بقلم : د. محمد بن صالح العلي
الإنسان لايستغني عن الدين ، طبعا الإنسان السوي والطبيعي ، أما الانسان المعاصر فهو غير سوي وغير طبيعي ، أقصد حياته غير طبيعية وغير سويّة ، والدليل ما يعيشه من أزمات وكوارث نفسية واجتماعية واقتصادية .. إنسان هذا العصر قد أجرم في حق خالقه فزعم أنّ الله غير موجود.
الإلحاد في حد ذاته أكبر جريمة يرتكبها الإنسان في حق ربه وخالقه، وفي حق الحقيقة نفسها. ولا يقل جرما عن الإلحاد، التبجح به، وتزينه ومحاولة ربطه بقيم العلم والرقي والتحضر، ورمي الإيمان وأهله بما هو عكس ذلك، كالزعم بأن الدين والتدين هو رأس كل بلية، وأساس كل تخلف، و أن التقدم لن يتأتى إلا بعد الانعتاق من قيود الدين.
التنكر للدين ظاهرة قديمة، تحدث عنها القرآن ورد على أصحابها وناقشهم بأساليب شتى. وفي خضم هذا النقاش القرآني لهذه الفئة من الناس ولأفكارهم، تكرر وصفه لهم بأنهم أبعد ما يكونون عن العقل والعلم والمنطق . فهم قوم لا يعقلون ولا يعلمون، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون،(حسب التعبير القرآني). فالإلحاد لا سند له من العقل ولا من العلم، وإنما هو ظنون وأوهام وافتراءات، يلجأ إليها بعض الناس ليبرروا عجزهم عن أداء التكاليف الشرعية، وخلودهم إلى لأرض واتباعهم للشهوات. شأنهم في ذلك شأن مجموعة من الطلبة الكسالى داخل الفصل، أعيتهم التكاليف المدرسية فتأخروا عن الركب. وبدل أن يشدوا هممهم ويعترفوا بتقصيرهم، إذا بهم يلقون اللوم على المدرسة وعلى الأستاذ، وحتى على المجتهدين من بين زملائهم في الصف. في صورة تعكس انحدار النفس البشرية إلى أدنى مستواتها، عندما تصير تبحث عن تبريرالفشل، بل وتمجده تمجيدا.
إننا لا ندعي المثالية ولا الالتزام المطلق بتعاليم الدين. فما نحن إلا بشر، والضعف والخطأ ملازمان للبشر. قال تعالى:{وخلق الإنسان ضعيفا}، وقال كذلك:{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما}. و لكن، شتان بين عبد يبتغي مرضاة ربه، ويعمل جاهدا على أن لا يضعف ولايسقط، لكنه لا محالة ساقط ما دام بشرا. غير أن إيمانه بالله يجعله يعمل على تقليل السقطات في مسيره، وتقصير مداها ما أمكن، والحد من آثارها. وكلما سقط مد يده لحبل الوحي الممدود من السماء، مستمسكا به لينهض من جديد، مناديا ربه : “رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي”. فيتقبله ربه من قريب ويتوب عليه إنه هو التواب الرحيم.
شتان بين من هذا حاله مع الله، وبين من يتعمد السقوط ويرضى به، يمجده ويستمتع به، و يجعل حياته كلها سقوطا في سقوط . إذا فر المؤمنون إلى ربهم، فر هو منه، وإذا ذكر الله اشمأز قلبه، يفرح ويستبشر لذكر المحرمات و الشهوات، ويضيق صدره لذكرالتكاليف والطاعات. {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ المهاد}.
إن ما يعيشه الغرب من رخاء مادي في ظل حضارة يغلب عليها الطابع الإلحادي، أكسب المرتدين عن الإسلام في الآونة الأخيرة جرأة ووقاحة غيرمسبوقة، ظنا منهم أنهم بالتنكر للدين سيصلون مواصل الغرب، وكأن حالة الغرب الآن قد توقف التاريخ عندها، فهي الحكم وهي الفصل. فلا شيء مما مضى قبلها، ولا شيء مما سيأتي بعدها قد يبلغ مداها، ناسين أن التاريخ عرف حضارات في ظل الدين وتحت راية التوحيد، لا تزال آثارها ماثلة للعيان.
فيوسف عليه السلام، قد ساس مصر في عز أزمة اقتصادية خانقة، ورسا بسفينتها على شط الأمان، ودبر أمرها بطريقة تبهر الأذهان. فهل كان الدين غائبا عن يوسف في ذلك كله؟ أم أن الدين بما يحمل من قيم سامية كان هو السر في نجاح يوسف في مهمته؟
وهذا نبي الله سليمان، يبني صرحا- لجماله وقوة بريقه- حسبته بلقيس (الملكة ذات العرش العظيم) لجة وكشفت عن ساقيها لتلجه، فقال سليمان :{إنه صرح ممرد من قوارير}.
وفي تاريخ الإسلام فترات مشرقة حقق خلالها المسلمون السبق في شتى المجالات، وقدموا للعالم نماذج لا تزال خالدة، وهي برهان على أن الدين وخاصة الإسلام ليس عدوا للحضارة.
أما في وقتنا الحاضر فإن ساسة تركيا (حزب العدالة والتنمية) خير برهان على أن التدين لايعرقل التقدم أبدا.
إنني لا أجد في طول القرآن -الذي أحفظه كاملا- وعرضه ، ولا في مئات وربما آلاف الأحاديث التي وقفت عليها خلاف ما ذكرت.
المشكلة، في نظري، في أناس لا يحسنون قراءة النصوص الدينية، وإن أحسنوا القراءة لا يحسنون الفهم، وإن أحسنوا الفهم لا يحسنون الاستنباط ، وإن أحسنوا في ذلك كله، أساءوا القصد، فضلوا وأضلوا.
يحاكمون الإسلام بتصرفات بعض أتباعه، وإن خالفت هذه التصرفات نصوص الإسلام الصريحة المحكمة، ومقاصده الكلية، وتوجهاته العامة. ومع ذلك تجد هذه الفئة تلصق هذه التصرفات بالإسلام، لأغراض خبيثة في أنفسهم. فهل ما تفعله داعش والقاعدة مثلا هو حقيقة الإسلام؟
نعم، أعتز بديني وأعتقد أني على الحق، ولن أذوب في الحضارة الغربية، وأنتقد طغيان الجانب الإلحادي المادي على هذه الحضارة. أفعل ذلك علنا لأنني لا أرى أن انعتاق الحضارة الغربية من الدين هو سبب طفرتها، بل على العكس، أرى أن الإلحاد والبعد عن الدين قد يكون السبب في اندحارها. قال تعالى {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس}.
ما علاقة التحضر والتقدم بالإنحلال والتفسخ؟ ما علاقة التقدم والتحضر بالتنكر لحق الله في أن يطاع فلا يعصى؟ وأن يذكر فلا ينسىى ؟ وأن يشكرفلا يكفر؟
إن الإلحاد يفعل في الحضارة ما تفعله المنشطات في الرياضة. قد تكسب الرياضي سباقات وتجعله يفوز بجوائز ويصعد المنصات، لكنها ستهلك جسمه في الأخير، وسيفقد كل الألقاب التي حصل عليها يوم يتعرض لاختبار كشف المنشطات. قال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}. وقال جل من قائل:{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون}.
وأقول لهؤلاء الذين يهاجمون الإسلام: “لئن تنكر للإسلام في الشرق أقزام، فإنه يعتنقه في الغرب أعلام، والله تعالى لن تضره ردة الأقزام ولن ينفعه إسلام الأعلام.”{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم}.
وقد أصبح العلمُ مؤيدا للإيمان فقد اشارت إحدى الدراسات التي قام بها فريق من العلماء البريطانيين تحت اشراف الدكتور “بروس هود”، ان الإيمان بالله عز وجل ينبع من برمجة معينة في عقول البشر منذ الولادة، و”أن البشر مبرمجون للتمتع بشعور روحاني انطلاقاً من نشاط كهربائي في مناطق معينة في الدماغ ” .
ان هذه الدراسة التي نشرتها الصحف مؤخراً، ليست الوحيدة من نوعها في هذا المجال، فعلى الرغم من الطابع الالحادي الذي طبعت عليه كثير من الدراسات العلمية التي تعنى بقضية التدين، إلا ان هناك دراسات اخرى وعلماء كثر توصلوا من خلال أبحاثهم إلى حقيقة وجود فطرة التدين عند الانسان منذ الولادة، وكان آخر واحدث ما نشر في هذا الصدد ما ذكرته صحيفة “الديلي تلغراف” في عددها الصادر في (16 حزيران 2009م) عن الدكتور ” جستون باريت” أحد الباحثين الكبار بمركز الأنثروبولوجيا والعقل بجامعة أكسفورد ببريطانيا أن الأطفال يولدون مؤمنين بالله ، وسبب إيمانهم أن أدمغتهم صُمِّمَت بطريقة تجعلهم يؤمنون. ويرى لذلك أنه لو استطاعت قِلَّة منهم أن تعيش في جزيرة منعزلة .
هذه حقيقة أكدها القرآن الكريم بقول الله عز وجل : (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [الروم/30] لقد وجهت هذه الآية العلماء إلى حقائق ودلالات عدة، منها:
1- وجود فطرة التدين لدى الشعوب والأمم الغابرة، وهذه الحقيقة ذكرتها الدراسات التي طالت عقائد الشعوب وعاداتهم واساطيرهم، ومن بينها موسوعة المؤرخ ول ديورانت” “قصة الحضارة”، التي ذكر فيها ان فكرة التدين لم تخل منها امة من الأمم في القديم والحديث .
2- مواقف الانسان المتباينة من الآيات العجيبة والكبيرة المنتشرة في هذا الكون، ومن هذه المواقف ما يتعلق بالاكتشافات الحديثة التي وقف العلماء امامها مبهورين بعظمة الخالق الذي اتقن كل شيء صنعه، وصدق الله عز وجل الذي يقول : ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) .
ومنها ما يرتبط بعجز هؤلاء العلماء، على رغم القدرات المالية والعقلية عن اكتشاف الكثير من اسرار الكون او اقتفاء آثارها، ويصدق في هؤلاء قول الله عز وجل في آية الكرسي ( ولا يحيطون بشيء من علمه ) .
3-التجاء الانسان إلى الله عز وجل في وقت الشدة، قال الله عز وجل (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) .
ولعل اكثر حالات الشدة التي تظهر فيها حاجة الانسان إلى ربه هي عند الموت وشعوره بدنو الأجل، لذلك نجد اكثر العصاة والكفار يعلنون توبتهم في هذه اللحظة، ولعل أشهر نموذج ذكره القرآن الكريم واصفا هذه الحالة، هو فرعون مصر الذي كان يستهزئ بإله موسى ويعتبر نفسه إلها، إلا انه عندما احس بدنو الأجل التجأ إلى الله سبحانه معلنا توبته، قال تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) .
إن وجود التدين هو حاجة اساسية في حياة الانسان، فهو من جهة يساهم في الاجابة عن الأسئلة التي تدور في ذهن الانسان عن اصل الوجود ونهايته وسببه، وعن الموت واسراره، وعن الروح واسرارها، وسواها من اسئلة عجز العلماء قديما وحديثا عن الاجابة عنها .
ومن جهة اخرى يساهم التدين في استقرار النفس، ويحقق للإنسان التوازن المادي والروحي والفكري الذي يحتاجه، كما يضبط الانفعالات والعواطف والميول، ويساهم في حصول الانسان على الراحة والطمأنينة التي يحتاجها لمواجهة صعوبات الحياة، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عجبا لأمر المؤمن . إن أمره كله خير . وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن . إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له . وإن أصابته ضراء صبر . فكان خيرا له) رواه مسلم.
ويعد التدين عاملاً مهماً في استقرار وامان المجتمعات، واقامة مبادئ التكافل والعدل والنصرة والمحبة والعطف، وما إلى ذلك من مشاعر وأخلاق ترتبط جذورها بالدين ارتباطا وثيقا، لذلك رأى الفيلسوف الألماني “فيخته” أن هناك تلازماً بين الدين والأخلاق حين فقال : “إن الدين من غير أخلاق خرافة والأخلاق من غير دين عبث”. و كذلك يرى الفيلسوف الألماني “كانت” أن الأخلاق هي الضمان الذي يوثق به الدين .
اخيرا إن القول بوجود فطرة التدين لدى الانسان ليست كافية وحدها لتحقيق التدين المطلوب من كل فرد مكلف ، بل لا بد من تعلّم شرائع الدين وتطبيقها، والاعتناء بهذه الفطرة وتنميتها بالتربية والتوجيه، ضمن القيم والأخلاق التي سار عليها الأنبياء وهدوا الناس إليها. حتى لا تضل الطريق وتنحرف عن منهج الوحدانية، وضرورة تعهدها منذ الصغر حتى لا تحيد على الخط الصحيح الذي نشأت عليه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء) رواه أحمد .
*المصدر : شؤون خليجية