معارك الجبال الشاهقة.. كيف فتح المسلمون أذربيجان؟
إعداد محمد شعبان أيوب
“بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، أهل أذربيجان -سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها- كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبي ولا امرأة ولا زمن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوما وليلة ودلالته…”
(أمان الخليفة عمر بن الخطاب لأهل أذربيجان بعد الفتح)
حين خرجت الفتوحات الإسلامية من الجزيرة العربية، وبعد استقرار الأوضاع بها في العصر النبوي، كان الانطلاق في عصر الخلفاء الراشدين صوب الشام والعراق، ومنهما كان الاتجاه صوب آسيا وشمال أفريقيا فضلا عن بلاد الأناضول، أمرا ضروريا ولازما لخدمة نشر الدين، والحفاظ على المكتسبات التي تحققت على أرض الواقع.
غير أنه كانت هناك عوامل أساسية جعلت من الفتح الإسلامي لأذربيجان أكثر أهمية وحتمية من غيرها من بعض الأقاليم الأخرى، فبالإضافة إلى نشر الإسلام وتوسيع رقعته والمحافظة على حدود الدولة الإسلامية الوليدة، كانت منطقة آسيا الوسطى والقوقاز هي الامتداد الطبيعي والعمق الجغرافي للتمدد الإسلامي.
لكن ما العوامل الأخرى الحقيقية التي دفعت الفتوحات الإسلامية المبكرة في عصر الخليفة عمر بن الخطاب بالاتجاه صوب أذربيجان قبل فتوحات المغرب والأندلس بنصف قرن؟ هل كانت الرغبة في نشر الإسلام فقط هي الدافع للمسلمين؟ أم كان لأذربيجان وأقاليمها خصوصية أخرى حفزت هذه الرغبة في الفتوحات؟ وما آثار الفتح الإسلامي والعربي في أقاليم أذربيجان الباقية حتى يومنا هذا؟
معركة نهاوند بالتحديد، والتي كسرت القوة الفارسية، قد فتحت الطريق للقضاء على قوة أتباعهم من الأرمن والأذر
كانت أقاليم ومناطق أذربيجان وأرمينية من جملة البلدان التي خطط المسلمون للدخول إليها، لا سيما بعد فتوحات العراق وفارس الناجحة في البويب والجسر والسقاطية وأعظمها القادسية ثم نهاوند على يد الصحابة خالد بن الوليد وأبو عبيد الثقفي والمثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهم-، وتمكّنهم من بناء القواعد الحضرية والعسكرية فيها مثل الكوفة والبصرة وغيرها[1].
وكانت أذربيجان حينذاك أشمل وأوسع من جمهورية أذربيجان الحالية، فقد كانت إقليما واسعا يضم اليوم محافظات أذربيجان في شمال إيران وجمهورية أذربيجان وجمهورية أرمينية ومناطق أقصى شرق تركيا حتى بحيرة فان، وتمتاز هذه المناطق بالجبال المرتفعة، والطقس الشتوي غزير الأمطار والثلوج، فضلا عن كثرة الأنهار، وأهمها نهر الرس ونهر الكُر وبحيرة أرومية[2].
وقد عرف المسلمون أن هذه المناطق الشاسعة كانت إحدى قلاع الديانة الزرادشتية الرئيسة ومراكزها، بل كان بها مسقط رأس زرادشت، وكانت تحوي عددا كبيرا من معابد الفرس المقدسة، مما جعلها مأوى لمعظم الفرس والأذر والأرمن الفارين من وجه الجيوش الإسلامية بعد هزائمهم في العراق وفارس[3]، ومن هنا أصبحت فوق مكانتها الدينية مركزا لمأوى الهاربين الذين قد يُشكّلون خطورة لإعادة الكرّة وتجديد المواجهة الباغتة أو الخاطفة مع قوات المسلمين المتمركزة في الجنوب.
والحق أن المسلمين قد تفاجأوا في معارك العراق باشتراك الأرمن والأذريين في معركة خطيرة مثل القادسية 15هـ/636م بأعداد كبيرة داعمين للفرس بكل قوة، وكذلك في معركة اليرموك في العام نفسه على الجبهة الشامية داعمين للبيزنطيين، وأيضا في معركة نهاوند في بلاد فارس سنة 21هـ/641م، وبالرغم من هذه المحاولات المستميتة من الأرمن والأذر للانضمام إلى الفرس تارة والبيزنطيين الروم تارة أخرى، وتدعيم جبهتيهما ضد الفتح الإسلامي وقواته، فإن معركة نهاوند بالتحديد، والتي كسرت القوة الفارسية، قد فتحت الطريق للقضاء على قوة أتباعهم من الأرمن والأذر.
ومن هنا، وحين رأى حاكم أذربيجان إسفنديار قدوم قوات المسلمين إليه، شرع على الفور في لملمة صفوف جنوده بأعداد كبيرة، وقد حاول قطع الطريق على قوات المسلمين المتقدمة بقيادة نعيم بن مقرن، والتقى الجانبان في مكان يُسمى واج روذ، وهي منطقة سهلية تقع بين همذان والدينور، وكانت خطة زعيم الأذريين أن يكمن للمسلمين في الطريق ويأخذهم على حين غرة مستغلا عامل المفاجأة.
لكن القائد نعيم بن مقرن عرف بالمخطط مبكرا من خلال مخابراته وعيونه، ولم يشأ أن يُضيّع وقتا في مدينة همذان، قال المؤرخ الطبري: “وخرج إليهم في الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وكانت وقعة عظيمة تعدِل نهاوند، ولم تكن دونها، وقُتل من القوم مقتلة عظيمة لا يُحصون ولا تقصر ملحمتهم من الملاحم الكبار، وقد كانوا كتبوا إلى عمر باجتماعهم، ففزع منها عمر، واهتم بحربها، وتوقّع ما يأتيه عنهم، فلم يفجَأه إلا البريد بالبشارة، فقال: أبشير! فقال: بل عروة، فلما ثنى عليه: أبشير؟ فطن، فقال: بشير، فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر؟ قال: البُشرى بالفتح والنصر، وأخبره الخبر، فحمد اللَّه، وأمر بالكتاب فقُرئ على الناس، فحمدوا اللَّه”[4].
كانت هذه المعركة مثل معركة نهاوند العظيمة التي فتحت من بعدها بلاد فارس أبوابها للمسلمين لاستكمال فتوحاتهم التي وصلت إلى آسيا وأفغانستان وبلاد ما وراء النهر، وكذلك كانت هذه المعركة قد فتحت الطريق أمام المسلمين صوب الشمال.
فتح أذربيجان
وبعد هذا الانتصار الذي تحقق في واج روذ وضع المسلمون خُطة لتطويق أقاليم أذربيجان عبر جبهتين حتى تكون هذه المناطق القاسية والشاسعة بين فكي كماشة، فانطلق إليها جيشان من المسلمين: الأول بقيادة بكير بن عبد الله عبر جنوب أذربيجان، وفي تلك المناطق قاتل بكير وقواته جيوب المقاومة الفارسية، وكانت مقاومة شرسة وعنيفة استطاع فيها هزيمتهم، بيد أنه احتاج إلى الإمدادات الكافية، ليقرر الاتجاه بعدها صوبَ أردبيل عاصمة أذربيجان حينذاك.
أما الجيش الثاني فكان قادما من الجبهة الشامية بقيادة عتبة بن فرقد، وهو صحابي جليل، واستطاع عتبة وجيشه التوغل في القرى والمدن الجنوبية الغربية لأذربيجان، وهزيمة جيش أذري بقيادة بهرام بن الفرخزاد أخو زعيم الأذر إسفنديار، وكان المسلمون قد أسروه من قبل في معركة واج روذ، وقد استطاع عتبة دحر هذه الجموع الأذرية وردها على أعقابها، وواصل مسيره نحو العاصمة أردبيل[5].
وبالفعل، التقى الجيشان الإسلامي والأذري قُرب أردبيل ووقعت فيها معركة شرسة، سُلمت فيها القيادة العامة إلى الصحابي عُتبة بن فرقد، واستطاعت قوات المسلمين الانتصار ودخول أردبيل، وأطلقوا سراح مرزبان أذربيجان، وكان أحد كبار الزعماء الذين سجنهم إسفنديار، وعقدوا معه اتفاق صلح على الطاعة والجزية والأمان، وكان مما جاء في نص الأمان لأهل أذربيجان، وهي الوثيقة التي لا تزال محفوظة في متحف التاريخ في مدينة باكو عاصمة أذربيجان:
“بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، أهل أذربيجان -سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها- كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبي ولا امرأة ولا زمن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوما وليلة ودلالته…”[6]
راحت قوات المسلمين تتوغل في مناطق أذربيجان الأخرى، فاستغل مرزبان هذا التفرق للقوات الإسلامية، فأعلن التمرد والعصيان المسلح، ووصلت هذه الأخبار إلى الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في المدينة المنورة، وكان شديد الحرص على متابعة أدق تفاصيل الفتوحات على الجبهات كافة، فأمر على الفور عامله على الكوفة الصحابي المغيرة بن شعبة بسرعة إرسال حذيفة بن اليمان على رأس جيش لسحق تمرد الأذر قبل استفحاله، وقد نجح حذيفة بالفعل حين فرض على أردبيل حصارا خانقا اضطرها إلى التسليم مقابل دفع الجزية السنوية[7].
كانت الخطوة التالية بعد إعادة السيطرة على أردبيل تتمثّل في تأمين الوجود الإسلامي في كامل منطقة أذربيجان وأرمينية، وكانت هذه المهمة تقع على عاتق الصحابي سُراقة بن عمرو وقد خرجت معه قوة من القوات الإسلامية من العراق بقيادة عبد الرحمن بن ربيعة، واستطاعت هذه القوات السيطرة على عدد من المدن والقرى الأذرية، كما واستولت على الممرات الجبلية المحيطة بأردبيل، ثم قصدت مدينة باب الأبواب إحدى المدن الرئيسية التي تسيطر على الطريق المؤدي إلى أردبيل في دولة داغستان بالقوقاز اليوم، فخرج حاكمها شهربراز طالبا الأمان، ومقدما العون للمسلمين، معضدا لهم في حروب ضد الخزر والقوقازيين، وعرف المسلمون له صنيعه وأعفوه من الجزية وذلك في شهور سنة 22هـ/642م.
كان استقرار المسلمين ونجاحهم في فتح أذربيجان قد تسبب في حنق الأرمن والخزر وسكان القوقاز، والحق فإن القوات الإسلامية طوال عصر عمر بن الخطاب ومن بعده عثمان بن عفان -رضي الله عنهما- لم تنقطع عن مهاجمة هذه المناطق، والتوغل فيها بغية الفتح، وكانت أشهر الحملات في بدايات عصر عثمان بقيادة سلمان بن ربيعة، لذا تحالف الأرمن والخزر والقوقاز والبيزنطيون على مهاجمة المسلمين في أذربيجان، وتجمعت قواتهم في مدينة شميشاط الأرمنية غرب أذربيجان[8].
كان والي الكوفة الوليد بن عقبة بن معيط بمنزلة المسؤول الأول والوالي عن مناطق العراق وإيران وأذربيجان المفتوحة، فطلب من قائده مَسلمة بن حبيب أن يخرج لمواجهة هذا التحالف البيزنطي الأرمني القوقازي الخزري، الذي يُمثّل تهديدا خطيرا، وقد أمدّه بستة آلاف مقاتل، وبالفعل خرج مسلمة بن حبيب، واستطاع إخضاع أهم المدن في طريقه مثل تفليس “تبليس” العاصمة الأهم والأكبر في تاريخ أذربيجان بعد ذلك، ثم خلاط أو أخلاط التي تقع في أقصى الشرق التركي اليوم، وقد أصدر الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قرارا بتعيين الأشعث بن قيس الكندي واليا على أذربيجان[9].
حين آلت الخلافة إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- (35-40هـ/656-661م) أقر ولاية الأشعث بن قيس الكندي على أذربيجان، وكان واحدا من أنشط الولاة في نشر الإسلام والدعوة إليه في ذلك البلد، فصارت أذربيجان في فترة ولايته بلدا إسلاميا خالصا، انتشر فيها تعليم القرآن الكريم والعربية والعلوم الإسلامية الأخرى، وفوق ذلك استقدم الأشعثُ العربَ وأسكنهم في أردبيل عاصمة أذربيجان، وقُبيل انتهاء ولايته نزح عدد كبير من عرب البصرة والكوفة إلى أذربيجان واستقروا بها، وكان انتشارهم في نواحٍ عدة منها، فابتاعوا الأرض، واستصلحوها، والتجأت إليهم قرى الأذر للخفارة والحماية[10].
تلك قصة الفتح الإسلامي الذي استمر عقدين من الزمن لأذربيجان وأرمينية، وحتى يومنا هذا لا تزال كثير من مناطق أذربيجان تحمل أسماء عربية مثل قُرى: عرب، وعرب قديم، وعرب شالباش، فضلا عن تسع مناطق أخرى كلها عربية، مثل منطقة صداباد، وقرية عرب بال أوغلاني، وغيرها، وحين استقر الإسلام في تلك المناطق شرع الأمويون بعد عصر الخلفاء الراشدين في إعمار أذربيجان، ولا يزال الجامع الأموي في منطقة شماحي وجامع الجمعة بها شاهدين على هذا الوجود الإسلامي الموغل في القدم في منطقة أذربيجان الواسعة[11]، وهي المنطقة التي تضم اليوم كلًّا من أقصى مناطق شمال غرب إيران وجمهورية أذربيجان وأقصى الشرق التركي.
(المصدر: ميدان الجزيرة)