مقالاتمقالات مختارة

مسؤولية علماء الشريعة | الشيخ بشير بن حسن

مسؤولية علماء الشريعة | الشيخ بشير بن حسن

بعد سؤالكم أيها الاخوة الفضلاء عن هذه المسألة،  وقد تباينت أجوبتكم،  ها أنا أذكّر الجميع بمسؤولية علماء الشريعة ، التي لا تنحصر في بيان الحلال والحرام للناس فقط ، بل مسؤوليتهم  جدّ عظيمة ، حيث أنهم من ورثة الأنبياء، و الانبياء هم أساتذة الإصلاح للمجتمعات البشرية كلها ، فلم يكونوا عليهم السلام متحدثين مع الناس الا عن  الروحانيات والغيبيات، او حتى عن  العبادات فحسب ، اذ باستقراء القرآن الكريم يتضح لنا ذلك بجلاء ، فكل منهم عالج نوعا من أنواع الاعوجاج الإنساني،  وقاوم ضربا من ضروب الفساد الأخلاقي ، علاوة على إصلاح العقائد ،قال سبحانه  ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا  أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ….) .

وقال أيضا  ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) .

فموسى عليه السلام قاوم الفساد السياسي كما قال تعالى ( اذهب الى فرعون إنه طغى ) و هود، قاوم  الطغيان السلوكي،  قال عز وجل  عنه ( أتبنون بكل ريع أية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون* وإذا بطشتم بطشتم جبّارين *فاتقوا الله وأطيعون ) ، ولوط عليه السلام،  قاوم الشذوذ الجنسي ، كما قال الله عنه ( أتأتون الذّكران من العالمين ** وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ) .

وشعيب عليه السلام ، قاوم الطغيان المالي والانحراف المعاملاتي،  كما قال تعالى عنه ( أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ** ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) .

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم،  أرسله  الله تعالى ليقاوم كل أنواع الانحراف الذي وقعت فيه البشرية ، من العقيدة الى العبادة الى المعاملة الى الآداب الى الأخلاق ، وأيده ربه بالآية الباقية ، والعصمة الواقية ، والمعجزة الخالدة ، ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج من الظلمات إلى النور بإذن ربهم الى صراط العزيز الحميد ) .

وعلى هذا فمسؤولية علماء الشريعة ، أن يهتموا بكل جوانب الحياة،  وأن لا يقتصر دورهم على العمل المسجدي فقط ان كان لهم مساجد !! حتى أن الرسل عليهم السلام كانوا يمشون في الأسواق ويخالطون الناس ويقفون على تصرفاتهم،  فيبادرون بالنصح والإرشاد،  والتقويم والتصويب  ، كما قال سبحانه ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) .

فأين هذا ممن يثني عليه بعض مريديه،  بأن حياة شيخه الموقر يقضيها  بين المكتبة والمحراب  والمنبر ؟؟ أو أن شيخه كان( يترفع) !! عن مخالطة الناس !؟؟؟؟ هذا لعمر الله نوع من أنواع الترهب المقيت ، وتلوث بلوثة الكهنوتية المتخلفة !! مما جعل كثيرا من هؤلاء الاشياخ لا دراية لهم بما يحصل في مجتمعاتهم،  فهم يعيشون بين بطون الكتب ، و لم يقرؤوا كتاب الحياة !! واذا تكلموا فكأنهم يعيشون في المقابر بين الموتى!!!

ومن النّكد ، الذي يسبب المغص والغثيان،  أن أكثر هؤلاء  يشنعون على العلمانية وأهلها ، ويكفرونها و يكفرون دعاتها، باعتبار أنها تتصادم مع الاسلام ، الذي هو دين و دولة ، وعقيدة وشريعة ، لكنك لو سألت أحدهم عن الشأن العام، بالجانب السياسي،  ك : من تنصحنا بانتخابه؟ أو ما حكم إنشاء حزب سياسي يدافع عن القيم والثوابت الإسلامية؟ أو هل يجوز أن يدخل الانسان الى البرلمانات ؟؟ لكان جواب هذا ( الشيخ ) : دعونا من السياسة ، أو يعتذر بلباقة المتفلّت من السؤال : أنا لا أتكلم في السياسة أنا فقط أتكلم في العلم !!!

فانظر كيف رفض هؤلاء العلمانية شكلا ، ووقعوا فيها مضمونا دون أن يشعروا،  ذلك أن العلمانية تفصل الدين عن الحياة،  وهؤلاء مفصولون عن الحياة تماما !! ولذا لم يعد الناس يسمعونهم ولا يحترمونهم بل أصبحوا مسخرة الأمة مع الأسف!!
لكن بعض مريديهم،  ومن اتخذوهم أربابا من دون الله،  كما قال تعالى عن أهل الكتاب( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله..) يخرجون علينا بتلك الفزاعة ( لحوم العلماء مسمومة ) !! ولا ادري أيّ علماء يقصدون ؟؟؟ العلماء العاملين المصلحين،  أم الذين يبيضون فساد الحكام ، و يشرعنون ظلمهم وجبروتهم،  برفع لافتة (أطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك)!!.

إن مسؤولية علماء الشريعة تربوية بامتياز ، فلا يكفي بيان الحكم الشرعي لأعمال المكلفين ،بل لا بد أن يعملوا على تزكية النفوس ، وتهذيب الأخلاق،  ولا يكن همهم إصلاح ظواهر الأفراد، كالذين يكثرون من الحديث عن بعض الجزءيات التي لها علاقة بالشكل و السمت الظاهر ، فالتزكية قبل العلم ، كما قال تبارك وتعالى( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ).لان العلم بلا تزكية ضارّ بصاحبه ، بل وبغيره ، حيث أنه يوقعه في آفات قلبية خطيرة فضلا عن تسويق الصورة السيئة للعلم وأهله  !!

كما أن من مسؤوليات علماء الشريعة،  توعوية أيضا،  فيجب أن يكونوا صنّاعا للرأي السديد، والعقل الرشيد ، خاصة في ظل ما تعيشه الأمة من مغالطات شنيعة ، يتولى كبرها نخبة بائسة ، وإعلام مأزور،  وسياسة رعناء .

ألا وإن من أكبر مسؤوليات علماء الشريعة،  أن يكونوا سببا في نهوض الأمة ، فكريا وثقافيا وحضاريا،  صناعيا و طبّيا، تقنياّ و تجريبيا ، لأنهم رادة الفكر،  وأصحاب الكلمة والقلم، وورثة الأنبياء كما أسلفنا،   فالأمة تنهض أو تكبو بهم ،و إما أن يكونوا سبب تقدمنا أو سبب تخلفنا وتأخرنا،  وإنني حينما أزور بلدا عربيا أو إسلاميا، أقيّم علماء الشريعة فيه من خلال حال تلك البلاد اقتصاديا وحضاريا !! نعم بلا مبالغة، وأدلّ شيء على ما أقول ،تاريخ المسلمين ، فمتى نهضوا ومتى شيدوا؟؟ لما كان لهم علماء شريعة وجّهوا الأمة الى التفكير لا إلى التكفير،  وإلى الإبداع لا إلى التبديع، وإلى التنظّم والتنسيق لا إلى التفسيق!!

وما الأندلس وتاريخها المشرق الا دليل على ذلك ، ولو وقفتم على أسباب النهضة الحضارية فيها لوجدتم أن علماء الشريعة هم السبب الرئيس ! وما تنعم به أوروبا اليوم من تقدم الا من ميراث الأندلس ، لأن القارة العجوز عاشت عصور الظلام والقرون الوسطى، حتى أقام المسلمون دولة العلم والفكر، فأرسلت الدول الأوروبية بأبناءها الى الأندلس لطلب كل أنواع العلوم،  فضلا عن حركة الاستشراق التي أسهمت هي الأخرى في إفادة العقل الغربي من موروثنا، كا ما لا ننسى استيلاء الاستعمار الذي تعاقب علينا على المراجع العلمية الإسلامية والذي يوجد اليوم في اضخم المكتبات الغربية !!

اذن مسؤولية علماء الشريعة كبيرة جدا ، والأمة تنتظر منهم الكثير والكثير ، وما عليهم إلا أن يتركوا التقوقع على الذات ،ونبذ التقليد الاعمى،  والعمل على التجديد ، تجديد النفس الإسلامي الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة،  عسى أن يُدرجوا في ما بشر به النبي صلى الله عليه وسلم أمته حيث قال (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة رجلا يجدد لهذه الأمة أمر دينها).

وبذلك يكونون فعلا علماء عصرهم ، لا ممن تجاوزهم الزمن ، وفاتهم القطار  !!

والله ولي التوفيق.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى