مقالاتمقالات مختارة

مصطفى السّباعي؛ الوجهُ النّضاليّ الميدانيّ لعالم الشّريعة الكبير

مصطفى السّباعي؛ الوجهُ النّضاليّ الميدانيّ لعالم الشّريعة الكبير

بقلم محمد خير موسى

كثيرون هم الذين يعرفون مصطفى السّباعيّ مؤسّس كليّة الشريعة في جامعة دمشق، والدّاعية الخطيب المفوّه الذي يأخذ بمجامع القلوب، وصاحب المؤلّفات النّافعة للفكر والماتعة للرّوح، والسياسيّ والبرلمانيّ المخضرم في عالم السياسة؛ ولكنّ قلّةً من هؤلاء يعرفون الجانب والنّضالي والجهاديّ من حياة هذا العالم الكبير الذي امتزج علمه الشرعيّ الغزير وممارسته السياسيّة الفذّة بالنّضال الميدانيّ وبالجهاد بمختلف أشكاله وفي وجه مختلف أشكال الظّلم والطّغيان.

•  الاعتقال الأوّل

في حمص التي ولد فيها عام 1915م ترعرع السّباعيّ في أحضان والده الشّيخ حسني
الذي أرضعه بغض الاحتلال الفرنسيّ؛ فبدأ كتابة منشورات سريّة ضدّ هذا الاحتلال وهو ابن خمس عشرة سنة فما لبث أن انكشف أمره واعتقل لأوّل مرّة وهو ابن ستّ عشرة سنة لفترةٍ يسيرةٍ، وما إن خرج من السجن حتّى وقف في جموع المتظاهرين خطيبًا ليفاجئ الجميع بخطبةٍ نفثت في المتظاهرين روح الحماسة وأرعبت الفرنسيين الذين اعتقلوه على الفور وأودعوه السّجن ستّة أشهر، خرج بعدها ليتوجّه إلى مصر بغية متابعة تحصيله الدّراسيّ في الأزهر.

•  في مواجهة الإنكليز

في مصر الخاضعة للاحتلال البريطانيّ كان السّباعي يتقدّم المظاهرات ويلهب الجماهير بخطبه الفذّة؛ مما دفع القيادة البريطانيّة إلى اعتقاله بتهمة تحريض الشعب المصري على الثورة ضد الإنكليز، وزجّت به في السجن عام 1934م لمدّة شهرين.
خرج السّباعيّ من السّجن بعزيمةٍ أقوى ليبدّا جولةً جديدةً من مواجهة الاحتلال الإنكليزيّ، واللّافت هذه المرّة هو أنّ السّباعيّ وهو يكافح في الميدان ضدّ الاحتلال الواقع لم تغب سوريا عن فكره وكفاحه بل لم تغب عموم بلاد المسلمين عن فكره ومساندته في مواجهة الظّلم والاحتلال والاستبداد.
فبعد خروجه من السّجن بلغه أن حكومة الكتلة الوطنيّة في ظلّ الانتداب الفرنسي في سورية أصدرت قانون الطّوائف فكتب في مجلّة الفتح مهاجمًا هذا القانون بوعيٍ منقطع النّظير يحتاجه الثّائرون في كلّ زمانٍ وكلّ ساحةٍ مدافعًا عن مبدأ المواطنة ومعرّيًا مخطّطات الاحتلال:
“ماذا نقولُ في بلدٍ دخلَه أوصياؤه وهو شعبٌ واحدٌ وأمّةٌ واحدةٌ؛ فما لبثوا أن جعلوه موزَّعًا بين عربٍ مسلمين ومسيحيّين ويهود ونصيريّة ودروز وإسماعيليّين وشيعة وأكراد وتركمان وشركس وداغستان وغجر ثمّ زادوا عليها الأرمن والآشوريين؟!!”
كما أعلن تأييده لثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق فألقي القبض عليه من السّلطات المصريّة بأمر من الإنكليز بتهمة تشكيلِ جمعيّة سريّة لدعم ثورة الكيلاني في العراق فأودع في السجن سجون مصر ثلاثة أشهر نُقل بعدها إلى السّجن الإنكليزي في مدينة “صَرَفند” في فلسطين مدّة أربعة أشهر أفرج عنه وأعيد إلى سوريا لتستلمه سلطة الانتداب الفرنسي وتزجّ به في السّجن متنقلًا بين سجني “الميّة وميّة” و”راشيّا” في لبنان مدّة سنتين ونصف ذاق فيها أقسى صنوف التّعذيب فما لانت عريكته ولا نال المستعمرون من عزيمته وهمّته قيد أنملة.

•  تأسيسُ جماعة الإخوان المسلمين

بعد الخروج من السجن عاد السّباعيّ قليلًا من الوقت إلى حمص ثمّ انتقل إلى دمشق ليمارس نضاله وجهاده بفاعليّة أكبر.
وفي عام 1945م أسّس السّباعي جماعة الإخوان المسلمين التي استقطبت الكثير من الشّباب، واستطاع مدّ الجسور ووشائج المودّة بين عموم التيّارات الإسلاميّة العاملة والفاعلة لمواجهة ما يعترض البلاد من تحدّيات كبيرة في وحدتها وفي دينها وهويّتها.
قاطعًا البلاد لحشد الجهود لا يعبأ بتعبٍ ولا إعياء حتّى سقط مرّة من شدّة التّعب والمرض، فلمّا لامَه إخوانه قال لهم: “خيرٌ لي أن أموت وأنا أقوم بواجبي نحو الله، من أن أموت على فراشي، فالآجال بيد الله، وإنّ ألمي من حرمان الطّلّاب من دروس التوجيه أشدّ وأقسى من آلامي الجسديّة، وحسبي الله وعليه الاتكال”

•  في مواجهة الاحتلال الصّهيونيّ

بعد صدور قرار التقسيم عام 1947م وبدء التّحضير لقيام “دولة إسرائيل” بدأ السّباعي يجوب سوريا كلّها يحرّض الجماهير ويحشد الشّباب ويجنّد المتطوّعين للجهاد؛ حتّى إذا أُعلن عن قيام الكيان الغاصب انطلقت كتائب المجاهدين يقودُها السباعي وهي تضمّ خيرة أبناء سوريا وعلمائها من مختلف التوجهات الفكريّة والمدارس الشرعيّة وإن كان الغالب فيها هم أبناء وشباب جماعة الإخوان المسلمين.
وفي معسكر “قَطَنا” في ريف دمشق عسكرَ السّباعي مع جنوده قبل الانطلاق إلى فلسطين، وهناك استقبلوا إخوان مصر حيث زارهم الإمام حسن البنّا في المعسكر والتقى السّباعي ووضعا الخطط المشتركة قبل أن يعود البنّا إلى مصر ليقود المجاهدين المصريّين إلى فلسطين.
انطلق السّباعي بعد شهرٍ ونصفٍ من الإعداد السريع في معسكر “قَطَنا” يقود الكتائب حتّى وصل إلى القدس، وهناك قاتل قتالًا شرسًا في معركة الحيّ اليهوديّ ومعركة القطمون ومعركة القدس الكبرى، غيرَ أنّه وهو تحت غبار المعركة كان يستشعر أنّ هناك مؤامرةً تُحاكُ على جهاده وإخوانه وعلى فلسطين كلّها، وفعلًا كان ذلك بإعلان الهدنة الذي جاء لإنقاذ اليهود الصّهاينة؛ فيقول السّباعيّ:
” كنا نشعرُ ونحن في قلب معارك القدس، أنّ هناك مناورات تجري في الصّعيد الدولي، وفي أوساط السّياسات العربية الرسمية، فتشاورنا في كتيبة الإخوان المسلمين فيما يجب علينا فعله، بعد صدور الأوامر إلينا بالانسحاب من القدس، فقرَّ رأينا على أننا لا نستطيع مخالفة الأوامر الصادرة إلينا بمغادرة القدس لاعتبارات متعددة، وأنّنا بعد وصولنا إلى دمشق سنرسل بعض الإخوان المسلمين خفيةً إلى القدس مرّةً ثانية، لدراسة ما إذا كان بالإمكان عودتنا بصورة إفرادية، لنتابع نضالنا في الدفاع عن فلسطين”

•  نضالٌ وكفاحٌ لا يتوقّف

واستمرّ جهاد مصطفى السّباعيّ نصرةً لقضايا الأمّة المختلفة وفي مقدّمتها فلسطين؛ ففي عام 1952م طالب السّباعي بالسّماح للإخوان السوريين بالمشاركة في حرب السّويس إلى جانب إخوانهم المصريين؛ فسارعت حكومة أديب الشيشكلي إلى اعتقال السّباعي وفصله من الجامعة السوريّة وإصدار قرارٍ بحلّ جماعة الإخوان المسلمين.
ولم يثنه ذلك عن كفاحه؛ ففي عام 1955م أطلقَ السّباعي نشاطًا سنويًّا أسماه “أسبوع الخطر الصّهيونيّ” وهو نشاطٌ جماهيريّ يمتدّ على مدار أسبوع من كلّ سنةٍ يتضمّن المهرجانات والأنشطة والمحاضرات تعريفًا بقضيّة فلسطين واستنهاضًا للهمم في سبيل نصرتِها، وقد عمل على تعميمه في مختلف البلدان حتّى طاف على مختلف الدّول داعيًا قادة العمل الإسلاميّ في البلاد المختلفة إلى تطبيق هذا الأسبوع وقد نجح في ذلك بالفعل على نطاق واسع.
وتحت قبّة البرلمان السّوريّ طالب السباعيّ بشدّة اعتماد القضيّة الفلسطينيّة مادّةً أساسيّةً في المنهاج التعليم، وفعلًا أقرّ البرلمان هذا القانون وتمّ تطبيقه بالفعل وغدت مادّة القضيّة الفلسطينيّة مادّةً أساسيّة في مختلف المراحل الدّراسيّة حتّى وقع انقلاب عام 1963م على يد حزب البعث الذي ألغى هذا القانون وحذف هذه المادّة من مناهج التّعليم.

فالسّباعيّ لم يكن عالم شريعةٍ معتكفًا في برجه العاجيّ ولا سياسيًّا يلقي تنظيراته من خلف الشّاشات؛ بل جمع إلى العلم الشرعيّ والسياسيّ نضالًا ميدانيًّا وجهادًا عمليًّا وكفاحًا واقعيًّا وسلوكيًّا كان برهانًا على صدق الدّعوى ودليلًا على همّةٍ تتقاصر دونها الجبال الراسيات رغم المرض والشّلل الذي استمرّ ثماني سنواتً قبل أن يوافيه الأجل يوم الثّالث من تشرين الأول “أكتوبر” عام 1964م.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى