بقلم فراس أبو هلال
فتحت “مسيرة العودة الكبرى” وما رافقها من رد إجرامي من جيش الاحتلال نقاشا كبيرا حول جدوى المسيرة، وإن كانت تستحق كل هذه التضحيات التي زادت عن 15 شهيدا ومئات الجرحى، وهو نقاش ربما لا يقل أهمية عن المسيرة بحد ذاتها، بل إننا تعتقد أن أحد أسباب أهمية المسيرة تنطلق من هذا النقاش.
لقد أعادت المسيرة والنقاش حولها التذكير بأبجديات الصراع مع الاحتلال، بعد غياب هذه الأبجديات وتراجعها في ظل انتكاسة المشروع الوطني الفلسطيني لسنوات طويلة، وقدم الفلسطينيون في هذه المسيرة العظيمة دماء أبنائهم ثمنا للتذكير بهذه الأبجديات.
أولى الأبجديات التي أعادت المسيرة التذكير بها هي أن الصراع في فلسطين هو بين شعب أعزل محتل وبين دولة احتلال غاشمة، وهنا تكمن أهمية النضال الشعبي في مواجهة الاحتلال، بعد سنوات من تقزيم قضية فلسطين إلى صراع داخلي على سلطة وهمية، وتحويلها من قضية سياسية ووطنية بامتياز إلى شأن إنساني يتعلق بحصار غزة وأموال الضرائب والكهرباء، وغيرها من القضايا، التي على أهميتها، لا تمثل أساس الصراع الحقيقي في المنطقة.
لقد صنعت أوسلو وخيارها الكارثي انطباعا مشوها لعدة عقود عن القضية الفلسطينية، إذ أصبحت تظهر في الإعلام والمحافل السياسية العالمية وكأنها خلاف بين كيانين “جارين” هما السلطة ودولة الاحتلال، في حين أنها قضية شعب مهجر ومحروم من الحرية والاستقلال من قبل قوة احتلال إحلالية تصادر الأرض والتاريخ والحاضر والأحلام والمستقبل، وهذا بالضبط ما استطاعت المسيرة الكبرى أن تعيد التذكير به، سواء للرأي العام العالمي أو حتى لأبناء القضية ومحبيها ومناصريها من فلسطينيين وعرب ومسلمين وأحرار في كل العالم.
لقد صنعت أوسلو وخيارها الكارثي انطباعا مشوها لعدة عقود عن القضية الفلسطينية، إذ أصبحت تظهر في الإعلام والمحافل السياسية العالمية وكأنها خلاف بين كيانين “جارين” هما السلطة ودولة الاحتلال، في حين أنها قضية شعب مهجر ومحروم من الحرية والاستقلال
ثانية الأبجديات التي أعادت المسيرة التذكير بها هي أن الأصل في العلاقة بين الشعوب المحتلة وبين الاحتلال هي “الاشتباك” وليس الخمول. هذا الاشتباك يحدده فقط أصحاب الأرض وأصحاب الحق، لأنهم هم من يدفعون ثمنه، وهذا ما حصل بالضبط حينما قرر الفلسطينيون لا غيرهم أنهم سيشتبكون مع الاحتلال بصدورهم العارية وأنهم مستعدون لدفع ثمن هذا الاشتباك.
إن غياب الاشتباك مع الاحتلال هو الحالة المثالية التي يسعى لها، لأنه يحقق بذلك احتلالا “باذخا” ثمنه صفر، لا أعباء مادية ولا سياسية ولا أمنية له، وهو ما استطاع الاحتلال تحقيقه بفضل خيار أوسلو الكارثي لسنوات طويلة باستثناء بعض المحطات القليلة بعد انتهاء الانتفاضة الثانية، فجاءت هذه المسيرة لتكون المحطة الأهم في حرمان تل أبيب من الاستمتاع بهذا الاحتلال “المثالي” بالنسبة لها.
إن غياب الاشتباك مع الاحتلال هو الحالة المثالية التي يسعى لها، لأنه يحقق بذلك احتلالا “باذخا” ثمنه صفر، لا أعباء مادية ولا سياسية ولا أمنية له
ثالثة الأبجديات التي أعادت المسيرة التذكير بها هي أن الاحتلال هو أصل الشرور، وأنه المسؤول الأول والأخير عن كل العذابات التي يعيشها ويتعرض لها الفلسطينيون. فالاحتلال لا يقبل، بحكم طبيعته، أن يرفع الشعب المحتل صوته أو أن يطالب بحقوقه ولو بمجرد الكلام، وهذه المسيرة أثبتت أن الاحتلال يمارس إجرامه ودمويته بغض النظر عن طبيعة المقاومة التي يبديها الفلسطينيون، حتى لو كانت مسيرة سلمية خالصة.
وفي إطار النقاش حول المسيرة تساءل البعض عن جدوى هذا العمل الشعبي بمقابل الحجم الهائل من الضحايا، والحقيقة أن أفضل جواب على هذا التساؤل هو بمتابعة “التحريك” الذي سببته المسيرة في السياسة والإعلام على مستوى العالم، حيث أظهرت إجرام الاحتلال وساديته، وجعلت دولة الاحتلال تظهر على حقيقتها العارية أمام العالم كدولة مارقة مجرمة، حتى إن هذه الصورة أدت إلى خلخلة الجبهة الصهيونية الداخلية كما لم يحدث من الانتفاضة الأولى إلى اليوم.
رابعة الأبجديات التي أعادتها المسيرة إلى الواجهة هي قضية اللاجئين. لقد كانت فلسطين في بداياتها قضية “إنسان” و”لاجئين”، ولهذا كانت كثير من القرارات الصادرة من الأمم المتحدة بعد احتلال فلسطين عام 1948 هي قرارات تتعلق بالعودة واللاجئين، ولكن أهمية ومحورية قضية اللاجئين بدأت تتراجع مع دخول منظمة التحرير الفلسطينية في مسار السلام بناء على قرار 242 و 338، ثم قضت أوسلو تماما على أهمية اللاجئين بمقابل التركيز على “الدولة”، وبهذا تحولت مركزية الصراع من “الإنسان” إلى “الدولة”.
ومن هنا فإن مسيرة العودة الكبرى تمتلك أهمية بالغة في تركيزها على “العودة”، خصوصا في ظل فشل كل مبادرات التسوية في طرح مشروع شامل وواضح لعودة اللاجئين، بما في ذلك المبادرة العربية للسلام.
من المؤكد أن من قرر الخروج في مسيرة العودة الكبرى من فلسطينيي غزة لم يتوقع أنها ستعيده حقيقة إلى أرضه أو أنها ستنهي الاحتلال، ومن المؤكد أيضا أن حجم التضحيات في المسيرة كان كبيرا ومؤلما، ولكنها بلا شك هي التعبير الأمثل عن الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال، وهي الحدث الأبرز في المقاومة الشعبية الشاملة منذ انتفاضة الأقصى.
—
ختاما.. يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش: “ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”..
فالفسطينيون يحبون الحياة، ولكنهم لا يستطيعون إليها سبيلا بسبب الاحتلال الجاثم على صدورهم، ولهذا فإن من استشهد في مسيرة العودة الكبرى لم يكن محبا للموت، ولكنه مات وهو يناضل بحثا عن حياة أجمل بلا احتلال ولا قمع ولا لجوء ولا حصار.. فلا تلوموا الشهداء ولكن لوموا الاحتلال الذي قتلهم مرتين، مرة بحرمانهم من حق الحياة بحرية، ومرة بإطلاق النار على صدورهم العارية.
(المصدر: موقع بصائر)