مظاهر الإصلاح الاقتصادي والإنفاق في عهد صلاح الدين الأيوبي
بقلم د. علي محمد الصلابي
كانت الدولة في عهد صلاح الدين تعيش في سعةٍ من الرزق، وبحبوحة من العيش، وذلك لأنَّ مواردها كثيرةٌ، ومنابع الأرزاق فيها متنوعةٌ، ويمكن أن نحصر هذه الموارد:
*وضع يده على كنوز الفاطميين الكثيرة بعد أن أصبحت مصر تحت سلطانه.
* موارد الجزية التي كانت تأتيه من غير المسلمين.
* موارد للفدية التي كانت تصله من الأسرى.
*موارد الغنائم التي كان يحصل عليها أثناء الحروب.
*موارد الخراج الذي كان يؤخذ من أصحاب الأراضي؛ التي فتحت صلحاً، إلى غير ذلك من هذه الموارد المشروعة، ومنابع الثروة المسنونة، ولم يكن صلاح الدين من السَّلاطين؛ الذين ينفقون الأموال في غير وجهها، ويضعونها في غير موضعها، وإنما كان ينفقها في سبيل الله، وإقامة الحصون، وتشييد القلاع، والإصلاح العمراني، وفي كلِّ ما يعود على الدَّولة بالنفع. (صلاح الدين الأيوبي، عبد الله علوان، ص175)
أولاً: اهتمامه بالزِّراعة والتجارة:
لأجل أن يجنِّب صلاح الدين البلاد ويلات المجاعات؛ التي تسببها الحروب اعتنى بالزراعة، ووسائل الري اعتناءً بالغاً؛ لتنبت الأرض أطيب الثمرات، وتنتج من كلِّ زوج بهيج، وقد تعاونت مصر، والشام في تبادل المحاصيل الزراعية، وتعزيز المصالح الاقتصادية، وتموين الجيوش بالثروات اللاَّزمة، ووقف الإقليمان جنباً إلى جنب أمام اعتداءات الفرنج الغادرة، وتزويد الجيش الإسلامي بكلِّ ما يلزم من مواد غذائية، وعتاد، كما عني صلاح الدين بالتجارة عنايةً كبيرةً، فكانت مصر في عهدة حلقة الاتصال بين الشَّرق، والغرب. وقد انتعشت مدنٌ أوربيةٌ كثيرةٌ بسبب هذه التجارة، مثل مدينة «البندقية، وبيزا» الإيطاليتين، وقد سمح للبنادقة فيما بعد بتأسيس سوق تجارية في الإسكندرية، كان يطلق عليه «سوق الأيك» وأولى صلاح الدين الأسواق التجارية كل اعتنائه، واهتمامه؛ حتى يزدهر الاقتصاد، ويزداد الإنتاج في دولته، فكثر عددها في مصر، والشام، واهتمَّ بإصلاحاتها، وتوسيعها، ومرَّ الرحالة «ابن جبير» ببعض هذه الأسواق في رحلته أيام صلاح الدِّين سنة 578هـ فسجل إعجابه بنظامها، فقال: في معرض الحديث عن مدينة حلب: أما البلد فموضوعه ضخم جداً، جميل التركيب، بديع الحسن، واسع الأسواق، كبيرها، متصلة بالانتظام، مستطيلة، تخرج من سماط صنعةٍ إلى سماط صنعةٍ أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصِّناعات المدنيَّة، وكلَّها مسقَّف بالخشب، فسكانها في ظلالٍ وارفة، فكلُّ سوق منها تقيِّد الأبصار، وتستوقف المستوفز تعجباً، وأكثر حوانيتها من الخشب البديع الصنعة. (صلاح الدين الأيوبي، ص176)
كما وصف «ناصر خسرو» في كتبه «سفر نامه» مدينة طرابلس الشام في عهد صلاح الدين، فقال: إنها بلد جميل، حوله المزارع، والبساتين، وكثير من قصب السكر، وأشجار النارنج، والموز، والليمون، وبها مغازل ذات أربع طبقات، أو خمس، أو ست، وشوارعها، وأسواقها جميلةٌ نظيفة؛ حتى لتظنَّ: أنَّ كل سوق قصر مزيَّن، وفي وسط المدينة جامعٌ عظيم، نظيفٌ جميل النقش حصين، وفي ساحته قبَّةٌ كبيرة تحتها حوضٌ من الرُّخام، في وطسه فوارة من النحاس، الأصفر، وفي السُّوق مشرعةٌ ذات خمسة صنابير، يخرج منها ماءٌ كثير، يأخذ منه الناس حاجتهم.
ثانياً: اهتمامه بالصناعات:
اهتمَّ صلاح الدين بصناعة السِّلاح، والمنسوجات، والأقمشة، والملابس الحريرية المزركشة، وسروج الخيل المطهمة، وصناعة الزجاج، كما انتشرت في عهده صناعة الخزف، والسفن، والأساطيل إلى غير ذلك مما يزهر الاقتصاد، ويضاعف الإنتاج، ويمكِّن للدولة أسباب القوة. (الفنون الإسلامية للعصر الأيوبي 1/54) ولقد كان أصحاب الحرف، والصنَّاع في عهد الدولة الأيوبية من أكثر الناس وفاءً لتقاليدهم الموروثة، فقد بقيت طوائف العمال، والحرف تسير على نفس النُّظم، والطرق الصناعية التي كان مستعملةً في العهود التي سبقتها، وكان الصنَّاع ينتظمون في نقاباتٍ تحمي حقوقهم، وتشرف على تأدية واجباتهم على الوجه الأكمل، بحيث كان لها نظمها، وتقاليدها؛ التي يحترمها الجميع، وتؤيِّدها الدولة بنفوذها. وكان من تقاليد نقابات، وطوائف الحرف، والصنَّاع الحفاظ على أسرار تلك الحرف، وقصرها على أفرادها، وأسرهم. ولعلَّ هذا يفسِّر لنا ما شاع من تخصُّص بعض الأسر في حرفةٍ واحدةٍ يتوارثها الأبناء عن الاباء، فضلاً عن صعوبة دخول الغرباء على الطائفة في صفوفها. (الفنون الإسلامية للعصر الأيوبي، 1/55)
ثالثاً: إلغاء المكوس والاكتفاء بالموارد الشَّرعية:
لم يكن غريباً ألا يوجد في خزانة صلاح الدين بعد وفاته سوى 46 درهماً فضةً، وديناراً ذهبياً واحداً، فقد كانت واردات دولته ضخمةً، كما كانت نفقاته الحربية ضخمةً، وكلَّما كانت البلاد التي تقع في يده تزداد؛ كانت وارداته منها، ونفقاته من أجلها تزداد بصورةٍ مطَّردة، وكانت قاعدته الدائمة:
1 ـ إلغاء المكوس، والضرائب غير الشَّرعية في جميع البلاد التي فتحها.
2 ـ الاكتفاء بالموارد الشرعية من زكاةٍ، وجزيةٍ، وخراجٍ، وغنائمٍ، وعشور التجارة.
رابعاً: المستشفيات في عهد صلاح الدين:
لم يكن في عهد صلاح الدين مدارسُ خاصَّة لدراسة الطب، بل كان هذا النوع من الاختصاص يُدرَّس في المستشفيات، ثم ينساب الطالب بعد المحاضرة بين المرضى ليعاين الأمراض، ويعالج المرض (تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام، ص214)
وقد قام صلاح الدين ببناء مجموعةٍ من المستشفيات في عصره منها:
أ ـ المستشفى الناصري في القاهرة
ب ـ بيمارستان الإسكندرية
ج ـ البيمارستان الصلاحي بالقدس
د ـ بيمارستان عكَّا
وقد تكلمنا عن كل واحدة من هذه المستشفيات ومساهماتها الكبيرة بالتفصيل في كتابنا: “صلاح الدين الأيوبي”.
_____________________________________________________________
المصدر:
د. علي محمد الصلابي، صلاح الدين الأيوبي، ص 183-186.