مسؤولية المناهج الشرعية والخطاب الدعوي في إذكاء الإلحاد
بقلم الشيخ محمد خير موسى
لا يجوزُ عِند الحديثِ عَنْ ظاهرة إلحادِ مَا بعدَ الثّورات تجاوز مَا تمّ زرعه في الأجيال من صورةٍ عن الإسلام عَبر مناهجِ التّعليم ومخرجاتها التي ظهرت على شكل خطابٍ شرعيّ ودعويٌّ.
وإنّنا نعاني من قُصورٍ كبيرٍ في مناهج التعليم الشّرعي التي تقدّم الإسلام للطلّاب في مدارسهم وجامعاتهم، ممّا أنتج قصورًا في الخطاب الدّعويّ.
ومن الطّبيعي أنْ تظهر نتائج هذا القصور في الأزمات، ففي الاستقرار ولو كان استقرارًا موهومًا تتسرّب الشّبهات بصمت من شقوق هذا القصور لتظهر إلى العلن عند مواجهة المرء مع نفسه وقد عصفت به المحن وزلزلته النّكبات.
ومن الضّرورة بمكان تلمُّس جوانب هذا القصور الجوهريّ عند التفكير في آليّات العلاج، إذا أردناه علاجًا لجذور الظّاهرة لا أعراضها وفروعها.
أحكامُ الفقه وفقهُ الأحكام:
مِن أهمّ جوانب القصور التي تعانيها مناهجُ التّعليم الشّرعيّ في المدارس العاديّة والشرعيّة والكليّات والأكاديميّات الاقتصار في تقديم أحكام الفقه بمنطقها القانوني القضائي، أيّ يجوز ولا يجوز، والاستغراق في الأحكام التكليفيّة الخمسة من واجبٍ ومندوبٍ ومباحٍ ومكروه وحرام.
والاستغراق في الحديث عن البُعد القضائيّ للأحكام الفقهيّة سَاهم في انحسار روح هذه الأحكام ومقاصدها في البناء الرّوحي والنّفسي وتثبيت أركان البنيان الاجتماعي.
فالعبادات الشّعائريّة على سبيل المثال من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجّ مَثّلت أركان الإسلام لأنّها تبني الفرد المسلم قلبيًّا ونفسيًّا وتبني المجتمع المسلم أخلاقيًّا وإنسانيًّا.
وهذا البناء لا يتحصّل من خلال معرفة أحكام الفقه لهذه المسائل وإنّما من خلال فقه الأحكام المتعلّقة بها.
إنّ فهم فلسفة الأحكام الفقهيّة وترسيخها في التّعليم، واستكشاف أثرها في العلاقة مع المشرّع، وبذر بُعدها القيميّ والإنسانيّ سيكون حصاده تصالحًا داخليًّا بين المرء ونفسه وبين المجتمع والشّريعة.
أمّا التركيز على التّوصيفات القضائيّة فهو يجعل هذه الأحكام جافّةً لا تروي ظمًأ ولا تُنبت على ضفاف القلب عشبًا نديًّا..
إضافة إلى أنَّ التّوصيفات القضائيّة للأحكام تَصرف النّظر عن الذّات إلى الآخر، فيكون همّ من استغرق فيها أنْ يَحكم على الآخرين لا أَنْ يبني نفسه.
وقد جلّى هذا المعنى بطريقة بديعة الشّيخ محمّد الغزالي حين سأله أحد الشّباب: ما حكم تارك الصّلاة؟! فأجابه الشّيخ قائلًا: حكمُـه أَنْ تأخذ بيده إلى المسجــد!
نعم، فالسّائل استبطن الحُكم على الآخرين عندما سأل عنْ حُكم تارك الصّلاة، وكان ينتظر أنْ يسمع الحُكم القضائي، كافر أو فاسق أو يقتلُ حدًّا أو يقتلُ ردّة، ففاجأه الشّيخ بجوابه الحكيم حين سلّط القضيّة على الواجب الذّاتي وعن أثر الصّلاة في النّفس، وهي أنْ يتحوّل المرء إلى الإيجابيّة في التّعامل فيحبّ للنّاس أنْ يتسربلوا بما تسربل به هو من نعمة الهداية والقُرب من الله تعالى.
وما الانحسار لفلسفة العبادات إلّا مُخرَج من مخرجات المناهج التعليميّة التي انعكست في الخطاب الدعويّ، فكم سمعنا دروسًا للدّعاة والوعّاظ عن الصّلاة مثلًا كان تركيزها على حُكم تارك الصّلاة في الفقه من كُفر وردّة أو فُسوق وما يترتب على ذلك من عقوبات، بينما يكون الحديث عن الصّلاة بوصفها عمود الإسلام الذي ترتكز إليها حياة المرء وبناؤه الرّوحي والنّفسي هامشيًّا في فضول الوقت.
وكذلك عِند الحديث عن أركانها وسننها وأفعالها يكون الحديث عن الحُكم الفقهي التوصيفي للحُكم من حيث الشّكل والمقدار والقانوني من حيث الأثر في الصّحة والبُطلان، بينما يغيب فقه الحُكم المتمثّل في معاني الأفعال فلا حديث عن تكبيرة الإحرام ومعانيها ولا عن الرّكوع وفلسفته ولا عن السّجود وآثاره ولا عن التّسليم ومراميه إلّا حديثًا يسيرًا تحت عنوان الحكمة، بينما هذه المعاني هي روح الصّلاة وهي التي تجعلها صلةً حقيقيّة تحقق ركن إقامتها.
وما ينطبق على الصّلاة ينطبق على غيرها من العبادات الشّعائريّة بل ينطبق على أحكام الفقه الإسلاميّ كلّها.
فنحن في أمسّ الحاجة إلى ترسيخ فقه الحُكم ليكون هو المحور في دراسة حُكم الفقه، وأما غياب روح الحُكم الفقهي من مناهجنا ومن خطابنا الدّعويّ ساهم في التّصحّر الرّوحي من جهة والأداء الآليّ للأوامر والأحكام الفقهيّة من جهةٍ أخرى.
وهذا الأداء والتّطبيق الآليّ سرعان ما يتحلّل منه المرء عندما يستشعر عدم جدواه وعدم تحقيق المأمول منه عند الاحتياج إليه.
فالمرء في الأزمات يستشعر بحاجته إلى التثبيت الرّوحي والنّفسي لكنّه لا يجد الأحكام الفقهيّة التي يؤدّيها بشكلٍ آلي قادرةً على تحقيق هذه الحاجة فيرفضها وينسحب رفضه لها إلى رفض التشريع والمشرّع لشعوره بلا جدوى التّشريع وفقدان الثّقة بالمشرّع.
إنّ تمكين فقه الأحكام من نفوس الشباب بحيث يعيشون الأحكام الفقهيّة بقلوبهم وأرواحهم، ولشعورهم بالحاجة الذّاتية والمجتمعيّة لها يعدّ من أهمّ الوسائل الوقائيّة من إلحاد الأزمات التي تعصف بالمرء من حيث لا يحتسب.
عقيدةٌ أم تعقيد؟!
من أسوأ مناهج التّعليم الشّرعي على الإطلاق رغم أنّها الأشد احتياجًا لها، مناهج العقيدة، فهي بدل أن ترسّخ الإيمان في نفوس الشباب تدخلهم في متاهاتٍ من التعقيدات تزيدهم تشويشًا وإرباكًا.
إنّ غالب كتب العقيدة المدرسيّة والأكاديميّة اليوم لا تُقنع عقلًا ولا تروي قلبًا ولا تُرسّخُ إيمانًا ولا تجيب عن كثيرٍ من التّساؤلات.
وكثيرٌ من هذه الكتب المُغرقةِ في التعقيد ألّفت في زمن كانت فيه الشّبهات المُثارَة تستلزم هذا النّوع من الرّدود على مستوى معين من العلماء، فما كان ممن جاء بعدهم إلّا أن أخذ هذه الكتب وهذّبها وأنزلها لتكون منهاجًا لواقع لا تشبهه ولا يشبهها.
إنَّ دراسة العقيدة على أنّها مجرّد قوانين عقليّة منطقيّة للردّ على المناطقة الآخرين يخدم المشتغلين في قضايا المناظرة والمحاججة، لكنّه لا يخدم الأجيال المسلمة في غرس الإيمان في نفوسهم كما غرسَها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في نفوس أصحابه فغيّروا وجه الدّنيا.
إنّ الإيمان الذي زرعه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بلا تعقيدات في الخطاب والطّرح أثمر رجالًا كانوا يعبدون الأصنام فلمّا خالط الإيمان بشاشة قلوبهم واجهوا المحن قاطبة بثبات عجيب، بينما كتب العقيدة اليوم التي يدرسها أطفالٌ وشباب مسلمين لا تثمر هذا الرّسوخ ولا هذا الثبات ولا هذه القلوب.
فضلًا عن أن كتب العقيدة اليوم غدت ساحةً لمعارك بين المذاهب العقديّة، فيتمّ إشغال الطلاب والدّعاة بها عن أصل المسألة وهي الإيمان بالله تعالى إيمانًا لا ريبَ فيه ولا تقليد في الوصول إليه.
وعندما تُذكر كلمة العقيدة اليوم فأول ما يتبادر إلى أذهان الكثيرين هو المعارك المشتعلة في القضايا الفرعيّة بين المذاهب الاعتقادية، وهذا إخراجٌ تام لكتب العقيدة ومناهجها عن أصل الغاية الموضوعة لها.
فالمطلوب اليوم هو ثورةٌ حقيقيّة وليس مجرّد تجديدٍ شكلي في مناهج العقيدة والخطاب الدّعويّ المتعلّق بالعقيدة بحيث يتمّ وضع مناهج قادرة على ترسيخ الإيمان في نفوس الأطفال والشّباب عقلًا وقلبًا، قناعةً وعاطفة.
وتكون مواكبة لأسئلة الشّباب عن قضايا الإيمان في المجالات كلّها المتعلّقة بالإله والنبوّات وغير ذلك، وتجيب عنها بطريقة غير نمطية ولا تقليديّة تقوم على الحوار لا التلقين.
وهذا هو الأسلوب الأمثل لمواجهة الانتكاسات التي تجتاح الشباب فتودي بهم في وادٍ سحيق من الإلحاد التي يأتي تعبيرًا عن هشاشةٍ بنائيّة من أجلى صورها غياب البناء الإيماني الذي كان مأمولًا في مناهج العقيدة.
خطاب الكبت والحرمان:
“إنّما العلمُ عندنا الرُّخصة من ثقة، فأمّا التّشديدُ فيحسنُه كلُّ أحد”، هكذا عبّر سفيان الثّوري رحمه الله تعالى عن مشكلةٍ قديمة تعصف بالخطاب الإسلامي، لكنّ آثارها بدت بشكل جليّ في الشّباب في مرحلة ما بعد ثورة المعلومات والانفتاح المطلق على الآخر.
هذه المشكلة تتمثّل في التّشديد وإغلاق المنافذ، وإعلاء خطاب الحظر وكأنّه الأصل، واستحضار التّحريم وكأنّه القاعدة، وإغفال البدائل عند سدّ الأبواب.
بينما الأصل هو الحلّ والإباحة، والتحريم استثناء من القاعدة، وكلّ ما حرم فإنَّ له بديلًا بل بدائل من المباحات.
لقد واجه الشّباب خطابًا دعويًّا يشيطنُ اللذة، ويقبّح الشّهوة، ويتحدّث باشمئزاز عن الحاجات الغريزيّة التي أودعها الله في الإنسان السويّ، وخطابًا يسفّه المرح، ويسم بالطّيش البحثَ عن مناسبات الترويح عن النّفس والقلب. خطابًا يغلق الأبواب أمام المتعة بكل أنواعها جسديّة وقلبيّة وروحيّة، ويضع لتطبيقها طقوسًا ما عاد يستسيغها كثير من الشّباب.
إنّ إغلاق أبواب المتعة واللذة بأشكالها المختلفة، دون تقديم بدائل مقنعة أباحها الإسلام سيجعل الشباب يتعاملون مع الشريعة على أنّها شريعة الكبت والقمع، وسيبحثون بعيدًا عنها عمّا يرضي أنفسهم ورغباتهم في محاولة لإشباع اللذات.
عندها سيعمد عدد منهم إلى إنكار الدّين حتّى لا يعيش حالة الانفصام بين سلوكه والفكرة التي يحملها، وليتخلص من الشعور المتكرر بذنبٍ لا يطاق في ظلّ دينٍ لا يحقق له الغايات!
إنّ الخطاب الدّعوي غير المواكب لاحتياجات الإنسان المتعلّقة باللذة والمتعة، والمسلط سيف التحريم في وجه كل من يبحث عن إشباع رغائبه، يتحمّل مسؤوليّة كبيرةً في طرق الشباب لأبواب جديدة بحثًا عن ذلك، كما يتحمّل مسؤوليّة كسر الباب الذي أغلقه دون الإرشاد إلى أبواب مفتوحة، أو تقديم مفاتيح للأبواب المغلقة.
العلم يُؤتى ولا يأتي:
من النّكسات التي أصابت العمل للإسلام عند كثيرٍ من العلماء والدّعاة، الانعزال عن النّاس والتقوقع على الذّات داخل المسجد تحت عنوان وجوب تقدير العلم والرّفع من شأنه لأنّ “العلم يؤتى ولا يأتي”!!
وهذه العبارة التي تعودُ إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه انتزعت من سياقها وصار التّعامل معها بنقيض ما جاءت به من سياق ومناسبة.
فقد روي عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: “دخلتُ على هارون الرشيد، فقال لي: يا أبا عبدالله ينبغي أن تختلف إلينا، حتى يسمع صبيانُنا منك الموطأ، قال: أعزّ الله أمير المؤمنين، إنّ العلم منكم خرج، فإن أعززتموه عزّ، وإن ذللتموه ذلّ، والعلمُ يؤتى ولا يأتي، فقال: صدقت، أُخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس”.
وفي هذه الحادثة التي ساقها ابن كثير في البداية والنّهاية ما يدلّ على اختلاف السّياق الذي قيلت فيه عن السّياق الذي تستخدم فيه في أيامنا هذه.
فقد قالها الإمام مالك معترضًا على طلب الخليفة أن يأتي إلى قصره ليعلّم أبناءه في درس خاص، فرأى الإمام بأنّ هذا مشهد من مشاهد إهانة العلم لا ينبغي القبول به وتمريره.
بل في السّياق ما يدلّ على أنّ العلم يأتي إلى النّاس حيث أصرّ الإمام مالك أن يكون العلم في المسجد في ذلك الزّمان الذي كان المسجد فيه قبلة النّاس وموطن استراحتهم.
والعلم والدّعوة إلى الله تعالى علاجٌ لأمراض النّاس الإيمانيّة والفكريّة والسلوكيّة، ويفترض بالدّاعية أن يكون هو الطبيب المداوي.
وقد عرّج على ذلك الأستاذ مصطفى السّباعي رحمه الله تعالى حيث يبين في بعض كتبه بأنّ النّاس مرضى والنّاس أطباؤهم، فمن خفّ مرضهم فهم الذين يذهبون إلى الطّبيب في عيادته وهؤلاء هم الذين يقصدون الدّعاة في المساجد.
أمّا من اشتدّ مرضهم فعلى الطبيب أن يهرع إليهم وهؤلاء هم الذين عصفت بهم الشّبهات والأمراض التي حالت بينهم وبين المساجد فوجب على الدّعاة أن ينطلقوا إليهم.
وقد بيّن العلّامة البشير الإبراهيمي في كلامٍ نفيسٍ أثر هذا التقوقع والانعزال عن النّاس ـ ـ استنادًا إلى هذه القاعدة ـ على تفشّي أمراض الفكر والعقيدة حيث يقول:
”إنّ علماء القرون المتأخرة ركبتهم عادةٌ من الزهو الكاذب والدعوى الفارغة، فجرّتهم إلى آداب خصوصية، منها أنّهم يلزمون بيوتهم أو مساجدهم كما يلزم التّاجر متجره، وينتظرون أن يأتيهم الناس فيعلّموهم، فإذا لم يأتهم أحد تسخّطوا على الزّمان وعلى النّاس، ويتوكّؤون في ذلك على كلمة إن صدقت في زمانٍ فإنّها لا تصدق في كلّ زمان وهي: “إنّ العلم يؤتى ولا يأتي”..
وإنّما تصدق هذه الكلمة في علمٍ غير علم الدّين، وإنّما تصدق بالنّسبة إليه في جيلٍ عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أمّا في زمننا وما قبله بقرون فإن التّعليم والإرشاد والتذكير أصبح بابًا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنّما يكون في الميادين حيث يلتقي العدوّ بالعدوّ كفاحًا.
وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد، وأعتب عليه تقصيره فيه: إنّ هذه الكلمة قالها مالك للرشيد، فقلت له: إنّ هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم.
أمّا زمانك هذا، فإنّ هذه الخلّة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدّت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك.
فالشّبهات التي ترِدُ على العوام لا تجد من يطردها عن عقولهم ما دام القسيسون والأحبار أقربَ إليهم منكم، وأكثر اختلاطًا بهم منكم، والأقاليم الإفرنجية تغزو كل يوم أبنائي وأبناءك بفتنة لا يبقى معها إيمان ولا إصلاح.
ففي هذا الزمن يجب عليّ وعليك وعلى أفراد هذا الصّنف أن نتَجَنَّد لدفع العوادي عن الإسلام والمسلمين، حتى يأتينا الناس، فإنهم لا يأتوننا وقد انصرفوا عنّا وليسوا براجعين.
وإذا كان المرابطون في الثّغور يقفون أنفسهم لصدّ الجنود العدوّة المغيرة على الأوطان الإسلامية، فإنّ وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا أنفسهم لصدّ المعاني العدوّة المغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفتك من الجنود، لأنها خفيّة المَسَارِب، غرّارة الظّواهر، سهلة المداخل إلى النفوس، تأتي في صورة الضّيف فلا تلبث أن تطرد ربّ الدار” ا.هـ
لقد قال العلّامة الإبراهيمي رحمه الله في هذا الكلام قبل عشرات السّنوات، لكنّه يصدق على واقعنا اليوم بصورة ربّما تفوق صدقه على الواقع الذي قيل فيه، فإنّ المعركة شرسة والجنود عاكفون في ثكناتهم لأنّ “العلم يؤتى ولا يأتي”
والغريب أنّ الدّعاة والعلماء المنزوون في المساجد لا يكفّون عن تذكيرِنا بأنّ الإمام البنّا كان داعية في المقاهي لا المساجد، وأنّه كان يجوب المدن والبلدات يعيش مع النّاس كلّ النّاس.
ولا يكفّون في دروسهم المسجديّة عن استحضار صورة المحدّث الأكبر بدر الدّين الحسني في دمشق وهو يقصد مع بداية رمضان دور الدّعارة ليكلّم البغايا مذكّرًا إيّاهنّ بالله تعالى بكلّ تلطّفٍ ومقدّمًا لهنّ ما يكفيهنّ من المال في شهر رمضان لينصرفن عما هن فيه.
وكذلك لا تكاد تجدُ أحدًا منهم إلّا ويحدّثك عن قصّة ذلك العالم الدّاعية الذي قصد الملهى اللّيلي وصعد المسرح ليخاطبَ جمهورًا لا يأتيه إلى المسجد، والتي صاغها الشّيخ علي الطّنطاوي رحمه الله تعالى في مقالةٍ بديعةٌ تحت عنوان “شيخٌ في المرقص”.
إنّ الشباب اليوم بعد الأزمات التي عصفت بهم وتفرّقوا في بلاد شتّى يحتاجون إلى علماء ودعاة يصلون إليهم، ويعيشون معهم سواءً في الواقع الحقيقي أو الواقع الافتراضي.
وهذا يحتاج إلى مراجعات حقيقيّة من مؤسسات العلماء وأفرادهم لمدى انخراط العلماء والدّعاة في صفوف الشّباب، وحقيقة الوصول إليهم في الواقع والعالم الافتراضي على حدٍ سواء ووضع الخطط والبرامج الحقيقيّة لتحقيق الوصول الفعّال والتّواصل المؤثّر.
هشاشةُ وتكلُّس الخطاب:
وضعَ أحمد رأسه بين كفيه وخاطبني وهو ينظرُ إلى الأسفل ودمعه يتقاطر بهدوء على أرض الغرفة، كان ينشجُ بانكسارٍ وهو يقول لي: “لقد حدّثونا عن الغرب على أنّه بلد الكفر والانحلال والفساد والجريمة والكذب، كنت أكره الغرب وأخاف كثيرًا من تخيّل الذّهاب إلى هناك.
بعد الثّورة اضطررت للهجرة فصدمت، نعم هناك فساد أخلاقيّ لم أعهده في المجتمع المحيط بي من قبل، لكنّني وجدت نفسي، وجدتُ الكرامة وتنفّست الحريّة، رأيت أناسًا بسطاء مثلنا ولا يكرهوننا كما قال لنا المشايخ.
بل اكتشفت أن هؤلاء المشايخ هم من وضعوا أحذية الطّغاة على رقابنا، ومن يومها كفرتُ بالمشايخ وبالدّين كلّه!!”
كم كانَ هشًّا ذلكَ الخطاب الذي شعر الشّباب بتناقضه فور انعتاقهم من قيود المكان ليعاينوا بأنفسهم واقعًا حديدًا مختلفًا!
كم كان هشًّا ذلك الخطاب الذي لم يكن يحمل في طيّاته عوامل التّحصين والقدرة على المواجهة لمستجدّات الواقع ومحدثات الوقائع!
وكم يظهر جليًّا صدق مقولة الشّيخ محمد الغزالي رحمه الله “الإسلام قضيّةٌ ناجحة لكنّ محاميها فاشل” ونحن نتابعُ آثار خطابٍ كان يقدّم الإسلام منفصلًا عن الواقع والمحيط ويتعامل مع المتلقّين كما لو كانوا أطفال مرحلة ابتدائيّة لا يستطيعون إدراك ومعرفة ما وراء سور المدرسة.
وعندما جاءت الثّورات فكشفت عن هشاشة هذا الخطاب كان المأمول أن يسارع الدّعاة والعلماء إلى تغييرٍ تجديديّ حقيقيّ في خطابهم لمعالجة الأسئلة التي فجّرتها الأزمات.
غير أنّ الكثيرين جمعوا إلى جانب الهشاشة في الطّرح تكلّسًا غير معقول في الإبقاء على خطاب ما قبل الثّورات والتعامل مع الأسئلة الجديدة بنمطيّة وتكرارٍ للأسلوب القديم ذاته.
فلا تجديد في الخطاب ولا ابتكار في الأساليب ولا معالجة جديدة للأسئلة، ومحاولة تعويض ذلك بالانخراط في العمل السياسي والاستغراق في العمل الإغاثي، لتكون النتيجة المأساويّة أنّ كثيرًا منهم أصابهم ما أصاب الغراب حين أراد أن يمشي مشية الطّاووس فلا هو عرف مشية الطّاووس ونسي مشية الغراب.
ومع يقيني بأنَّ كثيرًا من هؤلاء العلماء والدّعاة يملكون الحرقة على ما آلت إليه الحال وهم يعاينون الهوّة الكبيرة التي حدثت بينهم وبين الشباب، لكنّ الحرقة وحدها لا تكفي والصّدق لا قيمة له إن لم يثمر تغييرًا في السّلوك التّعاملي مع الأدواء المستجدّة.
كما أنّني موقن أنَّ منهم من يريد أن يغيّر في خطابه لكنّه لا يستطيع كسر القالب الذي عاش فيه سنواتٍ طوالًا، ولا تكمن المشكلة الحقيقيّة في عدم القدرة وعدم الاستطاعة بل في عدم الاعتراف بذلك وإلقاء اللّوم على المريض وتبرئة الطبيب الذي لم يستطع التّعامل مع مرضه.
إنّ المطلوب اليوم يتمثّل بكلّ وضوح في إحداث ثورةٍ حقيقيّة في كل من المناهج التعليمية للمواد الشرعية في كلّ المستويات لتكون قادرة على البناء الذي يحصّن الشباب أمام كلّ معطيات الواقع الجديد، وكذلك لتكون قادرة على معالجة ما يقع من أدواء وأمراض أنتجتها الأزمات المتفجّرة والتي تجلّت في إلحاد ما بعد الثّورات بأنواعه المختلفة.
كما أنّ المطلوب إلى جانب ذلك إحداثُ ثورة حقيقيّة في الخطاب الديني والسّلوك الدّعوي تنتج وصولًا إلى مختلف الشّرائح وتعاملًا فعّالًا مع الوسائل المؤثّرة في عصر مواقع التّواصل الاجتماعي..
وتأهيلا مستمرًّا لمجموعات شبابيّة قادرة على الوصول إلى الشّباب والتّعامل مع أسئلتهم المتجدّدة بطريقة واعية راسخة توصل إلى الطمأنينة المنشودة في زمن القلق الأعظم.
(المصدر: موقع “على بصيرة” نقلاً عن الجزيرة)