في ولاية ميشيغان الأميركية، يشقّ عبد السيد طريقه نحو الترشح لانتخابات حاكم الولاية التي تجرى بعد عام، في محاولةٍ تتجاوز أهدافها الفوز بالمنصب، إلى تغيير السياسة الأمريكية نفسها، مردداً جملته الشهيرة: “لا تجر من ترامب.. ولكن ترشَّحْ ضده”.
فإذا فاز عبد السيد، سيصبح أول حاكم مسلم لولاية أميركية في تاريخ الولايات المتحدة، وفق صحيفة الغارديان البريطانية.
عبد السيد، الابن لأب مصري يعمل مهندساً وإماماً غير دائم ببعض مساجد مدينة أدريان، بدأ طريقه عندما قَدَّمه شاب متحوِّل جنسياً للحضور بإحدى القاعات العامة في أحد أيام الآحاد.
وكان أول سؤال طُرح عليه في هذا اليوم عن عقيدته؛ إذ سأله رجل يبدو عليه القلق بوضوح، ويرتدي قميصاً مزرَّراً حتى الياقة، عن أفكاره المتعلقة بمعتقداته الدينية.
يجيب الطبيب الثلاثيني عن التساؤلات المتعلقة بعقيدته مثل جميع الأسئلة الأخرى المتعلقة بالأمور الأكثر دنيوية، مثل سياسة الضرائب وتطوير البنية التحتية؛ إذ يرفع رأسه إلى الأمام ويجيب عنها بذكاء متَّقد وبلاغة منقطعة النظير.
بدأ السيد إجابته بالإشارة إلى أن كاثوليكية جون كينيدي شكلت منعطفاً في مسار السياسات الأميركية؛ إذ قال: “إنني أؤمن بفصل الكنيسة عن الدولة. يمكنني أن أخبركم بأن قدرتي على ممارسة عقيدتي الشخصية، داخل منزلي، وعندما أختار أن أفعل هذا، وحيثما أُتيح لي، يعود السبب فيه إلى الحريات التي يتمتع بها هذا البلد والذي كان متعلقاً في كل شيء بذلك الفصل بين الكنيسة والدولة”.
وأضاف: “إذا كنت سأريد أن أكون قادراً على السجود 34 سجدة كل يوم، مثلما أفعل لأنني مسلم، فإني أريد أن أتأكد من عدم قدرة أي شخص على تجريدي من هذا الحق. كما أني لن أجرد أي شخص آخر من هذا الحق”.
استقبل السيد عقب إجابته عن السؤال موجةً حارةً من التصفيق -في غرفة لا تضم تقريباً سوى البيض والمسيحيين- وحفاوة مستمرة في نهاية الاحتفالية استمرت نحو ساعة من الزمن.
أمٌ ريفية بروتستانتية وخالٌ ملحد وأبٌ إمام على الطاولة ذاتها
تبدو السيرة الذاتية لعبد السيد، ونواياه الحسنة التقدمية التي أظهرها، معصومة من الخطأ تقريباً؛ فهو ابن لمهاجر مصري جاء إلى أميركا عام 1978، تزوّج مرة أخرى بالأم البيضاء الريفية، التي تحولت إلى البروتستانتية حالياً، وتعلَّم أخواله إعداد لحوم الصيد الحلال، بحيث يمكن للعائلة بأكملها تناول الطعام معاً، أضف إلى ذلك خال ملحد وعالم رياضيات من الاتحاد السوفييتي السابق.
أما عبد السيد نفسه، فهو طالبٌ بمنحة “رودس”، وطبيبٌ، وأستاذٌ سابقٌ بإحدى الجامعات، ومدير سابق للقسم الصحي في مدينة ديترويت بولاية ميشيغان.
ويبلغ الشاب من العمر 32 عاماً، وقد يكون أصغر حاكم ولاية منذ عهد بيل كلينتون. كما سيصير أباً للمرة الأولى في أقل من 3 أشهر.
وقد تعهّد بألا يحصل على أي أموال من شركات لجان العمل السياسي، كما أنه لا يواري انزعاجه من تأثير الأموال الكثيرة على الانتخابات؛ إذ ابتدأ حديثه بتسمية إسهامات شركات الحملات بـ”الرشى”.
كما تعهد بضمان الرعاية الصحية الشاملة لجميع سكان ميشيغان، وقال إنه سيضغط من أجل تقنين الماريغوانا ورفع الأجور لتصل إلى 15 دولاراً في الساعة، وأنه سيجعل ميشيغان “ولاية الملاذ الآمن” التي تتحدى قانون الهجرة الفيدرالي من أجل المهاجرين غير الشرعيين السلميين.
أحببتك مثل “أوباما”..
قد تكون النقطة الأهم أن عبد السيد يمتلك أسلوباً بلاغياً في الخطابة وكاريزما تثير، بكل سهولة، المقارنات مع باراك أوباما في شبابه.
في إحدى حملاته، قالت امرأة: “أعتقد أن آخر مرة جلست هنا وأبديت هذا النوع من الابتسام عندما سمعت أوباما في شيكاغو لأول مرة، عند ترشحه لمجلس الشيوخ”.
قالت إحدى السيدات بعد أن استمعت إليه يتحدث في مناسبة للحزب الديمقراطي بمقاطعة أوكلاند: “لقد ربحت حبي. كل ما عليك أن تفعله هو أن تقود السيارة في الجوار وتتحدث مثلما تحدثت اليوم، وسوف تفوز بانتخابات هذه الولاية”.
ويتسم فريق حملة السيد بأنهم شباب ومرِحون وأذكياء. يمكن رؤية انتشار الملصقات السياسية على حواسيبهم المكتبية، ويأتي الأعضاء من جامعة هارفارد ومعاهد النخبة الأخرى. كما أن الحملة بأكملها تبدو متعددة بدرجة كبيرة وتُدار إدارةً جيدة.
تعكس حملته “أميركا مختلفة” عن تلك التي يرحب بها اليمين المتطرف، والتي تتجلى في أعضاء الحملة؛ فأميركا السيد وحملته تعددية ومتنوعة، يمكن أن ترى المتدربين في الحملة، أحدهم مسلم كان يغسل قدميه في الحوض استعداداً للصلاة،. وآخر كان وجهه ممتلئاً بالثقوب وبشعر مصبوغ وذا مظهر غير اعتيادي، وكان يغسل يديه في الحوض المجاور له مباشرة.
يعكس السيد نفسه هذا المعنى؛ إذ يقفز بين الموضوعات في محادثات عفوية داخل عربة للحملة تسير في الشوارع؛ لتتحدث إلى المصوتين في أماكن الاقتراع من أجل الانتخابات الأولية في ديترويت. يتحدث عن نسبة الولادة القيصرية وشكسبير، كما يطلق نكاتاً صاخبة لم تُر على الأرجح من قبلُ في العلن مثل شعارات الحملة “الوصفة المصرية”.
إلا أن السيد يستطيع أن يكون جاداً للغاية وشغوفاً بشدة بشأن الحقيقة السياسية لأميركا؛ إذ يوجه انتقادات لاذعة بطريقة لا تُسمع تقريباً من أفواه الساسة الذين يتحوطون ويراوِغون.
إذ قال: “إنني أحاول أن أُذكر الناس لماذا يُبنى هذا النظام بالطريقة التي عليها، وأنه أُفسد على يد شرذمة قليلة، وهم مجموعة من الأشخاص شديدي الثراء والنفوذ، الذين اشتروا في الأساس سياساتنا”.
شبيه ترامب ونقيضه في الوقت ذاته
والمفارقة أنه بقدر ما يناقض الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، فإنه يشبهه؛ إذ إن السيد مرشحٌ من خارج الدوائر السياسية الرسمية، يتحدث عن رأيه من دون خبرة انتخابية سياسية سابقة. وبطرق عديدة، يعتبر السيد الوجه الآخر للعملة نفسها التي يحمل وجهها الأول صورة ترامب، فهو مرشح شعبوي في توقيت شعبوي.
عزف السيد، الذي يهوى موسيقى الهيب هوب، أغنية في وقت متأخر بإحدى الليالي بعد عودته من فعالية تنظمها حملته. تحمل اسم “أميركا بالمنطق”، حيث تشجب بألفاظ عامية، العنصرية ومشاعر مناهضة المهاجرين، ودموية الشرطة وجميع الأمراض المعاصرة.
وتشبه أغنية عبد السيد نوعاً ما أغنية Mississippi Goddamn، للمغنية الأميركية السمراء نينا سيمون، التي غنتها استجابة للأحداث المؤسفة التي حدثت لذوي البشرة السوداء في الستينيات، ولكن في ثوب يناسب القرن الحادي والعشرين.
وقبل أن يرفع مستوى العزف قليلاً، قال عبد السيد: “هذا هو أفضل سطر في الأغنية”، ثم غنى: “لا تجر من ترامب. ولكن ترشَّح ضده”.
يشكل الترشح ضد ترامب -وهو الرئيس الذي نادى بتطبيق حظر على المسلمين للسفر إلى الولايات المتحدة باعتباره إحدى سياساته- تحدياً رئيساً لعبد السيد، كما يعتبر مقر حملته سراً محفوظاً، وكثير من أعضاء الحملة ينبغي لهم أن يتحدثوا مع عائلاتهم عن الخطر المحتمل قبل بدء عملهم.
فمنذ أبريل/نيسان الماضي، حدث 370 حادث كراهية ضد مساجد أميركية ومراكز للجاليات المسلمة. في عام 2015 فقط، حدث 257 حادث كراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة، حسبما يقول مكتب التحقيقات الفيدرالي. وفي ميشيغان، دعا رئيس قرية كالكاسكا، وهي مدينة صغيرة في الشمال، إلى الموت لجميع المسلمين “وكلهم عن بكرة أبيهم”. ولا يزال الرجل في منصبه حتى الآن.
ما علاقة طفله القادم بترشحه؟
والد عبد السيد مهندس سيارات عَمِل على أول سيارة يجري تعديلها باستخدام الحاسوب. وفي مقهى بمدينة ديربورن، وهي مدينة يشار إليها دوماً على أنها مركز العرب في أميركا. كان الأب، وهو إمام غير دائم، يلف بين أصابعه ماصة بلاستيكية، ويبدو عليه القلق وعدم اعتياد الحديث إلى الصحافة، إلا أنه كان لديه حس بواجبه لأن يفعل ذلك.
قال الأب: “هل نحن خائفون عليه؟ إن كان يخرج لمواجهة الظلم، وحتى لو دفع حياته ثمناً لذلك، طالما يحاول أن يفعل الصواب ويواجه الظلم ويجلب العدل إلى حياة شخص ما؛ فإننا جميعاً سنموت في يوم ما”. أصبح صوته مهيباً وقريباً من الحزن بعد هذه الكلمات، فأضاف: “أن تموت من أجل هدف ما أفضل من أن تموت على السرير”.
زوجة أبيه تشارك الوالد المخاوف نفسها، ولكن العزيمة نفسها أيضاً. كان منزلهما مزيَّناً بستارة عليها خريطة العالم وتطريز لمشهد مهد مسيحي أسفل صور كبيرة للعائلة لنساء يرتدين الحجاب.
عبّرت زوجة أبيه عن رأيها في أن العائلة لم تكن تركز كثيراً على الخطر، ولكن بدلاً من هذا كانت تنظر إلى إمكانية التطبيق، قائلةً: “لن يفعلها وحده، لكنه يستطيع تغيير السياسات”.
وأضافت: “أعتقد أنه يفعلها حالياً؛ إذ يذهب إلى الشمال ويجلس مع الناس الذين يبدون مثل جده، وهم لا يعرفون. لكنهم حينئذ يبدأون الحديث معه، وهو أول شخص مسلم يقابلونه في حياتهم”، موضحةً: “إن الناس يرون شخصاً ما لأول مرة، إنهم لا يرون رسوماً متحركة؛ بل يرون شخصاً حقيقياً”.
وفي منتدى للمرشحين بمدينة فلينت في ولاية ميشيغان، قال جميع الأشخاص تقريباً إنهم سوف يصوتون لعبد السيد إذا نُظمت الانتخابات الأولية في اليوم التالي.
ويقول الطبيب المسلم الشاب في مناسبات عدة: “إنني أخوض الانتخابات من أجل مستقبل ابني”. ويوماً بعد يوم، يصير هذا المقترح آنياً: فزوجته أتمت شهرها السادس من الحمل.
قالت سارة زوجته: “أعتقد أن إطلاق التصريحات الجريئة عندما يشعر كثير من الناس بأنه ينبغي لهم الخوف… يمكن أن يكون ملهماً”، مضيفة “أعتقد أنه من السهل والمريح أن نجلس على الرصيف، وأن نقلق أو أن نبعد تماماً عما يدور حولنا في العالم. إذا كنت تستطيع إحداث التغيير، فأنا أعتقد أنها مسؤولية”.
كما انعكست الطريقة التي يتحدث بها السيد، بسرعة وبثقة، كما لو أنه يحاول أن يذهل المستمعين بالحقائق والحكايات والمآسي، وكما لو أنه يحاول استحضار جميع المعلومات قبل حدوث تغير كارثي عظيم لطريقة حياتنا شبه السلمية، والتي ستسحق فرصته وفرصة طفله وفرصتنا.
إنه رجلٌ يؤمن بأن السياسات يمكن أن تتغير؛ بل وتنصلح. إنه قصةٌ قديمةٌ في قِدَمِ الولايات المتحدة على الأقل؛ قصة تدور حول شخص يؤمن بما تعلمناه في الصفوف المدرسية: أن كل الناس خُلقوا متساوين، وأن التغيير يمكن أن يأتي، وأننا نستطيع أن نعيش وفقاً لمُثُلِنا.
يقول عبد السيد: “أيّما كانت النتيجة، فسوف نفوز إذا كنا نستطيع تغيير السياسات”.
(المصدر: الاسلام اليوم)