معالم السياسة الخارجية في دولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
بقلم د. علي الصلابي (خاص بالمنتدى)
رسمت خلافة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ أهدافاً في السِّياسة الخارجيَّة للدَّولة الإِسلاميَّة، والتي كان من أهمها:
1ـ بذر هيبة الدَّولة في نفوس الأمم الأخرى:
فقد حقَّقت سياسة الصِّدِّيق هذا الهدف بطرقٍ عديدةٍ، منها:
(أ) وصول أخبار الانتصارات الَّتي أيَّد الله بها الأمَّة المسلمة في حروب الردَّة، ممَّا ساعد على وأد هذه الفتنة، وتثبيت أركان الدَّولة، ومثل هذه الأخبار تصل إِلى الدُّول المجاورة، وبخاصةٍ إِذا كانت تُتابع أنباء الدَّولة الإِسلاميَّة، وترقب حركتها، وترى فيها خطراً جديداً يهدِّدها، وللفرس، والرُّوم في ذلك الوقت قدرةٌ على معرفة الحوادث والأمور، فلمَّا وصلت أنباء المرتدِّين، وثبات النَّاس على الدِّين أدركت الدَّولتان: أنَّ بنيان هذه الأمَّة الجديدة يستعصي على المؤامرات، ويتجاوز المحن والابتلاءات، وهذا له وَقْعُهُ في نشر هيبة دولة الإِسلام .
(ب) جيش أسامة: ظهر لجيش أسامة الَّذي أنفذه الصِّدِّيق أثرٌ بالغٌ في نشر هيبة الدَّولة الإِسلاميَّة، وقد جعل الرُّوم يتساءلون عن الجيش الَّذي حاربهم، وعاد منتصراً إِلى عاصمة دولته، فامتلأت قلوبهم فزعاً، حتَّى حشد هرقل عشرات الألوف من جيشه على الحدود، فقد نُقِلت تلك الأخبار إِلى بلاد كسرى، وتناقلها النَّاس ممَّا كان له الأثر في نشر هيبة المسلمين في قلوب هذه الدُّول. (تاريخ الدَّعوة إِلى الإِسلام، ص(259، 260).
2ـ مواصلة الجهاد الَّذي أمر به النَّبيُّ(ﷺ):
قام الصِّدِّيق بمواصلة الجهاد لتأمين الدَّعوة، ووصولها للنَّاس، فجهَّز الجيوش، وندب النَّاس للخروج إِلى الجهاد في سبيل الله، لنشر دعوة الحقِّ، وإِزاحة الطَّواغيت الَّذين رفضوا دعوة النَّبيِّ(ص) لهم بالإِسلام، وصمَّموا على حجب نور الحقِّ عن شعوبهم، وقد خرج النَّاس يلبُّون هذه الدَّعوة الحبيبة إِلى النُّفوس تحت لواء قادة أصحاب بلاءٍ، وجهادٍ في سبيل الله، أمثال خالدٍ، وأبي عبيدة، وعمرٍو، وشرحبيل، ويزيد ـ رضي الله عنهم ـ اختارهم خليفةٌ محنَّكٌ، مجرِّبٌ، ذو ملكة عسكريَّة عجيبة، صقلتها الظُّروف الَّتي أحاطت به، والأزمات الخطيرة الَّتي أحدقت بأمَّته، ممَّا دفعه إِلى العناية بهذه النَّاحية، فاختار القوَّاد أحسن اختيار، وأمدَّهم بتوجيهاته، وإِرشاداته، ففتحوا الشَّام، والعراق في أقصر وقتٍ ممكنٍ وبأقلِّ كلفةٍ متاحةٍ. (تاريخ الدَّعوة إِلى الإِسلام، ص260)
3ـ العدل بين الأمم المفتوحة والرِّفق بأهلها:
كانت السياسة الخارجيَّة للصِّدِّيق قائمةً على بسط لواء العدل على الدِّيار المفتوحة، ونشر الأمن، والطُّمأنينة بين أهلها، حتَّى يحسَّ النَّاس بالفرق بين دولة الحقِّ، ودولة الباطل، وحتَّى لا يظنَّ النَّاس: أنَّه قد ذهب جبارٌ ظالمٌ ليحلَّ مكانه من هو أشدُّ منه، أو مثله في ظلمه، وجبروته، ووصَّى أبو بكر قوَّاده بالرَّحمة، والعدل، والإِحسان إِلى النَّاس، فإِنَّ المغلوب يحتاج إِلى الرأفة، وتجنُّب ما يثير فيه حميَّة القتال، وحافظ المسلمون الفاتحون على الإِنسان، والعمران، فشاهدت الشُّعوب المفتوحة خُلُقاً جديداً في ذوقٍ رفيعٍ، وإِنسانيَّةٍ صادقةٍ، فقام ميزان الشَّريعة بين الأمم المغلوبة بالقسط، وانتشر نور الإِسلام، فأخذ بعدله مجامع القلوب فسارعت الشُّعوب إِلى اعتناق هذا الدِّين، والانضواء تحت لوائه، وكان جند الأعاجم من الفرس، أو الرُّوم إِذا وطئوا أرضاً؛ دنَّسوها، ونشروا فيها الرُّعب، والفزع، وانتهكوا الحرمات، ممَّا قاسى منه النَّاس الويل، والثُّبور، وتناقلت الأجيال قصصه المرعبة والمفزعة جيلاً بعد جيلٍ، وقبيلاً إِثر قبيل، فلمَّا جاء الإِسلام، ودخل جنده هذه الدِّيار، فإِذا بالنَّاس يجدون العدل يبسط رداءه فوق رؤوسهم، ويعيد إِليهم ادميَّتهم الَّتي انتزعها الظُّلم والطُّغيان، وقد حرص الصِّدِّيق على هذه السِّياسة حرصاً عظيماً، وكان يقوِّم أيَّ عوجٍ يظهر، أو خطأ يقع.
روى البيهقيُّ: أنَّ الأعاجم كانوا إِذا انتصروا على عدوٍّ استباحوا كلَّ شيءٍ من ملكٍ، أو أميرٍ، وكانوا يحملون رؤوس البشر إِلى ملوكهم كبشائر للنَّصر، وإِعلانٍ للفخر، فرأى أمراء المسلمين في حروب الرُّوم أن يعاملوهم بنفس معاملتهم، فبعث عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة برأس(بنان) أحد بطارقة الشَّام إِلى أبي بكرٍ مع عُقبة بن عامر، فلما قدم عليه؛ أنكر ذلك، فقال له عقبة: يا خليفة رسول الله! إِنهم يصنعون ذلك بنا، فقال: أفَـنَسْتَنُّ بفارس، والرُّوم؟ لا يُحمل إِليَّ رأسٌ إِنَّما يكفي الكتاب، والخبر. (تاريخ الخلفاء للسُّيوطي، ص123)
4ـ رفع الإِكراه عن الأمم المفتوحة:
من معالم السِّياسة الخارجيَّة عند الصِّدِّيق رضي الله عنه رفع الإِكراه عن الأمم المفتوحة، فلم يُكْرَهْ أحدٌ من الأمم أو الشُّعوب على دينه بالقوَّة، وهو في هذا ينطلق من قول الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ *} [يونس: 99]. والمسلمون أرادوا من الفتوحات إِزالة الطُّغاة، وفتح الأبواب أمام الشُّعوب؛ لترى نور الإِسلام، أما وقد أزيل كابوس الظُّلم عن النَّاس؛ فليتركوا أحراراً، ولا يكرهوا على شيءٍ طالما حافظوا على عهدهم مع المسلمين، والَّذي كان يشمل في بنوده:
(أ) أن يؤدُّوا الجزية عن يدٍ، وهم صاغرون.
(ب) ألا يكون لهم مكانٌ في بعض الوظائف كالجيش.
(ج) ألا يُكَوِّنوا جهةً معاديةً للإِسلام في شعائره، أو عباداته، أو شريعته.
(د) إِذا غيَّر أحدهم دينه السَّابق؛ فلا يُقبل منه إِلا الإِسلام.
وتقوم دولة الإِسلام بتفسير الإِسلام لهم عمليّاً، ونظريّاً، بحيث يؤدِّي ذلك إِلى اقتناعهم بهذا الدِّين؛ ليدخلوا فيه عن رغبةٍ، فإِنَّ العقائد لا تستقرُّ بالإِكراه.
ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “أبو بكر الصديق”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من مادته من كتاب: “تاريخ الدعوة إلى الإسلام”، للدكتور يسري هاني.
المراجع:
- تاريخ الدَّعوة إِلى الإِسلام في عهد الخلفاء الرَّاشدين، د. يسري محمَّد هاني، الطَّبعة الأولى 1418هـ جامعة أمِّ القرى، معهد البحوث العلميَّة، وإِحياء التراث.
- تاريخ الخلفاء للإِمام جلال الدِّين السُّيوطي، عُني بتحقيقه إِبراهيم صالح، دار صادر، بيروت، الطَّبعة الأولى 1417هـ 1997م.
- الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2003م.