بقلم د. أكرم كساب / عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – مستشار التدريب بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
تذكر كتب التاريخ والسير وكذلك الحديث أنه لم يجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم – ولا أحد قبله في جزيرة العرب- عدد مثل الذي اجتمع له في حجة الوداع ؛ مائة ألف أو يزيدون، وقد استغل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجمع ليعلمه مبادئ الإسلام، بل كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على ذلك، وكلما عنّ له شيء أمر واحداً من أصحابه أن ينصت له الناس، ليسمع الحاضر، ويتعلم الشاهد، فهو القائل لبلال: ” أسكت الناس” رواه ابن ماجه. وهو الآمر جرير بن عبد الله: ” استنصت لي الناس “. وقد أثر عنه صلى الله عليه وسلم أربع خطب في حجته، في يوم 7، 9، 10، 12 من ذي الحجة، ومن خلال هذه الخطب الأربع نستطيع أن نستخلص معالم دولة الإسلام التي تنغص على الكثير مضاجعهم:
1- الحاكمية لله: إذ الله هو المشرع ابتدأ، فلا حكم إلا له، ورسوله صلى الله عليه وسلم مبلغ عنه، مبين بسنته ما أشكل على الناس، وذاكر لهم ما تركه القرآن له من جديد أحكام، لذا كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد كل بلاغ: “وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رواه مسلم. ولأن النبي له سلطة التشريع، ليس بعتبار أنه حاكم، ولكن باعتبار أنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، ومن ثم فله من الحاكمية والتشريع بقدر ما خوله الله تعالى لذا كان يقول: :”خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ ” رواه النسائي.
2- القرآن هو الدستور: وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك قبل الحج مرارا، لكنه أعاد الأمر في الحج فقال: ” وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ” رواه مسلم.
3- الإسلام هوية الأمة: فالأمة ليست شبيهة بغيرها من الأمم، ولا عالة على أمة أخرى، وإنما لها هويتها الواضحة، وصورتها المميزة، وقد كان التأريخ القمري –الهجري بعد ذلك- نموذجا، وفي الحج أعلن النبي صلى الله ليه وسلم ذلك فقال: ” إن الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ” رواه البخاري ومسلم.
4- الأمة مصدر السلطات: فهي التي تختار حاكمها، تعينه إذا أصاب، وتقومه إذا اخطأ، وتعزله إذا انحرف، لذا لم يفرض النبي صلى الله عليه وسلم عليهم حاكما بعينه، بل كان يودعهم قائلا:” لِعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا” رواه النسائي.
5- وجود الحاكم ضرورة، وطاعته مطلوبة، ومناصحته فريضة: فلا وجود لأمة بغير حاكم يأمر فيطاع، ويكلف فيسمع له، لذا قال صلى الله عليه وفي حجة الوداع: ” اعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ “رواه أحمد. وأكد صلى الله عليه وسلم على مناصحتهم فقال: “وَاعْلَمُوا أَنَّ الْقُلُوبَ لاَ تَغِلُّ عَلَى ثَلاَثٍ: إِخْلاَصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الأَمْرِ، وَعَلَى لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ. رواه الدرمي.
6- للإسلام نظام اقتصادي واضح المعالم: ولأن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة كلها، فقد حرص النبي على إلقاء الضوء على عصب النظام الإسلامي، والقائم على بغض الربا، لذا قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ” كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ اللهَ قَضَى أَنَّ أَوَّلَ رِبًا يُوضَعُ، رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ، لَا تَظْلِمُونَ، وَلَا تُظْلَمُونَ” رواه أحمد.
7- المرأة شقيقة الرجل لا تظلم ولا تهان: لا يفضلها إلا بعمله، ولضعفها كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على الوصية بها، لذا قال في حجة وداعه:” فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ، لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقًّا” رواه أحمد.
8- للمواطن حقوق تصان: نعم المواطن كل المواطن، لا اعتداء على ماله، ولا تطاول على عرضه، ولا استهانة بدمه، وقد اكد النبي في حجة الوداع على ذلك بصيغ مختلفة، وأساليب متعددة، ومن ذلك قوله: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ” فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -وَأَعْرَاضَكُمْ- حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا” رواه مسلم.
9- لا عودة للأنظمة الجاهلية: فلا قتل ولا تحريش، وإنما أخوة صادقة، ويد واحدة، لذا حذر صلى الله عليه وسلم من الفرقة فقال: ” أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَكُمْ” رواه أحمد.
10- تحقيق مبادئ الشورى والعدل والمساوة: تلك هي مبادئ الحكم الرشيد، والتي يسعى إليها كل العقلاء، لذا كان النبي يؤكد على تلك مبادئ، ولا أروع من قوله حين صرخ في الناس:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى” رواه أحمد.
وأخيرا: فإن السياسة لا تنفك عن الدين فهي جزء منه، لا يكمل إيمان العبد إلا بمعايشة السياسة.
وهل مطالعة أحوال الأمة إلا سياسة؟
وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا سياسة؟
وهل النصيحة للرعية والحكام إلا سياسة؟
لقد رأينا السياسة والاقتصاد والاعلام والتربية والأسرة والقضاء…. كل ذلك وغيره حاضرا في كلامه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع….. ويوم أن تبتعد السياسة عن الدين فلخلل في الفهم، يؤدي إلى جرائم في التطبيق، وهذا ما نراه الآن في عالمنا العربي والإسلامي إلا من رحم ربك…
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.