بقلم عطية عدلان
لم تكن دهشتي بتمرير حفل الشواذ في مصر بأشد من دهشتي مما تلاها من تعليقات جاءت أسمج من الثلج المختلط بطين الشوارع؛ فما إن ذاع خبر القبض على سبعة من هؤلاء المفاخرين بفعلتهم؛ حتى وجدنا ضجيج الأبواق يملأ الآفاق، وسمعنا صراخ المتحرشين المختبئين خلف شعارات الحرية تندد باعتقالهم والتحقيق معهم؛ بزعم أنَّهم يمارسون حقهم الطبيعيّ، ويستمتعون بحريتهم الشخصية دون أن يقع منهم تجاه المجتمع ضرر مباشر !!
لا ريب أنَّ الانقلاب العسكريِّ قد جرَّ الويلات على بلادنا وشعوبنا، ولا ريب كذلك أنَّ ما أصابنا بهذا الانقلاب الظلوم الغشوم في دنيانا -على بشاعته وفداحته -يتضاءل كثيراً أمام ما أصابنا منه في ديننا؛ حتى غدا في حقيقته انقلاباً على هوية الأمَّة وقيمها، وعلى شرفها كذلك؛ لذلك لا تعجب عندما يقف -جنباً إلى جنب -مع دبابة العسكر كل فاجر وعاهر في ميادين الغناء والبغاء والإفتاء على حد سواء.
إنَّ الحرية التي يتحدث عنها هؤلاء المتحرشون بأقلامهم وأبواقهم ليست سوى نسخة مزيفة من الحرية التي ثارت من أجلها الشعوب الأوربية وغير الأوربية، صدرتها وروجتها الثورة المضادة التي تولاها أصحاب المصالح المادية الدنيئة؛ ليعبثوا بآمال الإنسانية وليصرفوا الثائرين عن مرادهم الحقيقيّ، لا لشيء إلا لأنَّ الحرية الحقيقية تتعارض مع أطماعهم وأهوائهم.
وإنَّ بزوغ فجر الثورات الحديثة في المدن الإيطالية كان يبشر بالحرية الحقيقية، وكان يراها متمثلة قبل كل شيء في الاستقلال السياسي عن الإمبراطور المستبد، وفي الحق الأصيل لكل مدينة أن تضع لنفسها نظام الحكم الذي ترتضيه، وفي حق كل إنسان في ممارسة حقوقه السياسية بلا خوف ولا توجس(1)، ثم جاءت الثورة الإنجليزية لترى الحرية متمثلة قبل كل شيء في دور البرلمان في القيام بدوره الحقيقيّ في تمثيل الأمة الإنجليزية، وفي تقليص صلاحيات الملك إلى أقصى حدّ، وعندما جاءت الثورة الفرنسية كان سقوط الباستيل رمز الظلم والاستبداد هو الحادث الملهم لعشاق الحرية في الأرض كلها، وكان الاستيلاء من قبل الثوار “عملاً سياسيا فذا ورائعاً؛ ففي طول أوربا وعرضها هلل الناس وكبروا؛ مرحبين بسقوط الباستيل كخاتمة للطغيان المستتر والسجن الظالم المستبد، وكبشير لبزوغ فجر الحرية”( )2
هذه هي الحرية الحقيقية التي نفتقدها في مصر وسائر بلداننا العربية، والتي من أجلها ثارت الشعوب في أرض الله كلها، ولم تكن الحرية الجنسية التي أطلقت في فضاء أوربا إلاً مسخاً مشوهاً ألقي للناس في طريقهم لإلهائهم عن حركة الالتفاف الكبرى التي يمارسها الاخطبوط الرأسماليّ الأسود، الأمر الذي جعل الحياة يسودها التشاؤم من جراء الحالة النفسية والشعورية المنقلبة، وكما يقول بعض مفكريهم الصارخين فيهم: “وإنّ تدوير الغرب ليعود إلى التفاؤل سوف يستغرق حركة فكرية جديدة كاملة، وليس هناك أيّ علامة على مثل هذا التحول في الأفق”(3)
هذه الحرية الحقيقية وما ينبثق عنها من حريات كحرية التفكير وحرية التعبير وغير ذلك هي أحد مقاصد شريعتنا المعظمة، إلى الحدَّ الذي جعل عبارة الفقهاء: “تَشَوُّف الشارع للحرية” قاعدة يترجح في ضوئها كثير من الاختيارات الفقهية للمذاهب المختلفة، ولا يقتصر معنى هذه الحرية – كما قد يظنه البعض – على ذلك المعنى المقابل للرق؛ فقد “جاء لفظ الحرية في كلام العرب مطلقاً على معنيين أحدهما ناشئ عن الآخر، المعنى الأول: ضد العبودية، وهي أن يكون تصرّف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرّفاً غير متوقّف على رضا أحد آخر … المعنى الثاني ناشئ عن الأول بطريقة المجاز في الاستعمال، وهو تمكّن الشخص من التصرّف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض …”(4)
أمَّا الحرية المنفلتة من كل قيد فتلك لم تعرفها الإنسانية في حالاتها الطبيعية، وحتى المفكرين الغربيين المنظرين لللبرالية لا يقولون بهذا الخرف والدجل الذي يمارسه ببغاوات الرذيلة في بلادنا، فها هو “جون استيوارت مل” في كتابه (الحرية) يقول: “قد علمنا أن إطلاق الحرية الكاملة للأفراد أمر متعذر، ما دام الناس في حاجة إلى التعاشر والتعايش، بل لابدَّ من تقييدهم بالقدر اللازم لمنع الأقوياء من التعدي على الضعفاء، وقد يتبادر إلى الأذهان أنَّ هذا التقييد الذي توجبه ضرورة الرعاية لمصالح الغير يعود على طبائع الأفراد بالخسران بأن يسد في وجوههم بعض أبواب النمو ويقطع عنهم طائفة من أسباب الرقيّ، ولكن الحقيقة على خلاف ذلك، فالأفراد يستفيدون في نظير هذا التقييد تعويضاً كافياً، حتى من وجهة النمو الذاتيِّ”(5) وهذه الاستفادة تأتي في صور كثيرة منها رعاية الحرمات العامَّة التي لا تستغني الإنسانية عن رعايتها.
وليس صحيحاً أنَّ إعلان الشواذ عن أنفسهم لا يمثل ضرراً مباشراً على المجتمع، لأنَّ ممارسة الفعل شيء والإعلان عنه كسلوك مستقر للإنسان شيء آخر؛ لذلك فرق العلماء بين مرتكب المعصية في السر وبين المجاهر بها، من حيث العقوبة الأخروية والدنيوية كذلك في كثير من الحالات، والضرر الذي يقع على المجتمع من هذه المجاهرة غاية في الخطورة؛ لأنّها في حقيقتها دعوة للشذوذ وخدش للحياء العام وتهديد للفطرة وتقويض وهدم لما تعارف عليه البشر وألفوه من لدن بدء الخليقة.
ثمَّ أين الدين والشرع؟ لماذا يتعمدون تفريغ الحياة من خطاب الشرع؟ أليست هناك نصوص في الكتاب العزيز الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت 42) هذه النصوص تستبشع جريمة اللواط وتعتبرها ضرباً من السفه والجهل؟ (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (الأعراف 81) (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (النمل 55) ألم يجمع علماء الأمة على أنّها جريمة محرمة؟ فلماذا هذا التعمد الفجِّ لإهمال الشرع ؟!
وفي النهاية نختم بذلك النذير الذي اطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ “(6) (7)
——————————–
الهامش
(1) راجع: أسس الفكر السياسي الحديث (عصر النهضة) الجزء الأول – كوينتن سكنر – ت: د. حيدر حاج إسماعيل – المنظمة العربية للترجمة – توزيع مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – ط أولى 2012م صــــــــــــ 39-55
(2) تاريخ أوربا في العصر الحديث -هربرت فِشر -ت: أحمد نجيب هاشم، وزميله-ط دار المعارف -مصر -ط 6 صـــــ 12
(3) انتحار الغرب -ريتشارد كوك، كريس سميث -ترجمة محمد محمود التوبة -ط أولى 2009م العبيكان السعودية صــــــ 114
(4) مقاصد الشريعة الإسلامية -محمد الطاهر بن عاشور– تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة ط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – قطر – ط: 2004 م – 3 / 371-372 بتصرف
(5) الحرية -جون ستيوارت مل -تعريب: طه السباعي -مطبعة الشعب -مصر ط أولى 1922م
(6) سنن ابن ماجه (2/ 1332) المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 582)
(7) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية “.
(المصدر : المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية)