مقالاتمقالات مختارة

مساحات الاتفاق والاختلاف في مقال الدكتور الريسوني

مساحات الاتفاق والاختلاف في مقال الدكتور الريسوني

بقلم د. فتحي أبو الورد

فضيلة الدكتور أحمد الريسونى عالم جليل وفقيه كبير خدم دينه ودعوته وأمته فى ميادين شتى ، أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته النافعة، وله اجتهاداته ونظراته التجديدية بوصفه العلمى ، اختلف معه من اختلف، واتفق معه من اتفق، وهذا شأن الاجتهادات العلمية، وهو الآن يتبوأ رئاسة أكبر مؤسسة علمائية شعبية، ندعو الله أن يجرى الخير على يديه وإخوانه .

وقد أثار مقاله الأخير حول : ( مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكام ) عاصفة من الجدل بين أهل العلم لم تهدأ بعد ، وأوجد حالة نقاشية طويلة بين مؤيد ومعارض ومتحفظ ، وهذه طبيعة الآراء الجديدة أو التي قد تبدو جديدة ، تتناولها الأقلام بالنقد والتحليل ، وتختلف حولها الآراء ، كما أن هذه طبيعة كلام البشر فقد أبى الله أن يتم كلام إلا كلامه ، وكانت القاعدة أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم

ولا يجوز لأحد أن يتشكك في دوافع ونيات أحد خاصة فى مجال الاجتهادات العلمية ، ولا نظن بدوافع أستاذنا إلا الغيرة والحرص والنصيحة، وإنما تواجه الحجة بالحجة ، والرأي بالرأي ( قل هاتوا برهانكم )، والأجور والنوايا على الله ، ولسان حال الجميع يردد ما قاله أبو حنيفة:(هذا أفضل ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأفضل منه فهو أولى بالاتباع )، وفى كل الأحوال فإن الاجتهاد رأى دائر بين الأجر والأجرين.

 

وقد قرأت مقالته عدة مرات حتى أكون دقيقا في التعبير عما فهمته ، ووجدت أن مساحات الاتفاق أكبر من مساحات الاختلاف ، ولم يكن الكلام جديدا – على الأقل من وجهة نظرى – ومضمونه مبثوث في كتابات المجددين أمثال : محمد عبده ورشيد رضا وأبى الأعلى المودودى وحسن البنا ، من التدرج والإعداد والتربية والإصلاح والتهيئة والأخذ بسنن الله فى الكون وعدم مصادمة نواميسه .

و فيما يلى أستعرض ما جاء فى مقال الدكتور الريسونى مع التعقيب المناسب تأييدا أو مخالفة مع وضع كلام فضيلته بين قوسين .

يرى الدكتور الريسونى أن (كثيرا من الجماعات الإسلامية والعلماء يرون أن التطبيق الحقيقي للإسلام والمستقبل الحقيقي للإسلام إنما يتمثل في “قيام الدولة الإسلامية” أو ربما “الخلافة الإسلامية)

وما أراه صوابا هو أن يقال: إنهم يرون التطبيق الكلى للإسلام فى قيام دولة الإسلام فى مقابل التطبيق الجزئى للدولة القائمة .

ويمهد لرأيه بتقرير حقيقة فى البداية وهى : ( أن الدولة الإسلامية – أو الحكم الإسلامي- عروة من عرى الإسلام، وحصن حصين للحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. ولذلك فإن الانشغال بأمر إقامتها وبذل الجهود والتضحيات في سبيلها أمر مشروع ومعتبر.) وهذا محل اتفاق ولا خلاف على ذلك حتى لا يزايد علي فضيلته أحد فى هذا الجانب .

ولكنه يرى : ( ألا تصبح إقامة الدولة الإسلامية هي الشغل الشاغل والهدف العاجل، أو هي الأولوية العليا والغاية القصوى للعاملين للإسلام)

وهذا كلام مقبول من حيث المبدأ ، لكن يبرز هنا سؤال: ما هو المعيار الذى على أساسه يتم الحكم بان هدف إقامة الدولة لدى الحركة الإسلامية أصبح عاجلا واولوية عليا وقفزا على الخطوات فى أى وقت من الأوقات ؟ ومن الذى يحدد هذا ؟

ثم رام أن يحدد موقع الدولة ومكانتها فى الإسلام من غير إفراط ولا تفريط ، فرأى ( أنه لا يوجد نص صريح ملزم بإقامة الدولة على غرار ما يوجد فى سائر الواجبات ، وأن وجوب إقامة الدولة ووجوب نصب الخليفة من باب الاجتهاد والاستنباط، ومن باب النظر المصلحى والتخريج القياسى وامتداد للأمر الواقع الذى تركه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن وجوب الدولة والخلافة من باب الوسائل لا من باب المقاصد ، ومن قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ومن ثم فإقامة الدولة ليس من نوع الواحب لذاته وإنما من نوع الواجب لغيره . ويخلص من هذه المقدمة إلى أن الواجب لغيره أخفض رتبة وأقل أهمية من الواجب لذاته .. ومن ثم فإن السعى لإقامة الواجب لغيره (إقامة الدولة ) لا يكون على حساب الواجب لذاته ( الدين)

ولا خلاف على هذا التفريق من ناحية التأصيل، إلا أن هذا التفريق لن يترتب عليه تغيير كبير من الناحية العملية ، إذ لا تعارض بين العمل لإقامة الدين والعمل لإقامة الدولة فى المفهوم الشامل للإسلام فى التصور والعمل ، غاية ما هنالك أن تقع الإجراءات والخطوات وفق سنة التدرج ومراعاة الأولويات والموازنات والمآلات.

والقرآن الذى لم يفرض على المسلمين إقامة الدولة كواجب دينى، قد فرض عليهم من الواجبات الدينية ما يستحيل عليهم القيام به والوفاء بحقوقه إذا هم لم يقيموا دولة الإسلام . كما يقول الدكتور محمد عمارة فى بحث “إسلامية الدولة ومدنيتها” .

وقد اتفقت كلمة العلماء على وجوب نصب إمام للمسلمين يتولى أمرهم ويسوس دنياهم بالدين .

قال الماوردي (عقدها ــ أي الإمامة ــ لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع) ، وقال ابن تيمية (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، لا قيام للدين إلا بها) وقال الغزالى :(الملك والدين توءمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، ومالا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع )

ورأى الدكتور الريسونى ( أن ما تتوقف إقامته على إقامة الدولة إذا أصبح ممكن التحقق بغير الدولة فقد سقط وجوب هذه الوسيلة جزئيا )

والحقيقة أن هذا طرح يناقض آخره أوله ، لأنه إذا أصبح ما تتوقف إقامته على إقامة الدولة ممكن التحقق بغير الدولة كما يقول ( يعنى فى ظل الدولة القائمة ) فقد أصبح هو المطلوب وأصبحت هذه الدولة ( القائمة ) هى الدولة (المنشودة) ، ولا حاجة للقول ): فقد سقط وجوب هذه الوسيلة جزئيا ) وإنما نقول : ( قد تحققت هذه الوسيلة ) هذا إذا كنا نتحدث عن تطبيق الإسلام كلية، وامتثاله فى الجملة وأن يصبح هو المهيمن . لكن هل لذلك وجود فى واقعنا ؟ وهل هذا متصور الوقوع فى ظل الدولة القائمة ؟

أما حديثه عن (أن الدولة القائمة قد يتأتى منها إقامة بعض الدين حتى وهى منحرفة أو معادية ) ، فهذا كلام واقعى ومحل اتفاق ، وهو مقبول فى ظل المرحلية والتدرج ، وهذا هو واقع الحركات الإسلامية بالفعل، وعلى كل حال فإن ما يراه العلماء والدعاة أن يعظموا مظاهر الإسلام فى ظل الدولة القائمة، وأن يتعاونوا معها فيما تحافظ عليه من شعائر وتشريعات وآداب وأخلاق ، ويعملوا على تكثيره وتنميته، ثم هم يجتهدون فى استكمال الناقص وتصحيح الخاطىء ، وتحسين الرديء ، وجبر الخلل، وفق المتاح والمستطاع والممكن فى حكمة وتدرج ، بالقدر الذى تتيحه الإجراءات والقوانين والأوضاع القائمة فى الدولة بما لا يؤدى إلى نقيض المصلحة.

 

ثم يرى فضيلته: ( أن الخطأ الكبير الذى وقعت فيه بعض الحركات الإسلامية هو الانشغال بالوسيلة عن الهدف وتضييع الهدف حرصا على الوسيلة فأفنوا أعمارهم واستنفدوا جهودهم على طريق إقامة الدولة من غير أن يظهر لهذه الدولة أثر ولا خبر)

هذا هو تقديره ، ولكنى لا أجد لدى جماهير الحركة الإسلامية من أفنى عمره فى هدف إقامة الدولة دون أن يشغل نفسه بجوانب التعبد فى سائر الميادين الممهدة لذلك.

والسؤال هنا : وما الغرابة فى ذلك ؟ فنحن مطالبون بالعمل ، مطالبون بالسير ولسنا مطالبين بالوصول ، مطالبون بالأخذ بالأسباب ولسنا مطالبين بالنتائج .

فمن المعلوم أن إقامة الدولة أو الخلافة أو الوحدة بين المسلمين هدف كبير ، والعمل من أجله يحتاج إلى جهد متواصل، وعمل دؤوب ، وتتابع أجيال ، من خلال أهداف مرحلية وفق سنة التدرج ، وعلى كل المحاور التربوية والثقافية والاجتماعية والخيرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وقد تفنى فى سبيل ذلك الأعمار دون أن تتحقق المرحلة النهائية وهى إقامة الدولة فى وجود من عملوا لها ، ولكن كل جيل يسلم الراية للذى بعده، ويكمل اللاحق على السابق ، حتى يأتى يوم يتم فيه تشييد البنيان، واكتمال الأركان وإقامة الدولة، ولا تعارض بين ذلك ، وبين القيام بالواجبات الدينية الفردية والجماعية الأخرى التى لا يتوقف أداؤها على إقامة الدولة.

ويعتبر الدكتور الريسونى ( أن الأدهى والأمر : حين يدخل طلب الدولة فى مرحلة انسداد المسالك وانفتاح المهالك، ومع ذلك يستمر الإلحاح على إقامتها والإصرار والصدام .)

وهذا كلام محل اتفاق صادر عن صاحب خبرة ناصح أمين ، ومع انفتاح المهالك وانسداد المسالك يصبح التراجع خطوة أو خطوات هو عين الحكمة ، والهدوء قليلا ريثما تهدأ العاصفة ، وتتجدد الفرص وتتهيأ الظروف لاستكمال الطريق نحو تحقيق إقامة الدولة .

وعلى الحركة الإسلامية أن تستفيد مما حدث، ولا أتصور أنها لم تستفد مما حدث فى هذا الإطار ، كما أنها لم تستمر مندفعة نحو إقامة الدولة فى ظل المتغيرات ، وإنما السياسة فن الممكن ، وفن المستطاع ، وفن المتاح، والتقدم فى الوقت المناسب مطلوب ، كما أن التراجع خطوة حينما يتطاير الشرر مطلوب، وهذه هى السياسة الشرعية ، وفقه إدارة المراحل ، ولكن ستظل إقامة الدولة هدفا مطلوبا فى التصور والتخطيط والعمل، وستظل الأنظار مصوبة نحوه تترقب تحققه حتى وإن بدا بعيدا ، ويسعى العاملون لتذليل العقبات لإقامته وتهيئة الأسباب لتحقيقه ريثما تسنح الفرصة فى تأن وتدرج ، وبأقل التضحيات، حسبما تقتضى المصلحة .

والتكليف على قدر الوسع ، ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) . قال ابن تيمية: ( مدار الشريعة على قوله تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وعلى قوله صلى الله عليه وسلم ( ما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم )

ويرى الدكتور الريسونى ( أن إقامة الدولة تخضع لشروط وأسباب وقوانين تاريخية واجتماعية وسياسية لا يمكن إلغاؤها أو القفز عليها بمجرد رغبة أو قرار ولا بمجرد تقديم جهود وتضحيات، وينصح بأن من يعملون على إقامة الدولة أن يتأنوا فى التقدير ويتدرجوا فى التدبير وأن يجملوا فى الطلب )

وهذا كلام صحيح محل اتفاق لا يختلف عليه العقلاء .

ويرى أن الحركة الإسلامية يمكنها (أن تحقق كثيرا من أهدافها ومن الإصلاح دون أن تمتلك سلطة من خلال العمل فى صفوف الأمة ومن خلال بناء الأمة)

وهذا أيضا كلام صحيح وليس بجديد وهو محل اتفاق لا يختلف فيه اثنان ، وقد قال به وامتثله رواد الإصلاح والتجديد من قبل أمثال : محمد عبده ، ورشيد رضا ، وحسن البنا، وأبى الأعلى المودودى وغيرهم ، وهذا هو الواقع للحركة الإسلامية التى تجاوز عمرها التسعين عاما من العمل الدعوى والتربوى والاجتماعى والاقتصادى والسياسى والخيرى وغيره ، والتى عملت فى ميادين الإصلاح المتعددة: فى التربية والتعليم والإرشاد ونشر الدعوة والأخلاق والعمل الخيرى ووجوه البر والصحة والاقتصاد والسياسة وغيرها ، وهذا هو الدليل العملى على أن الحركة الإسلامية من الوعى والنضج ما يجعلها تضع إقامة الدولة فى الوقت المناسب ، وهذا أيضا برهان عملى على أنها تنتهج التدرج فى الإصلاح ، وعدم القفز على الواقع ، وتعمل على تهيئة المجتمع لإقامة الدولة، والأخذ بالسنن .

أما كونها تعرضت لمحنة نتيجة ما أقدمت عليه وتصدرها لرئاسة الدولة ، فهذا أمر اجتهادى اختلفت فيه الأنظار ، وتعددت فيه الرؤى والاجتهادات ، وكان ما كان ، وأخذت العبر، ووصلت إلى نتائج ، إلا أن هذا لن يغير من أهدافها الرامية لإقامة الدولة من أجل حفظ الدين ، وإن اتخذت مواقف تكتيكية آنية ، وتوقفت قليلا لتلتقط أنفاسها ، وتعيد النظر ، وتقيم أداءها ، وتقدر الموقف، وتغير من وسائلها ، وتجدد رؤاها ، وتطور أساليبها ، وتحدث مواقعها .

الأمة بديلا عن إقامة الدولة

وكان مما جاء فى مقاله أنه ( يرى السعى لإقامة الأمة بديلا عن إقامة الدولة)، وهذا كلام جانبه التوفيق فيه ولو قال: إقامة الأمة أو بناء الأمة طريقا إلى إقامة الدولة لأصاب ، فالأمة فى التصور الإسلامى المكتمل لا تكون بديلا عن الدولة ، وإنما طريقا لها وأساسا تقوم عليه .

ثم ذكر الدكتور الريسونى حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة ) الوارد فى أهمية الدولة وأولويتها وضرورة استعادتها وكان له فيه رأى آخر ، حيث رأى أن الحديث يشير إلى حقيقتين ضمنيتين لا ينتبه إليهما المستشهدون به، وهما : :

 (ـــ كون الحكم هو أضعف عروة من عرى الإسلام، لأن الانتقاض والانكسار يصيب أول ما يصيب الجزء الأضعف أو الأقل صلابة من أي شيء. بينما يظل الجزء الأكثر قوة ومتانة صامدا مقاوما لعوامل الهدم والكسر، حتى يكون الأخير بقاء والأخير انكسارا وانتقاضا، فمعنى الحديث أن أضعف ما يعتمد عليه الإسلام في وجوده وبقائه هو الحكم، وأن أقوى ما يقوم عليه و أصلب ما فيه هو الصلاة.

ــ إن الإسلام يمكنه أن يستمر ويستقر وينمو ويمتد حتى مع انتقاض عروة الحكم، بانحرافه أو غيابه. فمن المعلوم أن الله تعالى أنزل دينه “ليظهره على الدين كله” وأنه وجد ليبقى إلى قيام الساعة، فإذا كان سيفقد عروة الحكم في وقت مبكر من تاريخه، فمعنى هذا أنه سيعيش ويستمر قائما زمنا طويلا دون الاعتماد على تلك العروة المنتقضة .)

أما بالنسبة للنقطة الأولى فهى استنباط غير مسلم ، لأن الحكم (أو الدولة ) بمثابة الحصن الذى يحمى سائر الدين ، وهو الجانب الأقوى والأصلب وليس العكس ، ولولاه لما انتقض ما بعده ، ولا انكسر الذى يليه ، ولكنه بالنسبة لما بعده يقال فيه كما يقال فى أمثال الناس : أكلت يوم أكل الثور الأبيض ، ولأجل أنه الحصن الأقوى والحلقة الأشد عمد الأعداء إلى هدمه أولا ليسهل لهم ما بعده، وعندما تحقق لهم ما أرادوا كان ما بعده أيسر .

 إن المدن المحصنة بالقلاع لا تسقط إلا إذا سقطت القلاع ، ولا وجه للمقارنة بين ما يمثل واجبا جماعيا على الأمة ، وما يعتبر واجبا عينيا فرديا ، إذ أن الصلاة عمل عبادى لا يمثل خطورة على الأنظمة المعادية للإسلام فيستمر السماح بممارستها وتبقى فى الغالب ، ويمكن أن تؤدى فرديا وجماعيا ، كما يمكن أن تؤدى سرا وعلنا ، والصحيح أن أقوى ما يقوم عليه الإسلام الصلاة فى الحالة الفردية ، وأقوى ما يقوم عليه الإسلام هو الحكم فى الحالة الجماعية .

أما بالنسبة للنقطة الثانية .. نعم سيستمر الإسلام مع انتقاض عروة الحكم بأفراده المستضعفين والمضطهدين فبعضهم سيتمكن من أداء الشعائر كلها، وبعضهم سيؤدى بعضها ، وبعضهم لن يستطيع أن يؤديها ، بعضهم سيؤديها جهرا ، وبعضهم سيؤديها سرا ، وبعضهم سيكتم إيمانه من الأساس ، ما دام ليس للمسلمين دولة ، وما دام أمر المسلمين بيد من لا يؤمنون بالإسلام عقيدة وشريعة ، قيادة وعبادة ، دين ودولة ، وما دام أن الإسلام بتشريعاته وعباداته وأخلاقه بيد من يفصلون الدين عن الدولة ، فيسمحون بما تجود به نفوسهم من تطبيقه ، ويأخذون منه ما لا يزعجهم ، ويلقون ما لا يستريحون إليه خلف ظهورهم ، وهل هناك تجارب للمسلمين المعاصرين فى ظل الدولة القائمة إلا ذلك ؟

اما أن الإسلام ترعرع وامتد فى تاريخنا مع انتقاض عروة الحكم فغير مسلم، فقد كان الحكم بالإسلام فى المجمل، وإن تسنم سدته من جاء بغير الشورى، وإن كان منحرفا فى نفسه ، ولكنهم فى الجملة لم يكونوا خانعين أذلاء لأعداء الأمة ، وكانوا على أقل تقدير فى معظم حقب التاريخ يتعاملون معهم معاملة الند ، ولأن قياس الواقع الآن على واقع المسلمين فى ظل دولة الخلافة قرونا عديدة حتى فى أضعف حالاتها وأشدها انحرافا قياس لا يصح ، وحسبنا أن المعتصم أضعف خلفاء بنى العباس انتفض وهب لنصرة امراة مسلمة لطمها رومى فى سوق عمورية ؛ فصرخت وا معتصماه فقال : لبيك أمة الله ، وجرد لها جيشا عرمرما لم يبرح عمورية حتى فتحها ، هذا الفتح الذى نظم فيه أبو تمام بائيته الشهيرة :

 

          السيف أصدق إنباء من الكتب .. فى حده الحد بين الجد واللعب

 

وحين تحدث على رضى الله عنه عن وجوب الإمارة حتى وإن كانت فاجرة كان الهدف من ذلك فى زمانهم إقامة الحدود وإشاعة الأمن ومجاهدة العدو لا موالاته.

قال علي بن أبي طالب:(لابد للناس من إمارة، برة كانت أو فاجرة. فقيل: يا أمير المؤمنين، هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويُقسم بها الفئ )

فهل الدولة القائمة اليوم تقوم بذلك ، فيكون انحرافها لنفسها ، ولكنها فى الجملة تقيم الدين وتجاهد العدو ؟

بقى أن أضيف بعض النقاط قبل أن أختم حديثى ، لأنه إذا كان من حق أستاذنا الدكتور الريسونى أن ينصح، فمن واجبنا أن ننصحه أيضا، فما منا إلا ناصح ومنصوح فأقول :

ــ هذا الطرح على هذا النحو فى هذا الظرف يضر بالمشروع الإسلامى ، إذ نحن نعلم كيف ستستقبل الأنظمة وإعلامها هذا الحديث ، وسينزل منها منزلة الفتوى والحكم ، بل ربما يحرفون الكلم عن مواضعه ، وأخطر ما فيه أنه صادر عن عالم شرعى يرأس أكبر مؤسسة إسلامية علمائية شعبية متحررة من قيود السلطة، وليس واحدا من علماء السلطة ، وسيعتبر حديثه عن تنحية السعى فى إقامة الدولة حاليا – مع سلامة مقصده – سندا يتكأ عليه كارهو المشروع الإسلامى ليقولوا للإسلاميين : دعوكم من الدولة ، واعتزلوا السياسة ، وخليكم فى الدعوة فقط ، كما قال لكم الدكتور الريسونى، وهذا هو مطلبهم وبغيتهم منذ عشرات السنين ، مع العلم أن خوض غمار السياسة فى تجربة الحركة الإسلامية هو الذى ضمن قدرا – ولو محدودا – للعمل المجتمعى والدعوى والتربوى والخيرى ، وإلا لأغلقوا هذه المجالات مبكرا أيضا.

 ــ خطورة أخرى يحملها هذا الطرح ضمنا – عن غير قصد بطبيعة الحال – أنه يخطىء الحركة الإسلامية وقياداتها ، حين تقدمت خطوات فى إقامة الدولة ، رغم أن القضية كانت اجتهادية تعددت فيها الآراء ، واختلفت فيها الأنظار، وانتهت فيها الشورى إلى ما كان ، فكان ما كان، كما أن هذا يضعف موقف الإسلاميين ومن السهل أن تحملهم الأنظمة ضمنا مسؤولية الجرائم التى ارتكبتها، إذ أن ما حدث – وفق هذا الطرح – لا يعدو أن يكون سوء فى تقدير الموقف من قبل الحركة الإسلامية، كانت نتيجته ما وقع .

ــ إذا كان حديث الدكتور الريسونى هذا نصيحة للحركة الإسلامية فليس الإعلام مكانها ، ولينصحهم فهم ليسوا أكبر من أن ينصحوا، حتى لا تسير بها الركبان، وكان الأولى أن يتريث ويتأنى ويناقش العلماء وأولى الرأى فى مآلات هذا الطرح على الملأ فى ظل الأجواء المحيطة، والظرف التاريخى الذى تعيشه الأمة .

ــ نقطة أخيرة وهى أن تحديد خطوات السعى لإقامة الدولة قضية اجتهادية من قضايا الفقه السياسى ، يحددها القائمون على شأن الحركة الإسلامية وفق المعطيات التى لديهم ، حتى وإن اجتهدوا فأخطأوا، ومن يرى النصيحة لهم وتبصيرهم بما يظن أنه ليس فى حسبانهم فليتقدم لهم بها ، وله أجر الناصحين الغيورين .

( والله غالب على أمره)

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى