مسيرات العودة.. العودة حق كالشمس
بقلم د. محمد إبراهيم المدهون
فلسطين على مرمى حجر، وأرضها المغتصبة أمام ناظري أبنائها البررة الذين يرحلون إليها كل جمعة وثلاثاء من كل أسبوع، وعلى مدار عام كامل ليجسدوا المعنى الأكبر لـمسيرات العودة بصناعة الوعي أولاً بحق العودة لأجيال لم تعرف من فلسطين إلا غزة المحاصرة، ها هي ترى بلادها أكبر من هذا السجن الظالم بظلم محاصري غزة.
مسيرات العودة ترسم الأمل بالعودة حتماً على قاعدة المدافعة ولو بالأكف العزل وفق الأمر الإلهي “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير”. ولسان حال المحتشدين في مخيمات العودة “والله يا فلسطين إنك أحب أرض الله إلى قلوبنا، ولولا أن آباءنا أُخرجوا منها لما خرجنا، وإنا لعائدون”. في مسيرات العودة ومخيماتها يجسد أهل الرباط العسقلاني الممتد في أقرب نقاط التماس مع أرضنا المحتلة نموذج يخشاه المغتصب ومحتل هذه الأرض بمليونيات العودة الشعبية التي تقرع الأرض بأقدامها لتعيد الاعتبار للتاريخ، وتمحو عبرانيتهم الغريبة التي لا تفهمها الأرض التي تتكلم العربية بطلاقة.
مسيرات العودة تعيد الاعتبار إلى خطاب الأولويات في ظل تيه المرحلة، وتشتت الجمع والغرق في مستنقع التنسيق الأمني، فالأولوية الفلسطينية في الاحتشاد دفاعًا عن الحق في العودة والتحرير للأرض المغتصبة، وفي إعادة الاعتبار لأهم ثابت وقضية (حق العودة)، وتثبيتها في أذهان أجيالنا بعد أكثر من 70 سنة من التهجير واللجوء لنبطل مكرهم “الكبار يموتون، والصغار ينسون”. مسيرات العودة تعيد الاعتبار للجيل الرابع فتعيد صياغته على عين الله تعالى ليمثل الحلم والأمل بالعودة عبر تمسكه بها كحق وممارستها سلوكًا بالاحتشاد والمقاومة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، “ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبًا”.
انطلاق مسيرات العودة قبل عام دشن لمرحلة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني عنوانها الوحدة الوطنية بإعلان تأسيس الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار، والتي تمثل كافة القوى الوطنية دون استثناء لتمثل مشهدًا فريداً غاب عن التاريخ الفلسطيني المعاصر الذي سادته الفرقة والانقسام. الشعب الفلسطيني عبر مسيرات العودة أكد انحيازه إلى العمل الموحد، وأن النضال والمقاومة محل إجماع وطني، وأن ما يلتقي عليه الشعب الفلسطيني وقواه، ويجتمع أكبر بكثير من الافتراق. وأن مسيرات العودة برخمها الشعبي ومقاومتها السلمية تمثل نقطة التقاء الفرقاء، وأننا يمكن كمجموع فلسطيني أن نجعل من الهيئة الوطنية منطلق إلى اعتماد برنامج وطني موحد في السياسة والمقاومة وإدارة الشأن الداخلي على قواعد الشراكة والوحدة والمصالحة.
إن توقيع اتفاق المصالحة مثَّل مدخلاً مهماً وضرورياً ولكن للأسف مازال مشروع المصالحة يواجه عقبات جمَّة رغم الحضور الغزي على حدود أرضه التاريخية ويطفو على السطح بشكل غير وطني سلوك نشاز يتمثل في رئيس يعاقب شعبه بإجراءات انتقامية، فيما يخوض شعبه ملحمة أسطورية بالاحتشاد في مخيمات العودة. واليوم المطلوب وطنياً أكثر من أي وقت مضى وفي ظل التحدي والدماء والآلام والقتل المضي قدماً في تطبيق بنود المصالحة، بعقد الإطار القيادي لمنظمة التحرير كمدخل لإعادة بناء منظمة التحرير، وأن يقوم المجلس التشريعي وحكومة وحدة وطنية بدوره لحين اجراء الانتخابات للتشريعي والرئاسة التي تشمل القدس والضفة وغزة ومع آليات واضحة وضمان نزاهة كاملة. إن لم يتحقق ذلك فمن الضروري الذهاب للخيارات الأخرى ومنها ما لوح به عباس بحل السلطة وتسليم مفاتيحها واعتقد من الملائم جداً بلورة قيادة للشعب الفلسطيني عبر توافق وطني يضم المجموع الفلسطيني مع العمل لتوفير عناصر الثقة الداخلية والعلاقات الخارجية، وهذه القيادة تمثل مجلس قيادة الثورة الفلسطينية المستمرة.
ولعل التحول اللافت في ملحمة مسيرات العودة والاحتشاد الشعبي السلمي الهائل والاستعداد العالي للتضحية والوقوف الكامل إلى جانب المقاومة الشعبية ومشروعها ومن ذلك شخصيات ومؤسسات وتيارات وطنية وهذا يستدعي المبادرة لإشراك جميع ألوان الطيف الفلسطيني ليس فصائلياً وحسب بل ومؤسسات وشخصيات ونقابات وقطاعات خاصة وقطاعات أهلية. وما يصاحب ذلك من انفتاح على جميع قطاعات شعبنا الفلسطيني وتعضيد العلاقات البينية وتمتين مشروع الوحدة والمصالحة والاستمرار فيه، ومن ثم دراسة الملفات الكبرى ومنها حل السلطة وبناء منظمة التحرير كمرجعية فلسطينية جامعة. “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”.
لقد ساق الله هذا الاحتشاد الشعبي الملحمي والكرامة عبر مسيرات العودة لتحمل رسالة المضي قدماً في برنامج المقاومة الشاملة ليتحول إلى مشروع تحرير وعدم الالتفاف إلى سفاسف الأمور. ولكن هذا المشروع يحتاج إلى تطوير ضمن نظرية أمنية مكتملة الأركان تحقق حماية المواطنين والشعب بتوفير وسائل ردع للعدوان تمنع الاحتلال من الإيغال في دماء المدنيين السلميين مع توفير بنية تحتية مساندة وحامية بقدر المستطاع للشعب، ودون الوصول إلى حافة الهاوية نحو عدوان مستعر جديد.
مارست (إسرائيل) عدواناً همجياً سبقه وما زال حصار خانق للشعب الفلسطيني ومن المهم أن تكون الرسالة واضحة بأنه غير مسموح (لإسرائيل) أن تستمر في سياستها الظالمة بحصار غزة، وفتح المعابر الخطوة الأكثر تعبيراً عن إنهاء حقبة من الحصار الظالم. وفي المقابل فإن (إسرائيل) تسعى لتقليل مكاسب الشعب الفلسطيني عبر المقاومة بالسلوك اليومي والإجرائي لإدارة المعابر، وعبر التنكر لحق العودة عبر صفقة ترامب بشطب حق اللاجئين في العودة وإنهاء الأونروا.
ومن الضروري في هذا السياق أن يحدث تغير في منهجية عمل عباس بدلاً من فرض إجراءات انتقامية ضد أهل غزة وإنما أن يواكب المستوى المتصاعد للشعب الفلسطيني في الأداء والصمود على قاعدة أن ما لم يحققه بالمفاوضات البائسة يمكن أن يحققه بالسياسة القائمة على المراهنة على الشعب الفلسطيني ووحدته، وتحقيق مصالحة جادة ومسؤولة لا تتنكر لغزة وتضحياتها، وألا يستمر في تكريس نهجه الذي سقط بتلاشي حل الدولتين وبقائه فقط منسقًا أمنيًا للاحتلال مما يخلق تباين مريع في المواقف الفلسطينية. والسياسة كالميدان معركة لا بد من الانتصار فيها لصالح مشروع المقاومة الشاملة، ومنها السلمية التي يدعو لها عباس.
إن إزالة أثار الدماء وتضميد الجراح من الأولويات القصوى عبر تقديم الدعم الضروري والعاجل وتوفير الدعم للعائلات المكلومة من أهالي الشهداء والجرحى، وهذا يحتاج إلى تسخير كل الطاقات لتحقيق هذه الأولوية العاجلة جداً مع السعي بسرعة قصوى لإطلاق مشروع الاحتضان الدائم بتوفير مورد مالي لكل أسرة بالطريقة التي تحفظ الكرامة وتصون النسيج وتدفع غول البطالة. ويذكر لحماس فيشكر منحها أولوية لإسناد الحاضنة الشعبية سواء بتوجيه الأموال القطرية لصالح الشرائح الأشد حاجة، والشباب العاطل عن العمل، فضلاً عن مساهمتها المالية المباشرة في ذلك.
إن إنجاز الاحتشاد الأسطوري للشعب الفلسطيني عبر مسيرات العودة وانتصار المقاومة الشعبية في ميادين النزال يقتضي الحديث بلغة جمعية “نحن الشعب الفلسطيني” و”المقاومة” وليس باسم تيار سياسي أو جهاز عسكري، مع معالجة التباين الدائر في مفردات الخطاب الإعلامي وتوحيده عبر مكتب إعلامي موحد وبسياسة إعلامية مصاغة بعناية بوصلتها تحرير فلسطين ومرحلتها احتشاد شعبي سلمي موحد تحت راية فلسطين فقط، مع الاستمرار في حالة التحشيد والتعبئة شعبياً لصالح هذا المشروع الحيوي في ميدان النزال مع الاحتلال من مسافة صفر عبر التماس مع السلك الزائل لكافة شرائح الشعب الفلسطيني وكافة قواه الوطنية في تجسيد صورة هامة لحالة التعاضد للجبهة الداخلية والمجتمع المدني، مع حلمها في العودة عبر مشروعها الوطني الرائد مسيرات العودة.
(المصدر: مدونات الجزيرة)