مسلسل «جن» بين الصراحة والوقاحة!
بقلم سائد جاغوب
تم تقديم مسلسل «جن» على «نتفلكس» باعتباره أول مسلسل أردني عربي يعرض على هذه الشبكة. هذه المسلسل صار حديث الناس في أول أيام العرض بعد أن تجاوز كافة الخطوط الحمراء، وتجاوز جميع الأسقف بنشره مقاطع مخلة بالآداب قام بتأديتها مجموعة مراهقين لا يحملون من الأردن إلا جنسيته ولا يعرفون عنه إلا الأماكن التي صوروا فيها هذا (المسخ) الذي ينسب زورًا وبهتانًا إلى الفن!
حدثت ما يشبه الثورة العارمة على مواقع التواصل الاجتماعي مستنكرة هذا التجرؤ على القيم والأعراف، وبالطبع ظهرت فئة قليلة ومعزولة تدافع عن هذا العمل باعتباره فنًا يتناول ظواهر موجودة في المجتمع وتحدث على أرض الواقع! عبارة (أرض الواقع) عبارة مستفزة جدًا وتسبب الغيظ و«النرفزة»! يرددها هؤلاء بطريقة ببغاوية ممجوجة تعكس جهلًا مركبًا وسوء فهم يثير الدهشة! لغاية الآن لا تستطيع هذه الفئة من الناس التمييز بين ما يصح تمثيله وبين ما لا يصح!
بين (الصراحة) و(الوقاحة) بعد المشرقين، ورغم ذلك يجد كثير من هؤلاء صعوبة في التفريق بينهما!
صحيح أن مهمة الفن عرض الواقع كما يحدث وتناول الظواهر السلبية من أجل لفت النظر إليها ومعالجتها، ولكن ليس كل ما يحدث على أرض الواقع يمكن نسخه كما هو وكما يحدث! المجتمع يكتظ بكثير من الظواهر السلبية التي لا يمكن إنكارها: مخدرات، سرقات، اغتصاب، رشاوي، فساد، انحلال أخلاقي… إلخ. تناول الفن لهذه الظواهر واجب باعتبار الفن مرآة تعكس ما يحدث على أرض الواقع، ولكن! حينما يتحدث مسلسل أو فيلم عن ظاهرة المخدرات مثلًا ويقدمها للناس كما هي فلن يستطيع أي أحد أن يعترض لأن ما يجري مجرد (تمثيل)، وحين يتحدث مقطع في مسلسل عن ظاهرة تعاطي المشروبات الكحولية، فإن ما يجري أيضًا ليس سوى تمثيل، ولا يوجد شرب حقيقي لهذه المسكرات؛ لأنه يمكن بكل بساطة الاستبدال بها بأحد أنواع العصير، فالممثل فعليًا لم يسكر، ولم يتناول المخدرات، ولم يقدم رشوة حقيقية!
حين يتعلق الأمر بالشذوذ والانحلال الأخلاقي والعلاقات الجنسية أو حتى مقدماتها فالأمر مختلف تمامًا، التمثيل هنا لا يصح وغير مقبول بتاتًا، ولا يمكن تبريره، أو اعتباره نقلًا للواقع لأسباب كثيرة: مجتمعنا مجتمع شرقي محافظ ويعتز بدينه وقيمه وأعرافه ولا يقبل أو يستسيغ مثل هذه المشاهد؛ لأنها مشاهد خادشة للحياء ومخلة بالأدب ومثيرة للغرائز ومخالفة لتعاليم الدين، ولا يصح فيها التمثيل!
القبلات والتلامس الجسدي والمقاطع الساخنة وما يتبعها مقاطع (حقيقية) أي أنها حدثت بالفعل ولم تتم بين دمى أو رسوم متحركة! حتى لو كان الأمر تمثيلًا، ولكن أفعاله والالتقاء الجسدي فيه تم على الحقيقة بكل ما يثيره في المشاهد من شهوات وغرائز! هنالك فرق جذري بين تمثيل مقطع لتعاطي المخدرات وبين تمثيل مقطع يحتوي إيحاءات جنسية لأن الأول لا يثير أي غريزة، ولا يطلق العنان للخيال، بينما الثاني يفعل كل ذلك! إذا كانت نية القائمين على مثل هذه الأعمال الصافية – وهذا أمر مستبعد وتكذبه الحقائق – فإنهم يستطيعون وبكل بساطة تناول أي ظاهرة تتعلق بموضوع الجنس بالكلام عنها لا بتمثيلها حرفيًا! بعض الظواهر تستطيع تناولها بكل جرأة وصراحة دون أن تمثل كيفية حدوثها.. الأمر ليس معقدًا، ولكن وراء الأكمة ما وراءها!
عدة حوادث اغتصاب حدثت خلال هذا العام فهل يمكن أن نقبل لمسلسل أن يعرض لنا مشاهد تصور ما حدث كما حدث باعتباره شيئًا موجودًا بالفعل وباعتباره نقلًا للواقع؟ وهل يمكن أن نقبل بفيلم (إباحي) باعتبار أن هذا الشيء يحدث في الواقع أيضًا، وأننا يجب أن نقبل به؟ وهل عدم التطرق للفساد السياسي والاقتصادي بشكل كاف يفرض على الناس السكوت على الفساد والانحلال الأخلاقي؟ نحن مجتمع وإن كان لدى جزء من أبنائه انحلال وفساد أخلاقي على المستوى الفردي فإنه يرفض تمامًا سياسة (المجاهرة) و(نشر) هذا الفساد؛ لأن العواقب ستشمل الجميع، برهم وفاجرهم.
ثم من قال لكم إن هؤلاء القائمين على مثل هذه اامسلسلات هدفهم كشف هذه الظواهر أو معالجتها أو نقل الواقع بسلبياته وإيجابياته؟ القائمون على عمل كهذا يبدو بشكل واضح أن لديهم مشكلةً كبيرةً مع قيم العفة والطهارة والحياء، ويبدو أن لديهم ثأرًا مع المجتمعات المحافظة، هؤلاء ليسوا سوى مجموعة فاقدة لكل وازع ديني وأخلاقي وقيمي هدفها الأول الربح المادي وإفساد المجتمع وتدمير القيم عن طريق تشجيع هذه الظواهر وجعلها أمرًا مقبولًا ومستساغًا وطبيعيًا.
هم يعلمون تمام العلم أن مجموعة من المراهقين المغمورين لا يمكن بحال من الأحوال أن يجذبوا نسب مشاهدة عالية فكان لا بد من اللجوء لأسرع الطرق في جذب الناس، وهل أفضل من المشاهد الساخنة التي تثير الغرائز وتثير معها الجدل؟ كل هذا العمل المدروس فقط من أجل انتشال هذا العمل من مستنقع الفشل المتوقع.
هنالك فئة أشد سوءًا من الفئة الببغاوية وهي التي تريدنا أن ننظر لمثل هكذا (وقاحة) من منظور (فني) بحت بغض النظر عن المحتوى باعتبار أن أي يعمل فني مهما كان نوعه يجب أن يقيم من ناحية الأداء والمونتاج والتصوير والإخراج لا من ناحية كونه مناسبًا لقيم وأعراف المجتمع! لا أدري إن كان هؤلاء من مواليد (نيويورك) أو (لاس فيغاس)، ولكن يبدو أنهم يعيشون حالة انفصام مزمنة باسم الفن ويبدو أنهم يتناسون أن الفن إذا لم ينطلق من قيم وتقاليد المجتمع الذي يمثله فهو فن تدميري منسلخ عن بيئته، ولا يصح أن يمثل المجتمع بأية حال من الأحوال.
ما يبعث على الاطمئنان ويشعرنا ببعض الرضا هو ردة فعل المجتمع على مثل هذا الانحطاط، رغم كل شيء تشعر أن المجتمع لا يزال بخير، رغم كل ما يجري حولنا ورغم المعارك الشرسة التي تستهدف قيم وأعراف المجتمع. ردة الفعل هذه رسالة في جميع الاتجاهات، وخصوصًا لأولئك القائمين على مثل هذا (السقوط) بأن المجتمع لن يقبل بمثل هذه الأعمال، وسيدافع بكل شراسة عن قيمه، ردة فعل الناس عرت كل من يريد أن يوهمنا أن المجتمع يمكن أن يمرر مثل هذه التجاوزات، وأنه سيألفها ويعتادها مع الوقت.
لكل بلد خصوصية ولكل مجتمع منظومته الثقافية والأخلاقية وطريقه الفني الذي يميزه عن غيره، أية محاولة للخروج عن هذه المنظومة وانتهاك أعرافها وتقاليدها ليست سوى بذرة خبيثة موجهة ومسيرة هدفها التدمير والتفكيك مهما كان المسمى، ومهما كانت التبريرات.
فرق كبير بين (نقل) واقع المجتمع، وبين تدمير مقصود وممنهج لهذا المجتمع.
(المصدر: ساسة بوست)