مقالاتمقالات مختارة

مسلمو أمريكا.. بين مطرقة اليمين المتطرف وسندان الليبرالية!

مسلمو أمريكا.. بين مطرقة اليمين المتطرف وسندان الليبرالية!

بقلم مهند حكيم

“وفي الختام أوصي نفسي وإخواني بتقوى الله تعالى، كما وأحثكم على دعم المرشح الفلاني في الانتخابات المقبلة، فهو يضمن الحرية الشخصية والحقوق المدنية لكل الناس، من دون تمييز بين البيض والسود والعرب وغيرهم. طبعا لا يخفى على أحد أنه ينادي بحقوق الشاذين جنسياً ويطالب بتسهيل إجهاض الجنين، ويسعى إلى تقنين تجارة الماريجوانا وعدم تجريمها. لكن من باب أخف الضررين وأهون الشرين، وما لا يدرك كله لا يترك جله، نوصيكم بدعم ذلك المرشح بقوة وفعالية.. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم”.

قد لا تسمع مثل هذا الخطاب في خطبة الجمعة في أحد مساجد أمريكا، إذ لا يتيح القانون الأمريكي للجمعيات الخيرية أن تدعم مرشحاً أو حزباً بعينه. لكن هذا الخطاب المتخيل يعبر عن لسان حال الجالية العربية والمسلمة في الولايات المتحدة الأمريكية التي تخوض تجربة فريدة من نوعها، وتحالفات سياسية وفكرية فرضتها طبيعة المجتمع الأمريكي والقطبية الشديدة بين اليمين واليسار. فمن ناحية، هناك التحديات المباشرة والمتمثلة في سياسات ترامب وخطاباته وأجندته المعادية والصريحة للإسلام، أو ما يعرف بالإسلاموفوبيا. لكن في المقابل تأتي هذه التحالفات على حساب ثوابت ومبادئ شرعية إسلامية، وتطرح العديد من الأسئلة التي سنحاول هذا المقال أن نستعرضها.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أدركنا كجالية سواء على مستوى القيادات أو الأفراد أهمية المشاركة الفاعلة في النسيج السياسي الأمريكي. لكن كما يقولون هنا في أمريكا، عندما تصل إلى العشاء متأخراً فربما لا تطمح بأكثر من الفتات، وعندما لا تكون جالساً على طاولة العشاء كأحد المدعوين، فهذا يعني أنك على قائمة الطعام ومن ضمن الوجبات التي ستلتهم من الأطراف الموجودة. هذا المثال الذي يذكرني كثيراً ب “تداعي الأكلة إلى قصعتها” كما في الحديث الشريف يلخص كثيراً من النقاشات الفكرية التي تأخذ حيزا كبيرا من حياة الناس، بدءاً من النوادي والمساجد وانتهاء بالمقاهي وجلسات الشيشة.

ساهمت التحالفات والتجارب بشكل فعال في مساعدة الجالية المسلمة على استكشاف هويتها وخطابها ومواطن قواتها وضعفها. لكنها بالمقابل أتت محملة ببعض التنازل والتجاهل للأجندة الكاملة للتيار الليبرالي

المهم أننا كمسلمين، جلسنا أخيرا على طاولة السياسة الداخلية الأمريكية، وبدأنا رحلة التعرف على مكوناتها والتعلم “من أين تؤكل الكتف”. بدأنا بمسلمات وقضايا كالقضية الفلسطينية التي كنا ولا زلنا نراها تجسيداً لظلم النظام الرأسمالي العالمي. فيما بعد، انضمت بلدان أخرى إلى هذه القائمة، من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى مصر، وبدأت قاعدة “إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى” تدخلنا في دوامة رد الفعل ومحاولة إطفاء كل هذه الحرائق. لكننا فتحنا أعيننا على قضايا وحقوق لا تقل أهمية عن شؤون الوطن العربي، وأدركنا أننا أكلنا بالفعل يوم أكل الثور الأسود.

بدأنا نرى العنف الممنهج من الشرطة للأمريكان السود، والأرقام الفاضحة التي تكشف استعداد العديد من رجال الشرطة البيض للضغط على الزناد ولو كان الضحية صغير السن، أو أباً مع أطفاله في السيارة، أو حتى مواطنا آمنا في حديقة منزله. بدأنا نشعر بمعاناة الجاليات اللاتينية من المكسيك وأميركا الجنوبية، إلى جانب مواطني بورتو ريكو (التي هي بالأصل ولاية أمريكية لكنها تعامل على أنها جسم دخيل على نسيج المجتمع الأمريكي).

ولعل تعدد هذه الجراح واتساع رقعتها هو ما دفعنا كجالية للبحث عن أقرب المقربين للدفاع عن حقوق الإنسان: التيارات الليبرالية واليسارية، وما يعرف في أميركا بالـ progressive movement  يترأس هذا التيار بلا منازع السيناتور اليهودي المعادي للصهيونية بيرني ساندرز، والذي يطلق عليه العرب والمسلمين لقب “عمو برني – Uncle Bernie” ويتندر بعضهم بالتعبير عن حبهم له بقولهم “يقبرني بيرني”.

من أبرز وجوه المسلمين في أميركا حماساً وانضماما تحت لواء بيرني ساندرز وتياره هي الناشطة ليندا صرصور، والتي أثبتت حضورها وفعاليتها لا في المؤتمرات المنصات الإعلامية والتلفزيونية وحسب، بل “على الارض” وفي ميادين المظاهرات التي بدأت بالمطالبة بحقوق السود والمنددة بالعنف ضد الشرطة (Black Lives Matter)، واتسعت لتشمل مظاهرات مليونية للحركات النسوية (Womens march) خاصة مع ظهور حملة (Metoo) ضد التحرش الجنسي.

ثم هناك الطبيب الشاب د. عبد الرحمن السيد، الذي حاول الترشح لمنصب حاكم ولاية ميشيجان عن المقعد الديموقراطي بأجندة يسارية بحتة، ومن دون تلقي أي دعم مادي من الشركات الكبرى ورؤوس الاموال العملاقة. ومع أن الدكتور عبد الرحمن (و الذي استخدم اسم Abdul في حملته) خسر في الانتخابات التمهيدية (340 ألفا في مقابل 540 ألف صوت لمنافسته Whitmer) لكنه أثبت قدرة هائلة على تجميع أصوات الشباب والاقليات وبناء التحالفات الاستراتيجية من دون التخلي عن اعتزازه بهويته المسلمة وأصول والديه الغير أمريكية.

قد تأتي فاتورة التحالف المرحلي مع التيارات اليسارية على شكل قرض ربوي غير حسن يستدعي منا دفعه في سنوات لاحقة مع الفائدة والضرائب والغرامات

ساهمت هذه التحالفات والتجارب بشكل فعال في مساعدة الجالية المسلمة على استكشاف هويتها وخطابها ومواطن قواتها وضعفها. لكنها بالمقابل أتت محملة ببعض التنازل والتجاهل للأجندة الكاملة للتيار الليبرالي، والتي تتضمن في جوهرها ثورة على قيود الدين والقيم العائلية والمحافظة. هذا التيار يربط حق المرأة في ارتداء الحجاب بحق الرجلين أن يتزوجا من بعضهما، ويدافع عن التمييز العنصري ضد اللاجئين السوريين مثل دفاعه عن حرية المراهقين لاكتشاف هويتهم الجنسية والتحول من ذكر إلى أنثى إذا أرادوا ذلك. هذا التيار يعتبر أن القوانين التي تجرم التجارة بالمخدرات هي ذريعة للزج بالافارقة الامريكان في السجون، وبالتالي ينادي بتشريع الماريجوانا (recreational marijuana ) بدعوى أنها تقننها وتحدد من فوضى انتشارها الغير شرعي.

طبعا هذا العرض السريع لبعض المواقف لا ينفي أن هناك أصواتاً تسعى لإيجاد التوازن المطلوب بين احترام اليمين المحافظ للقيم العائلية ودفاع اليسار المستميت عن حقوق الانسان. هذه الاصوات – مع احترامنا الشديد لجهودها وتقديرنا لحسن نواياها – لم تتخذ موقفاً واضحاً وجامعاً من هذه القضايا، ولم توفق على الاقل حتى تاريخ كتابة هذه السطور لإيجاد أرضية مشتركة وتأصيل شرعي لضوابط مشاركة المسلمين السياسية في الحياة الأمريكية.

ربما نحاول أن نتبع هذا المقال بغيره حتى نعطي هذا الموضوع حقه من التغطية، لكن لا بد أن نختم ببعض التوصيات والافكار التي لا بد أن تكون على أجندة أي مراقب ومهتم ومطلع على قضايا المسلمين في العالم الغربي عامة وفي أميركا خاصة:

1- من الخطأ أن تشغلنا هذه السلبيات والانتقادات عن الإنجازات الهائلة التي حققتها مشاركة الجالية الفاعلة واندماجها الإيجابي في الحياة السياسية الأمريكية. وللأسف فإن طبيعة البشر تميل إلى التهويل من الأخطاء ونقاط الضعف على حساب الإيجابيات، فوجب التنبيه.

2- من السهل على كاتب المقال -رغم انخراطه في الحياة الدعوية والاجتماعية في مدينة ديربورن بولاية ميشجان- التنظير وإعطاء الآراء من خارج دوائر صنع القرار، وكما يقال “اللي بيأكل العصي غير اللي بيعدها”.

3- ليس من أراد الحق فأخطأه مثل من أراد الباطل فأصابه، لا بد أن نقيم كل تجربة بحسناتها وسيئاتها وأن نسعى إلى تراكم الخبرات والمعارف في هذه المجالات حتى لو أدى ذلك إلى بعض الخيارات الخاطئة أو الغير محسوبة العواقب. فما زلنا كجالية نخطو خطوات مبدئية في هذا المجال ونتعلم من أخطاءنا (baby steps).

4- قد تأتي فاتورة التحالف المرحلي مع التيارات اليسارية على شكل قرض ربوي غير حسن يستدعي منا دفعه في سنوات لاحقة مع الفائدة والضرائب والغرامات. عدو عدوي قد لا يكون هو الصديق الأمثل.

5- نظراً لدور أمريكا وتأثيرها على مستوى الدول والعالم، قد يكون من الضرورة بمكان الاستعانة بالخبرات العلمية والبحثية في أرجاء شتى من العالم الإسلامي (تركيا، أندونيسيا، الهند، … ) وأن يتم التواصل بين شرق الأمة الإسلامية وغربها حتى نضمن نضج التجربة وحتى نتجنب الوقوع في أخطاء من سبقونا ونتعلم منهم.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى