مسئولية العلماء نحو طوفان الأقصى
بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد (خاص بالمنتدى)
لا تخفى علينا النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله التي بينت مكانة العلماء وتحدثت عن سمو منزلتهم وأهمية وظيفتهم، وهذا الحديث المستفيض في نصوص الشريعة ليس من فراغ، ولا يمكن أن يكون هكذا دون دور يقومون به؛ فالمقابل لهذه النصوص التي بينت مكانتهم وفضلهم هو القيام بالمهمة وأداء الأمانة وتحقيق الغاية.
مكانة العلماء
فالعلماء هم أمنة الناس، ومرجعهم في الملمات، وهم ورثة الأنبياء بعد انقطاع الوحي، وحسبنا ما قاله الإمام الآجري في مقدمة كتابه “أخلاق العلماء”؛ إذ يقول: “أما بعد: فإن الله عز وجل، وتقدست أسماؤه، اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وفقّههم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح. فضلُهم عظيم، وخطرهم جزيل، ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع، مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العُباد، وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يُذكّرون الغافل، ويعلمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، والصحيح على من خالف بقولهم محجاج. الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عند. ما ورد على إمام المسلمين من أمر اشتبه عليه حتى وقف فيه فبقول العلماء يعمل، وعن رأيهم يصدر، وما ورد على أمراء المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون، وعن رأيهم يصدرون، وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم فبقول العلماء يحكمون، وعليه يعولون، فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا”. ا.هـ .
وحسبنا عنوان لكتاب من كتب العلامة المحقق ابن قيم الجوزية، ينخلع له القلب، وترتعد منه الفرائص، وتقشعر له الجلود، وهو: “إعلام الموقعين عن رب العالمين”؛ حيث جعل العلماء بمثابة الموقعين عن الله عز شأنه، وقال فيه: 1/ 9: “وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف هو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه : {يستفتونك قل الله يفتيكم}، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسئول غدا وموقوف بين يدي الله”.
واجباتهم نحو الطوفان
وانطلاقا من هذا التكريم والتشريف والتكليف فإن عليهم واجباتٍ كثيرةً لا سيما نحو معركة طوفان الأقصى التي ملأت الدنيا وشغلت العالم، وكانت – وما تزال – بمثابة حرب عالمية، لكن الطرف الضعيف فيها هو طرف المسلمين مع كل أسف، وهذا لا يعني أن نستكين أو نميل، وإنما يجب بيان الحقائق الدامغة، والبراهين الساطعة، والحشد والتحشيد للقيام بما يمكن القيام به، ويأتي العلماء في القمة من هذه الجهود، فمن واجباتهم:
أولا: الوظيفة المعرفية، وهي الوظيفة الأولى التي تقع عليهم ببيان حقائق القضية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، وبيان التأصيل الشرعي والمعرفي لكل ما يتعلق بها، والتبصير بتاريخها، والتنوير بواقعها، ورد الشبهات العامة والخاصة والجزئية المتعلقة بها، وهذا دور عام يقوم به العلماء في كل وقت، وفي هذا الوقت خاصة، وفي معرطة طوفان الأقصى على وجه أخص.
ثانيا: بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالقضية عامة، وطوفان الأقصى خاصة؛ حيث تنزل بالمسلمين في فلسطين نوازل، وتستجد لهم مستجدات، وهم يتوجهون للعلماء الذين يثقون بهم لاستفتائهم فيما ينزل بهم، وهنا يأتي دور العلماء في بيان الحقائق الشرعية، وذكر الأحكام الفقهية لهذه النوازل؛ سعيًا لإجابة الناس وإفتائهم، ولكي يكون المسلمون تحت مظلة شريعة ربهم لا يخرجون عن سلطانها، ويخضعون لأحكامها تعبدا لله وطلبا لرضاه.
ثالثا: الدعوة لكلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، لاسيما في وقت يتفرق فيه المسلمون بدعاوى كثيرة، وتتمزق فيه كثير من الحركات العاملة، فلم يبق للأمة من راية إلا راية العلماء، فهم الذين يستطيعون وحدهم تجميع الأمة وتوحيد صفوفها، لا سيما تحت راية قضية فلسطين الجامعة، والخافضة الرافعة، التي تخفض من يخذلها ويتآمر عليها، وترفع من يعمل لها ويجاهد في سبيلها.
رابعا: العلماء بعد ذلك هم من الناس ومع الناس، في كل صدر وورد، وفي كل أمر ونهي، وفي كل نشاط وعمل، وفي كل سعي وأمل، بل يتقدمون الصفوف، ويرفعون الرايات، ويستتبعون الناس، فالأمة مليئة بالخير وعامرة بالفضل، ويحتاجون فقط إلى من يستثمر هذا كله، ويكشف عن أصيل معدنه ونفيس مصدره، ولن يقوم بهذا إلا العلماء.
مؤهلات القيام بهذه الوظائف
ومن أجل أن يقوم العلماء بهذا الوظائف، ويحققوا هذا المقاصد، فإن هناك مؤهلات تلزمهم للقيام بهذه المهمة، وأهمها:
أولا: خشية الله تعالى ومراقبته، واستحضار عظمته ومراقبته، واستشعار العرض عليه والوقوف بين يديه، هذا وحده العاصم للعالم من الانزلاق والانحراف، أو النفاق وتحريف دين الله، والتلبيس على المسلمين.
ثانيا: التكوين العلمي الشرعي العام الذي أشبع علماء الأصول الحديث عنه في شروط المجتهد، من علم بنصوص الكتاب والسنة، وأسباب النزول والورود، والناسخ والمنسوخ، ومواضع الإجماع والخلاف، ومقاصد الشريعة، واللغة العربية، وغير ذلك .. هذا علم عام يجب أن يكون عند الفقيه المتصدي للحديث في النوازل والقضايا المعاصرة، وأما العلم الخاص فهو العلم بالقضية الفلسطينية: بالنصوص الواردة فيها، والتاريخ الذي مرت به، والواقع الذي تحياه الآن، كل هذا في ضوء العلم بالمرحلة التي تمر بها الأمة، والإدراك للسياق الذي يحياه العالم؛ والتفاصيل الخاصة بواقع الجهاد والمجاهدين وأحوال الناس العامة والخاصة؛ حتى يكون الفقيه على بصيرة من أمره، وحتى تصح فتواه وتفعل فعلها وتؤدي غايتها.
ثالثا: الشجاعة النفسية والقلبية التي تُمكّن العالم من قول الحق والصدع به – كما قال ابن القيم أعلاه – فإن الله ناصره وهاديه، وإلا لا يمكن القيام بمهمة العلماء، ولا وظيفة الربانيين، ولا القيام بمقتصى البيان والبلاغ وأداء الأمانة الملقاة عليهم، فهذه الشجاعة النفسية هي التي تضمن للعالم – مع التقوى والخشية – أن يقوم بتحقيق المهمة وأداء الأمانة، وتحقيق بسط سلطان الشريعة بحق على الحياة والأحياء، وهذا لاشك له ضريبة وله تضحيات يقدمها العالم راغبا في فضل الله غير منتظرٍ جزاءً ولا شكورا من سواه.
وأخيرًا .. فإن هذه الأحداث تصنع العلماء الربانيين، ويصنعها الفقهاء الصادقون، وبها يميز الله الخبيث من الطيب، والعالم الصادق من المنافق، ورُب موقفٍ صادق للعالم يُحيي به الأمة، ويَحيا به بين الناسُ، ويُخلَّد به في التاريخ، بما لا يحققه تصنيف مئات الكتب أو مئات الخطب ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ. وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [آل عمران ١٤٠-١٤١].