مشاهد من فقه إبراهيم – عليه السّلام- في دعوة أبيه إلى التوحيد
بقلم د. علي محمد الصلابي
إنَّ إبراهيم – عليه السّلام – حذّر أباه من عذاب الله تعالى وسخطه عليه إن مات على ما هو عليه من عبادة الأوثان وطاعة الشيطان؛ لأنه سيكون حينئذ قريناً للشيطان في العذاب والطرد من رحمة الله تعالى، قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[مريم: 45].
وقد سار الابن البار في موعظته بنداء التلطف والمحبة، بنداء الأخوة {يَا أَبَتِ}، وجاء حديثه متناسقاً مع مقام شفقة إبراهيم – عليه السّلام – وخوفه على أبيه وحرصه عليه ورحمته به حيث قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ}، فعبّر بالخوف، والخوف هو توقّع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، فهو غير مقطوع فيه بما يخاف.
إذن إبراهيم – عليه السّلام – لم يصرّح بأن عذاب لاحق، بل أخرج ذلك مخرج الخوف الدالِّ على الظنِّ دون القطع، وذلك تأدباً مع الله تعالى أيضاً، فهو لم يثبت أمراً فيما هو من تصرف الله تعالى، وأيضاً إبقاءً للرحمة في نفس أبيه؛ لينظر في التخلص من ذلك العذاب بالإقلاع عن عبادة الأوثان وطاعة الشيطان. (تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، 16/118)
ولو قال لأبيه: إنَّ العذاب لاحقٌ بك لأقنطه ولأغلق أمامه النجاة التي ربما ينظر في ولوجها، وعبّر عن لحوق العذاب بأبيه وإصابته له، بلفظ المسّ الذي هو ألطف من المعاقبة، والمشعر بقليل من الإصابة، ولم يذكر له ما يُنبئ عن شدة العذاب، كما نكّر لفظ “العذاب” للتقليل. (تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص194)
وذكر صفة {الرَّحْمَنِ} هو للإشارة إلى أن حلول العذاب من شأنه أن يرحم إنما كان لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمة من شأنه سعة الرّحمة . (تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، 16/118).
وأُوثرت تلك الصفة أيضاً؛ للإشعار بأن الرّحمة لا تمنع حلول العذاب، ولا تنافيه وفي الوصف أيضاً دلالة على سبق الرّحمة الغضب، وقيل: إنَّ التنكير في كلمة “عذاب” للتعظيم، والمراد بالمسّ مطلق الإصابة، فيكون مقصوداً به المبالغة فيها، كما في قوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ]النور:14[، والمقام مقام تخويف وتحذير، فيناسبه ذلك، وقيل: إن تنكير “عذاب” للتهويل. (تأملات في سورة مريم، ص194)
ولما حذّر إبراهيم أباه من عذاب الله بيّن له مآل هذا العذاب والنتيجة المترتبة عليه، فقال: {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}، أي: في الدنيا والآخرة، فتنزل بمنازله الذميمة، وترتع في مراتعه الوخيمة، فتدرّج الخليل – عليه السّلام – بدعوة أبيه بالأسهل فالأسهل، فأخبره بعلمه، وأن ذلك موجب لاتّباعك إياي، وأنّك إن أطعتني؛ اهتديت إلى صراط مستقيم، ثم نهاه عن عباد الشيطان، وأخبره بما فيها من المضارّ، ثم حذره عقاب الله ونقمته إن أقام على حاله، وأنّه يكون ولياً للشيطان. (تفسير السعدي ، ص1001)
وقال الشنقيطي: معنى عبادته للشيطان في قوله: {لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} طاعته للشيطان في الكفر والمعاصي، فلذلك الشرك شرك طاعة كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} ]يس:60-61[، والآية تدلُّ على أن الكفار المعذبين يوم القيامة أولياء الشيطان؛ لقوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}، والآيات الدالّة على أن الكفار أولياء الشيطان كثيرة، كقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} ]النساء:76[، وقوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ]آل عمران:175[، وقوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ]الأعراف:30[، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
وكل من كان الشيطان يزيّن له الكفر والمعاصي فيتبعه في ذلك في الدنيا، فلا ولي له في الآخرة إلا الشيطان، كما قال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}]النحل:63[، ومن كان لا ولي له يوم القيامة إلا الشيطان تحقق أنه لا ولي له ينفعه يوم القيامة. (أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، 4/208).
ولكن هذه اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقّها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي، فإذا آزر أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد. (في ظلال القرآن، سيد قطب، 4/2312).
المصدر: د. علي محمد الصلابي، إبراهيم (عليه السّلام)خليلُ الله، ص 352-357.