مشايخ السلطان والشباب العربي
بقلم سهيل أقيور
مذ فتحت عيني على هذه الدنيا، وجدت من وجدت نفسي فيهم وترعرعت بينهم عاكفين على تأدية نسكهم واتباع النبي الأمي محمد عليه الصلاة والسلام. وها أنا أسير على نهجهم وأفعل ما يفعلون. ولكن السؤال الذي ما فتئ يراودني وأنا صغير هو كيف لهؤلاء القوم، قومي، أن يعرفوا كل هذه التفاصيل وكيف يمكنهم الحديث عن دينهم بهذه الطريقة التي يشوبها اليقين أكثر من التردد والريبة؟
وبمرور السنين توصلت إلى الجواب الشافي عن سؤالي، وهو أن كل من أستمع إليهم وهم يتحدثون أو يحدثون عن أمر من أمور الدين كانوا عادة ما يمضون ساعات طويلة أمام هذا الجهاز الذي لم يدخل البيوت إلا منذ وقت قريب ألا وهو التلفاز. هذا الجهاز الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور.
ففي البادية لم يكن هناك الكثير من العلماء ليتحلق الناس حول مجالسهم، فكنت تجد الكثير من حفاظ كتاب الله في المساجد والأسواق والأزقة ينادَوْن بأسماء تدل على سمو مقامهم الاجتماعي كونهم حفظة للقرآن الكريم، لكن رغم حفظهم الجيد والدقيق للقرآن، لم يكن بمقدورهم الذهاب إلى أبعد من ذلك فيما يتعلق بالدين. فكان أغلبهم يتجنب الحديث فيما لا يفقهه، وقلة فقط من كانت تظن أنها عالمة بالدين لمجرد حفظها للقرآن، فكانت تحدث الناس بما تراه صوابًا. ولهذا لم يكن الناس يفقهون من دينهم إلا النذر اليسير، ويكمن القول إن الناس لم تعرف من دينها إلا ما ورثته عن آبائها وأجدادها.
فقلت في نفسي ذات يوم لما بدأت أدرك ماهية الأشياء: «هذا هو السر إذًا». فتجد الناس أشد الحرص على الاستماع إلى العالم فلان الذي يقدم البرنامج الفلاني في الساعة الفلانية. فكل معرفتهم كانت نابعة من هؤلاء العلماء «الأجلاء» الذين بدأوا يخرجون الناس من ظلمات الجهل والتخبط إلى نور اليقين والإيمان. فكنت دائمًا ما اسمع أحدهم يقول: «عفوك يا الله، فقد كنا على ظلال»، وها قد جاء من ينقد الناس من الظلال ويهديهم إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم ورضي عنهم.
فقومي قوم بسطاء؛ كثيرهم أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومن يجيد منهم القراءة والكتابة لا يقرأ الكتب. قلة فقط هي من تقرأ، وحتى هذه القلة لا تعرف ما تقرأ. هذا هو حال قومي، كل معارفهم مصدرها التلفاز وما سمعوه منه، وأنا بدوري سرت على آثارهم وحذوت حذوهم حتى حين. ولما بلغت سن التمييز، أخذت أفعل كما يفعلون، فالإنسان فضولي بطبعه يحب التعلم وفهم الأشياء على أصولها وحقيقتها. فتجدني أجلس لاستمع للعلماء والمشايخ الذين وضعوا اللبنات الأولى لمعرفتنا الصحيحة بالدين الإسلامي الحنيف. فكانت شاشة التلفاز تتزين بوجوههم البهية ونحن كلنا شوق لأخذ العلم والارتواء من ينابيعه الصافية التي كان لنا معها موعد كل مساء.
ولا زلت على هذه الحال حتى بلغت من العمر ما بلغت وصرت أفعل كما يفعل أهلي عند الحديث عن مسألة فقهية أو عقائدية أو غير ذلك. فبمجرد أن يتلفظ أحدهم بكلام غير صائب أو غير منطقي تجدني أتصدى له بكل ما أوتيت من علم العلماء والمشايخ، فلا يستقيم كلام غير كلامهم ولا قول هو مخالف لقولهم. فهم كما رأيتُهم وعرفتُهم أصدق الناس وأقربهم إلى الله.
هذه قصتي أنا وهي قصة الكثيرين من الشباب العربي المسلم؛ الشباب الذي أخذ دينه عن العلماء والمشايخ الذين زينوا شاشات التلفاز لسنين طويلة. فبفضل هؤلاء صرنا نعي ما لنا وما علينا. قد لا تكون هذه المعرفة عميقة ليدخل المرء في مناظرات كما كنا نفعل أحيانًا، لكنها معرفة معقولة و«كافية» للبسطاء من الناس.
لكن هذه المعرفة الدينية حررت العقول وأنارتها، ففهم الناس أنه لا معبود حق إلا الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. هذا ما يردده العلماء على الشاشات وهو ما ترسخ في أذهان الملايين من الشباب على امتداد كل هذه السنين. ونظرًا للأزمات والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وإلى ما ذلك من المشاكل التي عاشت تحت وطأتها الشعوب العربية وما تزال من ظلم واضطهاد وسلب للحقوق، كان لزامًا الانتفاض ضد كل هذا الفساد والمطالبة بالحقوق والحرية والكرامة الاجتماعية والحياة الكريمة التي تتوفر فيها أدنى شروط العيش الكريم الذي ينبغي للإنسان أن ينعم بها.
فهذا ما جاء به الإسلام، وهو ما تعلمناه من العلماء والشيوخ طيلة هذه السنين. فالإسلام جاء ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ورفع الأغلال والقيود عن عواتقهم، وجاء أيضا ليعطي كل ذي حق حقه ويضمن للضعيف حياة لا خوف فيها من القوي بل وأسند للقوي مهمة ومسؤولية حمايته وتوفير أسباب البقاء والعيش الكريم له. كل هذا وأكثر تعلمناه ونحن صغار من مشايخنا.
لكن هذه الانتفاضة الشعبية الواسعة التي سميت بالربيع العربي تغيرت كل شيء رأسًا على عقب. فمن كان الشباب العربي يحسبهم وُعّاظًا يدافعون عن الحق و«يحرسونه» صاروا اليوم منحازين إلى الغاصب الظالم الذي لا يخاف الله ولا يقيم حرمة لدم امرئ مسلم، بل ويبررون كل ما يقوم به هؤلاء الظلمة بأدلة شرعية من الكتاب والسنة، فلا يجرؤ مخالفوهم من ذوي العقول البسيطة التفوه بكلمة ولا الوقوف في وجه من علمهم دينهم منذ نعومة أظفارهم.
ولكن الواقع مختلف تمامًا. نعم، هؤلاء العلماء هم من علم الشباب العربي أساسيات دينه ولكن هذا الشباب لم يكن في يوم من الأيام عبدًا لهؤلاء المنافقين. فعلى العكس، هذا الشباب كان في حاجة ملحة لمن يعلمه دينه ويرسخ إيمانه بخالقه. فالشباب بعد الثورة ليس كالشباب قبلها. فلم يعد الناس كقطعان الغنم تنصاع لراعيها وتذهب أينما سيرها. فلا مشايخ السلطان ولا المثقفون والفانون الذين كان لهم جماهير عريضة، من المحيط إلى الخليج، أفلحوا في ترويض الشباب العربي الذي يلهث وراء الحرية والعدالة والكرامة.
كل هذا يوضح لنا مدى تطور وتحرر وانفتاح الشباب العربي من أغلال الظلم والطغيان المادي والفكري والثقافي. وهذا ما يجب على كل عالم منافق وكل حاكم طاغية وكل سفاك دماء خائن أن يعيه، فلا بد للظلمة أن تنجلي ولا بد للنور أن يعم أرجاء الدنيا. فالشباب العربي أصبح مستقل الفكر عارفًا بأمور دينه ودنياه ولا يحتاج لمن يرشده ويعلمه، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(المصدر: ساسة بوست)