مساواة الرجال بالنساء.. كيف تتلاعب النخبة العلمانية بمسألة الحقوق؟
بقلم فزاز معاذ
طبعت التاريخ تغيرات عديدة وتقلبات جذرية غيرت مجراه وحولت مساره في كثير من مناح الحياة ومنهج عيش الناس.. ولعل أعظم هذه التحولات وأكثرها تأثيرا على البشر الثورة الزراعية التي ظهرت بوادرها الأولى قبل ما يقارب العشرة آلاف سنة.. حيث تحولت المجتمعات الصغيرة والمحدودة في العدد والقوة من حياة الصيد والتنقل إلى الاستيطان والزراعة.. ومن هنا بدأت بوادر تكون أولى المجتمعات الكبيرة التي نعرفها اليوم كما في أرض النيل وبلاد فلسطين.
أما التغير العظيم الثاني وهو الأقوى والأكثر تأثيرا هو الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وبداية بروز الاقتصاد الرأسمالي المتغول بصيغته الحالية.. فبعد انهيار النظام الإقطاعي وتشرد الملايين من سكان الريف الذين تم الاستغناء عنهم.. كانت الهجرة نحو المدينة والانخراط في المعامل والمساهمة في الإنتاج هي الخيار الوحيد لسكان الأرياف.
ومع تدفق الأعداد وتزايد الساكنة والإنتاج وبداية ظهور مظاهر الرفاهية نشئ في ملاك المعامل ووسائل الإنتاج الحس الاستبدادي والرغبة في طحن الطبقة الكادحة.. الطبقة التي تشتغل لساعات طويلة ولا تجد إلا ما تسد به رمقها ولا تمتلك من وسائل الإنتاج شيئا.. وليس في يدها أي سلطة لاتخاذ القرار أو المشاركة في صناعة الحياة العامة.. كانت الطبقية الفاحشة تسيطر في أوروبا.. فانتقلت بالناس من عبودية القساوسة والرهبان في الكنيسة إلى عبادة الملاك وكبار التجار.
حينما تنظر إلى مطالب النخبة العلمانية في البلاد العربية كلها بدون استثناء ستجد أنها لا تخلوا أن تكون أحد بنودها المطالبة بالمساواة في الميراث بين الرجال والنساء |
وعندما تعاظمت مشاكل الطبقة العاملة وازدادت عدد ساعات العمل والحرمان من العطل وهزالة الأجور ظهرت أولى بوادر المقاومة الشعبية للبرجوازية فتم إنشاء النقابات التي برعت في أشكال الاحتجاج والتي كان الإضراب أكثرها إضرارا بعلية القوم.. حيث كان تدفق الأموال إلى حساباتهم يتوقف بطريقة مستفزة قاسية.. وكان يتم تكبيدهم خسائر مالية فادحة.. فكان الحل أن يتم طرد جميع الرجال العاملين المضربين واستبدالهم بالنساء مع إعطائهم نصف أجر الرجل مع نفس عدد ساعات العمل.
الغريب أن النساء قبلن.. فكانت هذه بداية لتحول عميق في بنية المجتمع حيث ستكون هذه المرة الأولى في التاريخ التي تخرج فيها المرأة للعمل بهذه الكثافة.. إلى هذه اللحظة لم يكن مفهوم المساواة قد خرج إلى الوجود إذ أن الثقافة الكنسية التي كانت ما زالت تلقي بظلالها على النظرة التي ينظر بها المجتمع الأوروبي إلى المرأة الذي كان يعتبرها إنسانا من الدرجة الثانية.. لكن ما فعله البرجوازيون كان الخطوة الأولى التي فتحت باب صراع طبقي جديد لا زالت آثاره تلقي بظلالها إلى اليوم.. فتأسست جمعيات نسائية ونقابات عديدة تطالب المجتمع الأوروبي بدعم فكرة المساواة في الأجور بين الرجال والنساء ووضع قوانين تسمح لهن بالإضراب وحرية الاجتماع. إذن فأصل هذه المعركة مادي.. أي أن النساء رغم كل الانتهاكات الجسيمة التي يتعرضن ورغم كل الميز النوعي الذي كان يطبع قرارات حكام الدول كانت مطالبهن مادية فقط ولم ترق إلى أن تتحول إلى المطالبة بحقوق مدنية تضمن للمرأة مكانة لائقة في المجتمع.
حينما تنظر إلى مطالب النخبة العلمانية في البلاد العربية كلها بدون استثناء ستجد أنها لا تخلوا أن تكون أحد بنودها المطالبة بالمساواة في الميراث بين الرجال والنساء.. فأتساءل: كيف تتعامى هذه النخبة عن المشاكل الحقيقية لوضعية النساء اللواتي لا يحظين بتعليم جيد وتطبيب جيد في جميع بلدان العرب؟ وكيف يطرحون للنقاش موضوعا يعرفون أنه مرفوض رفضا قاطعا من طرف الأمة الإسلامية. وهل عشنا نفس تاريخ أوروبا أو شهدنا التحولات العميقة في بنية المجتمع التي شهدها؟
فحينما ترى تزامن هذه الدعوات مع اللحظات التي يتم فيها تمرير القرارات الكبيرة وفي الأوقات العصيبة التي تحس فيها أن المواطن العربي سيخرج إلى الشارع لا محالة وسيحتج ويطالب بتحسين الاوضاع تعرف حينئذ أن هذه الدعوات دعوات سياسية محضة لإلهاء الشعوب وتحوير مسار النقاش المجتمعي من تحسين الأوضاع إلى مهاجمة تلك النخبة التي تأكد وبالملموس أنها مدعومة من قوى خفية في الدول العربية ومن لوبيات هدفها ترك الأوضاع كما هي لتستفيد هي من خيرات الوطن العربي وتكدس الأموال في حساباتها في سويسرا. تلك النخبة التي تقضي عطلتها في باريس. وتناقش تغير أسعار الكافيار بين جنيف ولندن.. لا يعرفون أن الشعب الذي ينهبون خيراته ويتواطؤون على ذلك ستكون له الكلمة ذات يوم لأن التاريخ يجور ويجور لكنه في الأخير ينصف.
(المصدر: مدونات الجزيرة)