بقلم ا. د. أركان يوسف حالوب العزي
معالم الصناعة الفقهية في النهوض الحضاري
ورقة عمل مقدَّمة إلى المؤتمر العلميِّ السنويِّ
التنوُّع المذهبي والعِرْقي وإسهاماته الحضارية في المجتمع العراقي
20/ 4/ 2016
اللهمَّ إنَّا نحمدك على توفيقنا لحمدك، وتأهيلنا لفَهم خطابك، وانقيادنا إلى طاعتك، وهدايتنا بخاتم أنبيائك وسيد أصفيائك؛ محمد النبي عليه أفضل سلامك، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
فليس جديدًا اقترانُ لفظ الصناعة بالفقه تعبيرًا بها عن المَلَكَة العلمية التي يقتدر بها على التصرُّف المضبوط بالقواعد الشرعية وواقع الأمر المنظور، وقد ورد هذا الاقترانُ على لسان ابن خلدون[1] في مَعْرِض حديثه عن مراحل تطوُّر الفقه الإسلاميِّ بكثرة استنباط الأحكام الشرعيَّة من النصوص؛ لتعدُّد الوقائع وتلاحقها؛ فاحتاج ذلك لقانونٍ يحفظه من الخطأ، وصار العِلْم مَلَكَة يحتاج إلى التَّعلُّم، فأصبح من جملة الصَّنائع.
وارتضى ذلك السُّبكي وجعل الصناعة علمًا؛ فقال: “وقد يُطلَق العلم باصطلاح ثالثٍ على الصناعة… فيندرج فيه الظن واليقين، وكل ما يتعلَّق بنظرٍ في المعقولات لتحصيل مطلوبٍ يسمَّى علمًا ويسمَّى صناعةً”[2]، وتبعه في ذلك ابن أمير الحاج في أصوله.
والتعبير بالصناعة لقوَّة دلالتها على المَلَكَة الفقهيَّة مقارنةً بالتعبير عن تلك المَلَكَة بالعمل بقواعد الاستنباط، وقد قرَّر تلك الموازنة بينهما الإمام الرازيُّ في تفسيره؛ فقال ما نَصُّه: “والصُّنْعُ أَقْوى مِن العمل؛ لأنَّ العملَ إنَّما يُسَمَّى صناعَةً إذا صارَ مُسْتَقِرًّا راسِخًا مُتَمَكِّنًا”[3].
وقد أوضح المرداوي الحنبلي صفاتِ الفقيه وعبَّر عنها بأنَّها صناعة الفقه؛ فقال عن الفقيه هو مَن: “له قُدْرَة على استخراج أحكام الفقه من أدلَّتها… فتضمن ذلك أن يكون عنده سجيَّة وقُوَّة يقتدر بها على التصرُّف بالجمع والتفريق، والترتيب، والتصحيح والإفساد؛ فإنَّ ذلك ملاك صناعة الفِقْه”[4].
ومِن المقرَّر أنَّ المصنوعَ ينضبط بضوابطِ صانعِه، بحيث يمكنه التحكُّم في مساقه، فلا يتفلَّت على صاحبه ولا يجمح، فملكةُ الفقيه الراسخة تدور في فَلَك نصوص الكتاب والسنة، ولا تقف عند حدود ألفاظِهما، بل تتعدَّى إلى معانيهما؛ فتنتج الأحكام باستثارة معاني هذه الألفاظ؛ لتحكُمَ نصوصٌ متناهيةُ الألفاظ وقائعَ ونوازلَ تتعدَّد على مرِّ الزمان والمكان.
فالصناعة الفقهية اقتضت إيجادَ الحلول لكلِّ المشكلات الحياتية، وفي كل زمان ومكان، وإنَّ ضِيقَ الأُفق وعدم التصوُّر الصحيح لحقيقة الفقه الإسلاميِّ جعل الكثيرين يتصوَّرون أنَّ الإسلام دينٌ محصور في المناسك العبادية، وأنَّ الإسلامَ غير مَعْنِيٍّ بالحياة العامة، ولم يقف الفقه الإسلاميُّ أمام هذه الحياة المدنيَّة ومستجدَّاتها التي تُعَدُّ من مقوِّمات النهوض الحضاريِّ – عائقًا بالمنع مطلقًا، بل أَسْهَم في بيانِ ما به قوامُ تلك الحضارة فأباحه، ومَنَعَ كلَّ ما مِن شأنِه تقويضُها.
حتى عدَّ العلماء أنَّ من مقاصدِ الشريعة النظرَ في مآلات الأفعال وما يترتَّب عليها من مفاسدَ ومصالحَ، وقرَّروا: (أن المجتهد لا يَحْكُم على فعلٍ من الأفعال الصادرة عن المكلَّفين بالإقدام أو بالإِحْجَام، إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل)[5]، فلا يلتفت إلى القصد الحسن، مع وجود المآل الممنوع.
وكان من مقتضى صناعتهم الفقهية جَعْلُ الأحكام على نوعين: نوعٌ لا يتغيَّر عن حالةٍ واحدة هو عليها؛ كوجوب الواجباتِ، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدَّرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرَّق إليه تغييرٌ ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه، والنوع الثاني من الأحكام: ما يتغيَّر فيها بحسب اقتضاءِ المصلحة زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإنَّ الشرع ينوِّع فيها بحسب المصلحة، وهذا يدلُّ على مرونة الشريعة وسعتها.
جاء في شرح مجلة الأحكام: (إنَّ الأحكام التي تتغيَّر بتغيُّر الأزمان هي الأحكام المستندة على العُرْف والعادة؛ لأنه بتغيُّر الأزمان تتغيَّر احتياجاتُ الناس، وبناءً على هذا التغيُّر يتبدَّل أيضًا العرفُ والعادة، وبتغيُّر العُرْف والعادة تتغيَّر الأحكام)، وقد نقل الزركشيُّ عن العزِّ بن عبدالسلام أنه قال: “يَحْدُث للناس في كلِّ زمانٍ من الأحكام ما يناسبهم”.
وإنَّ العوائد التي لم تصادم نصًّا لو لم تُعتَبر، لأدَّى إلى تكليفِ ما لا يُطاق، وإيقاعٍ للناس في الحَرَج، وكلاهما مدفوعٌ بنصوص الشريعة الإسلامية؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].
ورفع الحرج، وإخراج الناس من الضيق إلى السَّعة: مَعْلَمٌ مِن مَعَالم الصناعة الفقهية التي اقتضتها تلك النصوص، وقد دفعتهم هذه الصناعةُ الفقهيةُ المتزنة إلى القول بجَواز ما أطلقوا عليه: (خلاف القياس)، أو: (خلاف الأصول المقرَّرة).
وتظهر مخالفة القياس في كثير من العقود التي شُرِعت لمصالح العباد ودَفْعِ حوائجِهم، ومِن ذلك عَقْد الإجارة؛ فإنَّه جُوِّز على خلاف القياس، والقياس في المضاربة عدم الجواز؛ لأنَّها استئجار بأجرٍ مجهول، بل بأجرٍ معدوم ولعمل مجهول، لكن تُرك القياس؛ لأنَّ الناس يحتاجون إلى عَقْد المضاربة؛ لأنَّ الإنسان قد يكون له مال، لكنَّه لا يهتدي إلى التجارة، وقد يهتدي إلى التجارة لكن لا مال له، فكان في شرع هذا العَقْد دفعُ الحاجتين.
وفي قواعد الأحكام للعزِّ بن عبدالسلام: “اعلم أنَّ الله تعالى شرع لعباده السَّعْيَ في تحصيل مصالحَ عاجلةٍ وآجلةٍ، تجمع كل قاعدة منها علَّة واحدة، ثمَّ استثنى منها ما في ملابسته مشقَّةٌ شديدة، أو مَفْسدة تربو على المصلحة، وكذلك شرع لهم السَّعْي في درء مفاسدَ في الدارين أو في إحداهما تجمع كل قاعدةٍ منها علَّة واحدة، ثمَّ استثنى منها ما في اجتنابه مشقَّة شديدةٌ، أو مصلحة تربو على المفسدة، وكلُّ ذلك رحمة بعباده”، ويعبِّر عن ذلك كلِّه بما خالف القياس.
ورعاية المصلحة، وتحصيلها، والمحافظة عليها: مَقصَدٌ عظيم في الشريعة الإسلامية، وقد استقرَّ بالتواتر واستقراء كليَّات الشريعة وجزئيَّاتها هذا الأصلُ العظيم، الذي تندرج تحته كلُّ أحكام الشريعة وتفصيلاتها، فما مِن حُكْم شرعيٍّ؛ أمرٍ أو نهي، عبادةٍ أو معاملة، إلا فيه تـحقيقُ مصالح العباد في العاجل والآجل، والشريعة كلُّها مصالح: إمَّا تدرأ مفاسد، أو تجلب مصالح.
ومن أبرز الأمثلة التي يضربها الأصوليُّون للعمل بالمصالح المرسَلة: عمل الصحابة تلك الترتيبات والأنظمة الإدارية التي أحدثوها بعد اتِّساع البلاد واستقرار الدولة؛ لتنظيم شؤون الحياة وفق ما يتطلَّبه الواقع آنذاك.
• فأنشؤوا الدَّواوين: ديوان للجند الذي يختصُّ بشؤون الجُنْد وحصرهم، وأماكن غزوهم، ومدد خروجهم، وابتعاثهم فيها، وآخر للعطاء وغيرهما، وهي تقابل الوزارات في الدولة المعاصرة.
• واتِّخاذ السجن: وتخصيصه بمكان وحَرَس.
• وإنشاء بيت المال: يتولَّى حفظ مال الدولة وصرفه في وجوهه، وموارده: الزكاة، والغنائم والفيء، وجزية أهلِ الذِّمَّة، ومال مَن لا وارث له، ومصارفه: حاجات المسلمين على تفاوت فئاتهم، فقراء ومساكين وأبناء سبيل ونحوهم، وعامة المسلمين المشمولين بالعطاء.
إن تتبُّع أحكام الفقه الإسلامي يُظهر جليًّا أنه فقه حضاريٌّ؛ فهو إلى جانب عنايته ببيان الأمور العبادية، يُعنى أيضًا بعمران الحياة المدنيَّة؛ فالعمران المدني يشمل المؤسساتِ الحيوية التي يحتاج إليها الإنسان لقضاء حوائجه المختلفة، بل يتسع مفهومُ العمران فيشمل البيئةَ وضرورة الحفاظ عليها وصونها؛ باعتبارها وعاء النعم، ومهدَ الخيراتِ المسخَّرة لصالح الإنسان، قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية: 13].
والتعبير بـ “ما” في الآية الكريمة يدلُّ على أن علاقة التسخير عامةٌ لجميع الكائنات التي تحويها البيئة بما في ذلك الحيوان، والنبات، والأرض بثرواتها الباطنية.
فحفاظًا على البيئة نَهَت الشريعة الإسلامية عن قضاء الحاجة في الأماكن العامَّة؛ لما يؤدِّي إليه من تلوُّثٍ في البيئة، وإيذاء للناس.
وعن قتل الحيوان لغير مَأْكَلَةٍ.
هذا في جانب السلب.
وفي جانب الإيجاب حثَّ على زراعة الأرض والحفاظ على الأشجار، وقد ورد في الحديث: ((مَن قَطَع سدرة في فلاةٍ يستظلُّ بها ابنُ السبيل والبهائم عبثًا وظلمًا بغير حقٍّ يكون له فيها، صوَّب الله رأسه في النار)).
وهذا جهد المقل في بيان معالم الصناعة الفقهية في النهوض الحضاريِّ، فلا يتسع المقام لتَعْدَادِها واستقرائها، والقصد في الإشارة إلى شيءٍ منها؛ لعلَّ الله يوفِّق مَن يشاء لاستقصائها وبيانها.
أسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم، فما كان منه صوابًا فذلك فضلُ الله ومنته، وما كان فيه من زللٍ فمِن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله منه، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد الرحمة المهداة، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تاريخ ابن خلدون (1/ 39).
[2] الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 30).
[3] التفسير الكبير (12/ 393).
[4] التحبير شرح التحرير (8/ 3870).
[5] الموافقات؛ للشاطبي.
(المصدر: شبكة الألوكة)