه.
وهذا التنوّع من دلائل سعة فضل الله تعالى ورحمته، وتيسيره للعلم؛ فإنّه يسير بتيسير الله للدّين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه). رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن تيسير الدين تيسير التفقّه فيه؛ فمن سار على طريقة صحيحة من طرق التعلّم المعتبرة عند العلماء وثبت عليها؛ فإنه يبلغ المنزلةَ التي يُعدّ بها من أهل العلم، ومن سار على الدرب وصل.

وتعدد مناهج الطلب وكثرتها واختلافها، واختلاط المناهج الصحيحة بغيرها، وكثرة المتكلمين في اقتراح مناهج الطلب بعلم وبغير علم كلّ ذلك ممَّا يقتضي من طالب العلم أن يتعرّف على الأصول التي يميز بها المناهج الصحيحة من الخاطئة، حتى يضبط مساره في التحصيل العلمي، ويحفظ وقته وجهده، ويتعرّف على معالم كلّ علم يَطلبه، فيأتيه من بابه، ويتعلَّمه على وجهه الصحيح، ويعرف سبيل التدرّج في طلبه.

ركائز التحصيل العلمي:
والتحصيل العلمي لا يتمّ لطالب العلم إلا بأربع ركائز:
الركيزة الأولى: الإشراف العلمي من عالم أو طالب علم متمكّن يأخذ بيده في مسالك الطلب، ويقوّمه، ويعرّفه بجوانب الإجادة والتقصير لديه، حتى يسير بأمان في طريق طلب العلم إلى أن يعرف معالم العلوم التي يطلبها، وتتبيّن له مسالك أهل العلم في تحصيلها وتعليمها.

وكل من أراد أن يتعلَّم صنعة من الصنائع فلا بد له من أن يصحب أستاذًا فيها يتعلَّم منه مبادئ تلك الصنعة، وأدواتها الأوّلية، ويرتّب له تعلّمها، ويدرّبه عليها، ويقوّمه إذا أخطأ ولا يزال معه حتى يشتدَّ عوده في تلك الصنعة،ويكون من أهلها المعروفين بها.
وهذا الإشراف يُحتاج إليه في عامّة الصنائع التي تتعلّق بها مصالح الناس من الطبّ والهندسة والنجارة والحدادة وغيرها، فمن رام تعلّم صنعة من تلك الصنائع وجد أنّه لا بدّ له من أستاذ بارعٍ يعلّمه، ويشرف على تدرّجه في تعلّم تلك الصنعة، ومن استعجل التصدّر في تلك الصنعة، ولم يتعلّمها من أهلها على وجهها الصحيح فسيكون في أدائه من الخلل والنقص ما يضرّ به من يتعامل معه، ولا يثق به من يعرف حاله، وأرباب تلك الصنعة يحكمون عليه بأنّه مدّعٍ لها ليس من أهلها، وإن غرّ بعض البسطاء من الناس الذين لا تمييز لهم بين المتقن وغير المتقن في بعض الأمور.
وكذلك حال من تلبس بلباس أهل العلم وتحدث بلسانهم واستعمل شيئا من أدواتهم، وهو لم يسلك سبيلهم في تحصيله ورعايته، فإنّه لا يعدّ من أهل العلم، وإنما هو جاهل متعالم لا يوثق به، ولا يأتمنه من يعرف حاله، بل ما أسهل ما يبين الامتحانُ كذبه وادعاءه.

والركيزة الثانية: التدرّج في الدراسة وتنظيم القراءة، فيبدأ بمختصر في كلّ علم يتعلّمه، ويدرسه بإتقان وضبط، على طريقة ميسّرة غير شاقّة، ويداوم على دراسته بعناية حتى يتمّه، ويراجع شيخه فيما يشكل عليه، حتى يكون إلمامه بذلك المختصر إلماماً حسناً يمكنه البناء عليه، ثمّ ينتقل إلى دراسة كتاب أوسع منه، فيدرسه بتفصيل أوسع، فتتوسّع مداركه في العلم شيئاً فشيئاً، وينمو تحصيله العلمي بتوازن محكم – بإذن الله – إلى أن يتمّ مرحلة التأسيس العلمي في ذلك العلم بإشراف شيخه وتوجيه.
ثم ينظّم قراءته في كتب ذلك العلم حتى يكون على إلمام حسن بعامة ما كتب في أبوابه ومسائله. 

والركيزة الثالثة: النهمة في التعلم.
والنهمة في العلم معنى يلتئم من شدّة محبة العلم والحرص عليه، والولَع به، والاجتهاد في طلبه، فتبقى نفس طالب العلم في تطلّع دائم للازدياد من العلم، لا تشبع منه، ولا تكفّ عن الفِكْرة فيه، حتى تشتغل به عن بعض محبوباتها ومرغوباتها الدنيوية، وقد صح عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: (منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها). رواه الدارمي، وقد روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود وحديث أنس وحديث ابن عباس بأسانيد ضعيفة.

ومما يعين على تحصيل النهمة في العلم محبة العلم وأهله واليقين بفضائله وفضائلهم، وسموّ النفس لنيل تلك الفضائل، ويغذّيها التفكر فيما ورد من النصوص في فضل العلم ومحبة الله تعالى له ولأهله الذين يطلبونه إيماناً واحتساباً، وما أعدّ الله لهم من الثواب الكريم والفضل العظيم، وتأمّل سير العلماء، وجميل آثارهم، وحسن أثر العلم عليهم.

وإذا حصّل الطالب النهمة في العلم كانت من أعظم الدوافع لطلبه، والانكباب عليه، والازدياد منه، والفرح بما يستفاد من فوائده وعوائده، والحرص على ضبطه وتقييده، ومن كان إقباله على العلم بنَهَم فإنَّه لا يشتغل عنه بشيء من العوائق والعلائق، بل هو كثير التفكر في العلم وضبط مسائله، وتعرّف ما خفي عليه منه، على كلّ حال من أحواله، ويعدّ لكل حال ما يناسبها من وسائل الطلب؛ فلا يلبث بالمداومة على هذه النهمة حتى يحصّل علماً غزيراً، وتتسّع معرفته في ذلك العلم، وترسخ قدمه فيه، ويكون من أهله الخبيرين بمسائل الإجماع والخلاف فيه، وكتبه ومناهجها، وأحوال أئمته ومراتبهم، وطرائق تعلّمه وتعليمه، وكلما أشكل عليه شيء في ذلك العلم لم يقرّ له قرار حتى يروي غليله من معرفته وتفهّمه.

والنهمة تحمل صاحبها على مداومة استذكار العلم، وتقليب النظر في المسائل، واستثارة الأسئلة، والتفكّر في أجوبتها، وسؤال أشياخه عمّا لا يعرفه، فيعتني بأجوبتهم ويعقلها بقلبه، ويضبطها ضبطاً حسناً، ويُعمل الفِكْرة في طريقة اهتدائهم لتلك الأجوبة، ويستفيد من طريقتهم في نظائر تلك الأمثلة، وقد صحّ عن جماعة من السلف أنهم ذكروا عن أنفسهم أنهم حصّلوا العلم بلسانٍ سَؤُولٍ وقَلبٍ عَقُول، وهذا من آثار النهمة في طلب العلم ودلائلها.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كان لي لسان سَؤول وقَلب عَقُول، وما نزلت آية إلا علمت فيم نزلت، وبم نزلت، وعلى من نزلت). رواه ابن سعد في الطبقات والبيهقي في القضاء والقدر واللفظ له وأبو نعيم في حلية الأولياء.

وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: قال المهاجرون لعمر: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عبّاس!
قال: ( ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول ).
وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن مغيرة بن مقسم قال: قيل لابن عباس: كيف أصبت هذا العلم؟
قال: (بلسان سؤول وقلب عقول).
ورويت هذه المقالة عن الشعبي وإبراهيم النخعي وغيرهما.

فمن جمع قلباً يعي مسائل العلم ويعقلها، ولساناً سَؤولاً يحسن استثارة الأسئلة التي تنفعه؛ فإنّه يحصّل علماً غزيراً مباركاً بإذن الله تعالى.
ومن علامات النهمة في طلب العلم تقديم طلبه على مرغوبات النفس من متاع الدنيا والاشتغال به عنها بسبب شدّة المحبّة للعلم وقوّة الرغبة في فضائله، وشدّة الرهبة من الحرمان منها؛ فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة أوقدت العزيمة وعظم سلطان الرغبة والرهبة على القلب حتى يكتسب المرء صفات وطبائع وقوة عجيبة لا يمكن له أن يبلغها في حال سكون الدافع؛ بل ربّما حرمه هذا الدافع لذيذ النوم، ورغد العيش، وحمله على ركوب الأهوال، وتحمّل المشاقّ، خشية فوات ما يطلبه لعظم شأنه في نفسه، والغالب على من كان هذا حاله أنه لا يلتفت إلى عذل من يعذله، كما قال سويد بن كاهل اليشكري:

وكذاك الحبّ ما أشجـــعــــــه … يركب الهول ويعصــــي من وزع 
فأبيتُ الليــــــــــــل ما أرقــــــده  وبعيـــــــنيّ إذا نجــــــــــــــم طلـــــــــــــــــع

وهذا أمر لا يختص بحبّ الأشخاص؛ بل كلّ من أولع بشيء ارتكب في سبيل الحصول عليه وخشية فواته ما لا يمكنه أن يعمله في حال سكون هذا الدافع، وإذا ضعفت الدوافع في النفس قلَّ تأثيرها على الجوارح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن تخلّف المنافقين عن صلاة الفجر وصلاة العشاء: (ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).
وكان شعبة بن الحجاج يقول: (كم من عصيدة فاتتني!). رواه العقيلي.
كان من حبّه للحديث إذا سمع بمجلس حديث أو قدوم محدّث طار إليه ولم ينتظر نضج الطعام، فيعود وقد أُكل.
وقد كان الإمام البخاري رحمه الله ممن بلغ الغاية في النهمة في طلب الحديث حتى إنه لَيذهلُ عن بعض أسماء أقاربه فلا يحفظهم، ويضبط أسماء الرواة على كثرتهم ويعرف شيوخهم وتلاميذهم وعلل أحاديثهم على كثرتها لما له من النهمة في تعلّم الحديث، فكانت تلك النهمة من أنفع ما أعانه على حفظ الحديث ومعرفة أحوال رجاله.
قال ابن أبي حاتم: بلغني أن أبا عبد الله [البخاري] شرب البلاذر للحفظ، فقلت له: هل من دواء يشربه الرجل للحفظ؟
فقال: لا أعلم.
ثم أقبل علي وقال: (لا أعلم شيئا أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر، وذلك أني كنت بنيسابور مقيماً، فكان يَرِد إليَّ من بُخارى كُتُبٌ، وكنَّ قراباتٍ لي يُقرِئن سَلامَهُنَّ في الكتب، فكنت أكتب إلى بخارى، وأردت أن أقرئهنَّ سلامي، فذهب علي أساميهنّ حين كتبت كتابي، ولم أقرئهن سلامي، وما أقلَّ ما يذهب عني في العلم).
قال الذهبي: (يعني: ما أقل ما يذهب عنه من العلم لمداومة النظر والاشتغال، وهذه قراباته قد نسي أسماءهن، وغالب الناس بخلاف ذلك؛ فتراهم يحفظون أسماء أقاربهم ومعارفهم ولا يحفظون إلا اليسير من العلم).
وقال ابن أبي حاتم: سمعته يقول: (لم تكن كتابتي للحديث كما يكتب هؤلاء؛ كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبَه وعلة الحديث إن كان فَهِما، فإن لم يكن فهما سألته أن يخرج إليَّ أصله ونسخته؛ فأما الآخرون فإنهم لا يبالون ما يكتبون، وكيف يكتبون).
وهذا مما يدلّ على نهمه في طلب الحديث، وتثبّته في طلبه، وأنّه لا يكتفي بما يقوله الشيخ من أسماء الرواة، بل لا يقنع حتى يعرف ما يمكنه معرفته من أسماء الرواة وكناهم وأنسابهم وعلل أحاديثهم.
وقد كان رحمه الله من شدّة نهمته وإدامة نظره في الكتاب ربّما استيقظ من نومه في الليلة الواحدة مراراً فيضيئ السراج في كل مرَّة، ويطالع كتبه؛ ليراجع حديثاً أو مسألة أو يدوّن شيئاً، وبمثل هذه النهمة وإدامة النظر تحصل للدارس قوّة الحفظ بإذن الله تعالى بلا كدّ ذهني.

والركيزة الرابعة: الوقت الكافي.
ولا بدّ للمتعلّم من الصبر على طلب العلم مدّة كافية من الزمن حتى يُحسن تعلّمه، ويتدرّج في مدارجه، 
ويسلك سبيل أهله، برفق وطمأنينة، وضبط وإتقان، وتفهّم وتفكّر، ومداومة على المذاكرة والمدارسة، حتى يبلغ فيه مبلغ أهل العلم.
ومن اغترّ بذكائه وسرعة فهمه وأراد أن يحوز العلم في وقتٍ وجيزٍ مغالبةً ومكابرةً؛ تمنّع عليه العلم وتعزّز؛ واستعصى عليه تحصيله، والانتفاع به.
وبيان سرّ ذلك أن في طريق الطلب مزالقَ وفتناً من لم يكن على بصيرة منها زلّت قدمه، واضطرب تحصيله، وانحرف مساره؛ فسلك بعض سبل أهل الأهواء أو انقطع ورجع.
ولا سبيل إلى النجاة من تلك المزالق والفتن إلا باتّباع سبيل أهل العلم والإيمان، وتوثّق الطالب مما يتعلّمه، والسير في طريق الطلب مرحلةً مرحلةً، وإعطاء كلّ مرحلة حقّها من التزوّد والتمهّل، والتبصّر والتصبّر.
وقد قال الإمام الزهري رحمه الله: «إنَّ هذا العلمَ إنْ أخذته بالمكاثرة له غلبك، ولكنْ خُذْهُ مع الأيَّامِ والليالي أخذاً رفيقاً تظفرْ به»
وقال معمر بن راشد: «من طلب الحديث جُملةً ذهب منه جملةً، إنما كنا نطلب حديثا وحديثين».

والعجلة من أعظم الآفات التي تقطع على الطلاب مواصلة طريق الطلب؛ وتحول بينهم وبين التدرج في طلبه كما ينبغي، فيضيع عليهم من الوقت أضعاف ما أرادوا اختصاره.
ولا يختصر طالب العلم طريقَ الطلب بأحسن من طلبه على وجهه الصحيح، ودراسته دراسة متقنة متأنّية، بتدرّج وترفّق تحت إشراف علمي من غير تعجل ولا مكاثرة.

ومن أسباب العجلة في طلب العلم: 
– ضعف الصبر على تحمّل مشقّة طلب العلم.
– وضعف البصيرة بطول طريقه.
– وإيثار الثمرة العاجلة من التصدّر والرياسة به على حقيقة تحصيل العلم النافع والانتفاع به.
– والاغترار بالذكاء والحفظ السريع؛ فيستعجل تصوّر المسائل والحكم فيها باطّلاع قاصر، وأدوات ناقصة، ويكثر على نفسه من المسائل بما لا يمكنه أن يتقن دراسته على وجه صحيحٍ بهذه العجلة؛ فيقع في فهمه لمسائل العلم خطأ كثير، واضطراب كبير.

فمن وجد في نفسه عجَلة مذمومة فليبارد إلى معالجة أسبابها، وليتبصّر بطريقة أهل العلم في تحصيله، وصبرهم على سلوك سبيله.

والمقصود أنّ هذه الركائز الأربع لا بدّ منها في كلّ منهج صحيح من مناهج طلب العلم، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله:

أخي لن تنال العلم إلا بستة .. سأنبيك عن تفصيلها ببيان 
ذكاء وحرص واجتهاد وبُلغة .. وصحبة أستاذ وطول زمان 


فالحرص والاجتهاد من معاني النهمة في طلب العلم، وكلّ منهوم بأمرٍ فلا بدّ له أن يكون له قدر من الذكاء فيه؛ فإنّ طول الإقبال يثمر قدراً من الفهم والتعرف.
وأمّا البُلغة من المال فالحديث عنها على أهميته خارج عن معايير الموازنة بين مناهج طلب العلم.
وأمّا صحبة الأستاذ فهي في معنى الإشراف العلمي.
وأمّا طول الزمان فهو طول نسبيّ، والعبرة بسلوك المنهج الصحيح لطلب العلم، فمن الطلاب من ينبغ مبكّراً، ومنهم من يتأخّر.

معالم العلوم:
ولكلّ علمٍ ثلاثة معالم مهمة:
المعلَمُ الأول: أبواب ذلك العلم ومسائل كلّ باب منه، ولبيان هذا المعلَم كتب منهجيّة متدرّجة يدرسها الطالب حتى يكون على إلمام حسن بعامّة أبواب ذلك العلم ومسائله.
والمعلَم الثاني: كُتبه الأصول التي يستمدّ منها أهل ذلك العلم علمَهم، ويدمنون الرجوع إليها، والإحالة عليها، فيعرف مراتبها، ومناهج مؤلفيها؛ وينظّم القراءة فيها على خطّة مطوّلة بعد اجتياز مرحلة التأسيس في ذلك العلم.
والمعلَم الثالث: أئمّته من العلماء المبرّزين فيه؛ الذين شَهِدَ لهم أهل ذلك العلم بالإمامة فيه، والتمكّن منه؛ فيعرف طبقاتهم ومراتبهم، ويقرأ من سيرهم وأخبارهم، ويعرف آثارهم، ويتعرَّف طرائقهم في تعلّم ذلك العلم ورعايته وتعليمه.
وكلّ من أراد أن يصحب قوماً، ورغب أن يُعدّ منهم، وصدق في تلك الرغبة فإنّ نفسه تدفعه لمعرفتهم معرفة حسنة، فيتعرّف سيرهم أخبارهم وأحوالهم، ويأتمّ بهم، وينتفع بما ورّثوه من علم نافع؛ ويسير على منهاجهم، ويصحبهم في حياته باصطحاب سيرهم وآثارهم حتى يُعدّ من جملتهم، ويتحمّل أمانة ذلك العلم، ويحمل رايته.

وتحصيل هذه المعالم الثلاث يفيد الطالب فوائد جليلة القدر عظيمة النفع، تعينه على حسن الإلمام بذلك العلم والتمكّن فيه، وتحصيلها يستدعي مداومة الطالب على الركائز الأربع المتقدّمة، وكلّ منهج من مناهج الطلب لا يحقّق هذه المعالم الثلاث فهو منهج ناقص.

مراحل طلب العلم
ولطلب العلم ثلاث مراحل مهمة ينبغي لطالب العلم أن يكون حسن الاستعداد لكل مرحلة منها:
المرحلة الأولى: مرحلة التأسيس في ذلك العلم؛ بدراسة مختصر فيه تحت إشراف علمي، ثمّ التدرج في دراسته، وتنظيم قراءة كتبه الأوّلية إلى أن يجتاز درجة المبتدئين في ذلك العلم. 
والمرحلة الثانية:
 مرحلة البناء العلمي: وفيها يكون التحصيل العلمي المنظّم، ويُحقّق التوازن والتكامل في تحصيل ذلك العلم، بعد اكتساب التأسيس فيه، وتكميل أدواته، والتمكن من بحث مسائله وتحريرها بمهارة عالية؛ فيجتهد في بناء أصل علميّ له في ذلك العلم؛ يحسن كتابته بطريقة منظمة، ويداوم على مراجعته وتهذيبه والإضافة إليه، ليكون عُدّة له في ذلك العلم.
ولبناء الأصول العلمية أنواع وطرق عند أهل العلم في القديم والحديث؛ بسطت القول فيها بذكر أمثلتها وفوائدها في مواضع أخرى.
ومن فرّط في بناء أصل علميّ له في العلم الذي يطلبه أضاع علمه، وعرّضه للتفلّت والنسيان.
والمرحلة الثالثة: مرحلة النشر العلمي، ويراد به تحصيل ما يمكّنه من الإفادة من علمه؛ بالتدرّب على البحث والتأليف، والإفتاء والتدريس، وإلقاء الكلمات، وكتابة الرسائل، وغير ذلك من أنواع النشر العلمي التي ينبغي أن يعتني طالب العلم
بتحصيل أدواتها والتمهّر فيها ليُحسن الإفادة من علمه.

تنوّع مناهج طلب العلم
ومما ينبغي أن يُعلم أنّ الخطط المنهجية لطلب العلم كثيرةٌ متنوّعة؛ والمتكلّمون في هذا الباب بعلم وبغير علم كثير، وتحيّر الطالب بين مناهج الطلب مفسدة ظاهرة، فعليه أن يتحرّى – ما استطاع – 
أحسن المناهج وأنفعها، وأقربها إلى قدرته وإمكاناته حتى يمكنه أن يواصل الدراسة ويتمّها. 
والاختلاف بين المناهج الصحيحة في اختيار بعض الكتب على بعض، وترتيب بعضها، والتنوع في طرق الدراسة ووسائلها؛ كلّ ذلك مما يدخله الاجتهاد إن كان من قِبَل من عُرف بالعلم والأمانة والخبرة بطرق التعليم الشرعي.
وقد تقدّم بيان معالم المنهج الصحيح لطلب العلم، وذكرنا ركائز التحصيل العلمي، ومعالم العلوم، فإذا كان الطالب يسير على منهجٍ يراعي تلك الركائز والمعالم؛ فهو على منهج صحيح إن شاء الله؛ فليجتهد فيه وليعطِه حقّه من العناية والمواظبة حتى ينتفع به، وليبدأ بما يستطيع، ولا يكلف نفسه ما لا تطيق، ولا يجهدها بما يشقّ عليها، حتى لا يسأم من طلب العلم فيدعه، بل ينبغي له أن ينظم وقته بما يعينه على المداومة على طلب العلم، والترقي فيه، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وإذا أحبّ الله عملاً بارك لصاحبه فيه.

وأما من تذبذب بين طرق التعلّم، وأكثر التنقّل بين الكتب والشيوخ؛ فإنه يضيع كثيراً من وقته وجهده، وربّما انقطع عن طلب العلم، وهذا من أخطر الأدواء التي ابتلي بها كثير من طلاب العلم اليوم.
فينبغي لطالب العلم إذا سلك طريقة صحيحة في طلب العلم تحت إشراف علمي، أن يصبر عليها حتى يُتمّها، وينتفع بها.
والتفاضل بين مناهج الطلب له أسبابه ومعاييره، وربّ طريقة فاضلة لطالب تكون مفضولة لغيره، فالعبرة بما يكون أنفع للطالب، وأقرب إلى إتقان ما يدرس، ومن سلك طريقة مفضولة وصبر على مواصلة الدراسة فيها حتى ينتفع بها؛ فهو خير ممن يتردد بين طرق فاضلة لا يصبر عليها.

ومثل طالب العلم في طلبه كمَثَل من يريد السفر إلى مدينةٍ بينه وبينها مفاوز وطرق متعددة، ولا بدّ له من مرشد يُرشده:
1. فإذا وُفّق لمن يسلك به أحسن الطرق وآمنها وأيسرها وأقربها فهو أفضل له.
2. وإن سلك طريقاً صحيحاً آخر فيه صعوبة ومشقّة لكنّه يوصله إليها فهو سائر في الاتّجاه الصحيح وإن تأخّر.
3. وإن تذبذب بين الطرق أضاع وقته وجهده، ولم يتقدّم في سيره، ولا يمكن أن يصل إلى مطلوبه حتى يعاود سلوك طريق صحيح يصبر على مواصلة السير فيه.
4. وإن سلك طريقاً من غير مرشد يُرشده كان على خطر من غوائل الطريق، وانحراف مساره عن الغاية التي كان يريدها.

فتتشابه بدايات الطلاب لكنّهم يتفاوتون جداً بعد مدّة من السير في تلك الطرق؛ فمن سلك طريقاً صحيحاً مع مرشِدٍ يُرشده، ويبصّره بمراحل الطريق، ويحذّره من الغوائل والمخاطر، ويبيّن له علامات المدينة التي يريدها، ودلائل صحّة الطريق؛ فإنّه كلما واصل السير في ذلك الطريق ازداد بصيرة بصحّة مسلكه، حتى إذا رأى أعلام المدينة من بعيد تيقّن من صحّة منهجه، وأمكنه السير إليها وإن كان وحده.

فكذلك من يطلب العلم النافع إذا سار في طريقه تحت إشراف علمي حتى يعرف معالم العلم الذي يطلبه، ويعرف أبوابه ومسائله، وأئمّته ومصادره، ودرسه بتدرّج وإتقان؛ فإنه يسهل عليه بعد ذلك أن يسير في طلب ذلك العلم على بصيرة، ولا يصل طالب العلم إلى هذه المرحلة حتى يجتاز مرحلة المبتدئين، وتثبت قدمه في مرحلة المتوسّطين، ويقطع شوطاً حسناً في بناء أصله العلمي.

محاذير وتنبيهات:
وبما تقدّم من البيان عن معالم المنهج الصحيح لطلب العلم؛ يتبيّن للطالب اللبيب بعض الآفات التي حُرم بسببها بعض الطلاب من مواصلة الطلب والانتفاع بالعلم، ومنها:
1. ما يقدح في صحّة النية وصلاح القصد؛ من طلب العلم رياء أو سمعة أو لطلب العلوّ في الأرض، ومباهاة العلماء، ومماراة السفهاء، والتصدّر به في المجالس، ولفت أنظار الناس إليه، وغير ذلك من القوادح التي تقدح في قصد صاحبها؛ فإنّها سبب لحرمان طالب العلم من الانتفاع بعلمه.
2. العجلة في طلب العلم، ودراسة مسائله، واستعجال الثمرة قبل أوانها.
3. التذبذب في مناهج الطلب، والعشوائية في الدراسة والقراءة.
4. التوصيات الخاطئة من الطلاب المبتدئين، ومن لم يُعرف بالخبرة في مناهج الطلب.
5. الاستجابة للقواطع والشواغل عن طلب العلم.
6. التصدر قبل التأهّل؛ فإنّه يفضي بصاحبه إلى التعالم، ويشغله عن إحسان التحصيل العلمي.
7. تحميل النفس ما لا تطيق، فإنّ المنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع.
فهذا كله من أسباب الانقطاع عن طلب العلم على وجهه الصحيح، وحرمان بركة التعلم.

وصايا وإرشادات
أختم هذا الحديث عن بيان فضل طلب العلم، والتعريف ببعض الفصول المتعلّقة بطلب العلم بثلاث وصايا أسأل الله تعالى أن ينفع بها ويبارك فيها:
الوصيّة الأولى: الوصيّة بتقوى الله تعالى، ومن ذلك تقواه في طلب العلم؛ بأن يتعاهد الطالب نيّته ومقاصده، وعمله بما يتعلّم، ويتفكّر في أثر العلم على قلبه وجوارحه وسلوكه وأخلاقه.
والوصيّة الثانية: الصدق في طلب العلم، ونبذ العجز والتواني، والاجتهاد في إحسان التحصيل العلمي، ومن صدق صدقه الله.
والوصيّة الثالثة: أن يدرك طالب العلم حاجة نفسه إلى العلم، وحاجة أمّته إليه، حتى يحسن إعداد نفسه وتأهيلها بالتحصيل العلمي النافع؛ لينفع نفسه، وينفع أمّته؛ فإنّ حاجة الأمّة إلى العلم ماسّة، والجهاد بالعلم أعظم أنواع الجهاد؛ فلا يكن همّ الطالب قاصراً على ضبط ما يُلقى إليه من مسائل العلم أو ما يقرؤه في الكتب على أهميّته، بل ينبغي له أن يكون قائماً لله بهذا العلم كما أمر الله تعالى بقوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله} فيتعرّف في تعلّمه على ما يمكنه بذلُه للدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، والتعرف على الأبواب التي يحتاج الناس إلى فقهها فيوليها عناية أكبر ليدعو بها في مجتمعه ومجاله، وهذا يكون في كل مجتمع بحسبه.
وليعلم طالب العلم أن العمر سريع التقضّي، وأنفس ما في العمر سنّ الشباب، فمن أعدّ نفسه في شبابه إعداداً حسناً حمدَ العاقبة، وانتفع وارتفع، ومن فرّط وضيّع ندم حين لا تنفعه الندامة، وفي قصص المشمّرين والمقصّرين عِبَر وعِظَات، والسعيد من وُعظ بغيره، والطالب اللبيب لا ينظر إلى من يثبّطه، ولا يلتفت إلى ما يشغله عمّا فيه فوزه وفلاحه ورفعته، ولا يحفل بما يصيبه من الأذى والمشقّة المحتملة في طريق الطلب.
– قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هَلُمَّ فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير.
فقال: واعجباً لك يا ابن عباس!! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟!!
فتركَ ذلك، وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل؛ فأتوسّد ردائي على بابه؛ فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟! ألا أرسلت إلي فآتيك؟!!
فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث.
قال: فبقي الرجل حتى رآني، وقد اجتمع الناس عليَّ؛ فقال: كان هذا الفتى أعقلَ مني»
. رواه الدارمي.
– وكان -رضي الله عنه- 
يقول(إن كنتُ لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).
وهذا من شدّة نهمته في العلم، وتثبّته في طلب العلم.
– وقال الحسن بن علي رضي الله عنه لبنيه: «يا بَنيَّ إنكم اليوم صِغارُ قومٍ أَوشكَ أن تكونوا كِبارَ قَومٍ؛ فعليكم بالعلم؛ فمن لم يحفظ منكم فليكتبه». رواه الخطيب البغدادي في “تقييد العلم”.
– ووقف عمرو بن العاص رضي الله عنه على حلقة من قريش، فقال: «ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا وأوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إيَّاه؛ فإنهم صغار قوم، أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم، فأنتم اليوم كبار قوم» رواه الخطيب البغدادي في “شرف أصحاب الحديث”.

اللهمّ استعملنا في طاعتك، وأوزعنا شكر نعمتك، واتّباع رضوانك، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، واهدنا لأرشد أمورنا.
اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً تنفعنا به.
اللهم وأدخلنا في رحمة منك وفضل، واهدنا إليك صراطاً مستقيماً.
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
وصلى الله وسلم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

(المصدر: معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى